الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: حُكمُ تَوبةِ الزِّنديقِ في الظَّاهرِ


اختَلَف الفُقَهاءُ في قَبولِ تَوبةِ الزِّنديقِ في الظَّاهرِ [2043] قال ابنُ قُدامةَ: (الخِلافُ بَينَ الأئِمَّةِ في قَبولِ تَوبَتِهم في الظَّاهرِ مِن أحكامِ الدُّنيا؛ مِن تَركِ قَتلِهم، وثُبوتِ أحكامِ الإسلامِ في حَقِّهم، وأمَّا قَبولُ اللهِ تعالى لَها في الباطِنِ وغُفرانُه لمَن تابَ وأقلَعَ ظاهرًا أم باطِنًا، فلا خِلافَ فيه؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قال في المُنافِقينَ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 146]) ((المغني)) (9/ 8). ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا تُقبَلُ تَوبةُ الزِّنديقِ في الظَّاهرِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ [2044] قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَكِنَّ هؤلاء التَبَسَ أمرُهم على مَن لم يَعرِفْ حالَهم، كَما التَبَسَ أمرُ القَرامِطةِ الباطِنيَّةِ لمَّا ادَّعَوا أنَّهم فاطِميُّونَ وانتَسَبوا إلى التَّشَيُّعِ، فصارَ المُتَّبِعونَ مائِلينَ إليهم غَيرَ عالِمينَ بباطِنِ كُفرِهم؛ ولِهذا كان مَن مالَ إليهم أحَدَ رَجُلَينِ: إمَّا زِنديقًا مُنافِقًا، وإمَّا جاهلًا ضالًّا. وهَكَذا هؤلاء الاتِّحاديَّةُ؛ فرُؤوسُهم هم أئِمَّةُ كُفرٍ يَجِبُ قَتلُهم ولا تُقبَلُ تَوبةُ أحَدٍ مِنهم إذا أُخِذَ قَبلَ التَّوبةِ؛ فإنَّه مِن أعظَمِ الزَّنادِقةِ الذينَ يُظهرونَ الإسلامَ ويُبطِنونَ أعظَمَ الكُفرِ). ((مجموع الفتاوى)) (2/131-132). وقال ابنُ القَيِّمِ: (فإنَّ الزِّنديقَ قد عُلِمَ أنَّه لم يَزَلْ مُظهِرًا للإسلامِ، فلم يَتَجَدَّدْ له بإسلامِه الثَّاني حالٌ مُخالِفةٌ لِما كان عليه، بخِلافِ الكافِرِ الأصليِّ؛ فإنَّه إذا أسلَمَ فقد تجَدَّد له بالإسلامِ حالٌ لم يَكُنْ عليها، والزِّنديقُ إنَّما رَجَعَ إلى إظهارِ الإسلامِ، وأيضًا فالكافِرُ كان مُعلِنًا لكُفرِه غَيرَ مُستَتِرٍ به ولا مُخفٍ له، فإذا أسلَمَ تَيَقَّنَّا أنَّه أتى بالإسلامِ رَغبةً فيه لا خَوفًا مِنَ القَتلِ، والزِّنديقُ بالعَكسِ؛ فإنَّه كان مُخفيًا لكُفرِه مُستَتِرًا به، فلم نُؤاخِذْه بما في قَلبِه إذا لم يَظهَرْ عليه، فإذا ظَهَرَ على لسانِه وآخَذناه به فإذا رَجَعَ عنه لم يَرجِعْ عن أمرٍ كان مُظهِرًا له غَيرَ خائِفٍ مِن إظهارِه، وإنَّما رَجَعَ خَوفًا مِنَ القَتلِ، وأيضًا فإنَّ اللَّهَ تعالى سَنَّ في عِبادِه أنَّهم إذا رَأوا بأسَه لم يَنفَعْهمُ الإسلامُ، وهذا إنَّما أسلَم عِندَ مُعايَنةِ البَأسِ؛ ولِهذا لَو جاءَ مِن تِلقاءِ نَفسِه وأقَرَّ بأنَّه قال كَذا وكَذا وهو تائِبٌ مِنه، قَبِلنا تَوبَتَه ولم نَقتُلْه. وأيضًا فإنَّ اللَّهَ تعالى سَنَّ في المُحارِبينَ أنَّهم إن تابوا مِن قَبلِ القُدرةِ عليهم قُبِلَت تَوبَتُهم، ولا تَنفعُهمُ التَّوبةُ بَعدَ القُدرةِ عليهم، ومُحارَبةُ الزِّنديقِ للإسلامِ بلِسانِه أعظَمُ مِن مُحارَبةِ قاطِعِ الطَّريقِ بيَدِه وسِنانِه؛ فإنَّ فِتنةَ هذا في الأموالِ والأبدانِ، وفِتنةَ الزِّنديقِ في القُلوبِ والإيمانِ، فهو أولى ألَّا تُقبَلَ تَوبَتُه بَعدَ القُدرةِ عليه، وهذا بخِلافِ الكافِرِ الأصليِّ). ((إعلام الموقعين)) (3/ 105). : الحَنَفيَّةِ- في ظاهرِ المَذهَبِ- [2045] يَرى الحَنَفيَّةُ أنَّ الزِّنديقَ الذي لا تُقبَلُ تَوبَتُه في الظَّاهرِ هو الذي أبطَنَ كُفرَه فلم يَتُبْ حتَّى أُخِذَ، أمَّا المُظهِرُ للكُفرِ فتُقبَلُ تَوبَتُه كَبَقيَّةِ الكُفَّارِ المُظهرينَ لكُفرِهم إذا أظهَروا التَّوبةَ. ((البحر الرائق)) لابنِ نَجيم (5/136)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/62، 199، 232). ، والمالِكيَّةِ [2046] يَرى المالِكيَّةُ أنَّه تُقبَلُ تَوبةُ الزِّنديقِ إن تابَ قَبلَ الاطِّلاعِ عليه. ((الشرح الكبير)) للدردير (4/306)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 218). ، والحَنابِلةِ -على المَشهورِ- [2047] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/178)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 332). ، ووجهٌ للشَّافِعيَّةِ [2048] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/78)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 140). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
1- قَولُه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 160].
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ دَليلٌ أنَّ الإصلاحَ شَرطٌ، والزِّنديقُ لا يُطَّلَعُ على إصلاحِه؛ لأنَّ الفسادَ إنَّما أتى مِمَّا أسَرَّه، فإذا اطُّلِعَ عليه وأظهَرَ الإقلاعَ لم يَزَلْ في الباطِنِ على ما كان عليه [2049] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/239)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (7/ 229). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60-61] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ بَيانُ أنَّ الشَّأنَ فيهم أن يُقَتَّلوا تَقتيلًا حَيثُ وُجِدوا، ولَم يُذكَرِ استِتابةٌ، فمَن لم يَنتَهِ عَمَّا كان عليه المُنافِقونَ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُتِل حَيثُ وُجِدَ [2050] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/155).  .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن ابنِ مُعَيزٍ السَّعديِّ، قال: (خَرَجتُ أسقي فرَسًا لي في السَّحَرِ، فمَرَرتُ بمَسجِدِ بَني حَنيفةَ وهم يَقولونَ: إنَّ مُسَيلِمةَ رَسولُ اللهِ، فأتَيتُ عَبدَ اللَّهِ فأخبَرتُه، فبَعَثَ الشُّرطةَ فجاؤوا بهم، فاستَتابَهم، فتابوا فخَلَّى سَبيلَهم، وضَرَبَ عُنُقَ عَبدِ اللَّهِ بنِ النَّوَّاحةِ، فقالوا: آخَذتَ قَومًا في أمرٍ واحِدٍ، فقَتَلتَ بَعضَهم وتَرَكتَ بَعضَهم! قال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَدِمَ عليه هذا وابنُ أُثالِ بنِ حَجْرٍ، فقال: أتَشهَدانِ أنِّي رَسولُ اللهِ؟ فقالا: نَشهَدُ أنَّ مُسَيلِمةَ رَسولُ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: آمَنتُ باللهِ ورُسُلِه، لَو كُنتُ قاتِلًا وَفدًا لقَتَلتُكُما؛ فلِذلك قَتَلتُهـ) [2051] أخرجه أحمد (3837) واللفظ له، والدارمي (2545)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (2861). صَحَّحه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3837)، وحَسَّن إسنادَه ابن تيمية في ((الصارم المسلول)) (3/607)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/321). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ابنَ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ تعالى عنه قد قَتَلَ ابنَ النَّوَّاحةِ، ولَم يَقبَلْ تَوبَتَه؛ إذ عَلِمَ أنَّ هَكَذا خُلُقَه، يُظهِرُ التَّوبةَ إذا ظُفِرَ به، ثُمَّ يَعودُ إلى ما كان عليه إذا خُلِّي [2052] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (3/ 212). .
ثالِثًا: أنَّ الزِّنديقَ طَبعُه دائِمًا إبطانُ الكُفرِ وإظهارُ الإسلامِ، فلَو قُبِلَت تَوبَتُه لَكان تَسليطًا لَه على بَقاءِ نَفسِه بالزَّندَقةِ والإلحادِ، وكُلَّما قُدِرَ عليه أظهَرَ الإسلامَ وعادَ إلى ما كان عليه، ولا سيَّما وقد عَلِمَ أنَّه أمِنَ بإظهارِ الإسلامِ مِنَ القَتلِ، فلا يَزَعُه خَوفُه مِنَ المُجاهَرةِ بالزَّندَقةِ والطَّعنِ في الدِّينِ ومَسَبَّةِ اللَّهِ ورَسولِه، فلا يَنكَفُّ عُدوانُه عنِ الإسلامِ إلَّا بقَتلِه [2053] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 105)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 177). .
رابعًا: أنَّ اللَّهَ سَنَّ في المُحارِبينَ أنَّهم إن تابوا مِن قَبلِ القُدرةِ عليهم قُبِلَت تَوبَتُهم، ولا تَنفعُهمُ التَّوبةُ بَعدَ القُدرةِ عليهم، ومُحارَبةُ الزِّنديقِ للإسلامِ بلِسانِه أعظَمُ مِن مُحارَبةِ قاطِعِ الطَّريقِ بيَدِه وسِنانِه؛ فإنَّ فِتنةَ هذا في الأموالِ والأبدانِ، وفِتنةَ الزِّنديقِ في القُلوبِ والإيمانِ، فهو أَولى ألَّا تُقبَلَ تَوبَتُه بَعدَ القُدرةِ عليه [2054] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 105). .
خامِسًا: أنَّ في قَبولِ تَوبَتِه خَطَرًا؛ لأنَّه لا سَبيلَ إلى الثِّقةِ به، ولأنَّ إبقاءَه يُؤَدِّي إلى السُّلطةِ في الباطِنِ على إفسادِ عَقائِدِ المُسلِمينَ، وفيه ضَرَرٌ عَظيمٌ [2055] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 105)، ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/178). .
سادِسًا: أنَّه قد يُقالُ: كَيف تَأتي الشَّريعةُ بقَتلِ مَن صالَ على عَشَرةِ دَراهمَ لذِمِّيٍّ أو على بَدَنِه ولا تَقبَلُ تَوبَتَه، ولا تَأتي بقَتلِ مَن دَأبُه الصَّولُ على كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه والطَّعنُ في دينِه، وتَقبَلُ تَوبَتَه بَعدَ القُدرةِ عليه؟ [2056] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 105). .
سابِعًا: أنَّ الحُدودَ بحَسَبِ الجَرائِمِ والمَفاسِدِ، وجَريمةُ الزِّنديقِ أغلَظُ الجَرائِم، ومَفسَدةُ بَقائِه بَينَ أظهُرِ المُسلِمينَ مِن أعظَمِ المَفاسِدِ [2057] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/ 105). .
القَولُ الثَّاني: تُقبَلُ تَوبةُ الزِّنديقِ في الظَّاهرِ، ويُمنَعُ قَتلُه، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ -على الصَّحيحِ- [2058] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/78)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/ 140). ، ورِوايةٌ للحَنَفيَّةِ [2059] ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (6/68). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ [2060] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/178)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 332). ، وحُكيَ عن أكثَرِ العُلَماءِ [2061] قال الخَطَّابيُّ: (الكافِرُ المُستَسِرُّ بكُفرِه لا يُتَعَرَّضُ له إذا كان ظاهِرُه الإسلامَ، ويُقبَلُ تَوبَتُه إذا أظهَرَ الإنابةَ مِن كُفرٍ عُلِم بإقرارِه أنَّه كان يَستَسِرُّ به، وهو قَولُ أكثَرِ العُلَماءِ). ((معالم السنن)) (2/ 11). وقال العِراقيُّ: (فيه حُجَّةٌ للشَّافِعيِّ والجُمهورِ على أنَّ مَن أظهَرَ الإسلامَ وأسَرَّ الكُفرَ، يُقبَلُ إسلامُه في الظَّاهرِ). ((طرح التثريب)) (7/ 181). ، واختارَه ابنُ المُنذِرِ [2062] قال ابنُ المُنذِرِ: (كَما قال الشَّافِعيُّ أقولُ؛ للحُجَجِ التي احتَجَّ بها). ((الأوسط)) (13/498). ، والشَّوكانيُّ [2063] قال الشَّوكانيُّ: (وأمَّا الزِّنديقُ فهو الذي يُظهِرُ الإسلامَ ويُبطِنُ الكُفرَ، ويَعتَقِدُ بُطلانَ الشَّرائِعِ، فهذا كافِرٌ باللهِ وبِدينِه، مُرتَدٌّ عنِ الإسلامِ أقبَحَ رِدَّةٍ إذا ظَهَرَ مِنه ذلك بقَولٍ أو بفِعلٍ، وقدِ اختَلَف أهلُ العِلمِ: هَل تُقبَلُ تَوبَتُه أم لا؟ والحَقُّ قَبولُ التَّوبةِ). ((الدراري المضية)) (2/ 407). ، والشِّنقيطيُّ [2064] قال الشِّنقيطيُّ: (... الذي يَظهَرُ أنَّ أدِلَّةَ القائِلينَ بقَبولِ تَوبَتِه مُطلَقًا أظهَرُ وأقوى). ((دفع إيهام الإضطراب)) (ص: 49). ، وابنُ عُثَيمين [2065] قال ابنُ عُثَيمين: (وهناكَ مَسألةٌ رابِعةٌ، وهيَ المُنافِقُ، وهو الزِّنديقُ الذي يُظهِرُ الإسلامَ ويُبطِنُ الكُفرَ، يَقولُ الفُقَهاءُ رَحِمَهمُ اللهُ: إنَّه لا تُقبَلُ تَوبَتُه. قال السَّفَّارينيُّ في عَقيدَتِه: لأنَّه لم يَبدُ مِن إيمانِه إلَّا الذي أذاعَ مِن لسانِه، وحينَئِذٍ لا نَعلَمُ أنَّه صادِقٌ في قَولِه: إنَّه تابَ، فقد يَكونُ هذا نِفاقًا كَما كان أوَّلًا، ولَكِنَّ الصَّحيحَ أيضًا أنَّنا إذا عَلِمنا صِدقَ تَوبةِ المُنافِقِ فإنَّنا نَقبَلُ تَوبَتَه، والقُرآنُ يَدُلُّ على ذلك، قال اللهُ تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 145، 146]؛ ولِهذا يَجِبُ علينا في تَوبةِ المُنافِقِ أن نَنتَبِهَ ونَتَحَرَّى بدِقَّةٍ، ونَنظُرَ العَمَلَ الحَقيقيَّ الذي يَدُلُّ على أنَّه تابَ). ((الشرح الممتع)) (14/ 461). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكتابِ
1- قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 38].
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ صَريحةٌ بأنَّ تَوبةَ الكافِرِ توجِبُ مَغفِرةَ ما سَلَف مِنَ الذُّنوبِ، والمُنافِقُ كافِرٌ، فيَدخُلُ في عُمومِ الآيةِ [2066] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (16/313). .
2- قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 145-146] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى نَصَّ على أنَّ مَن أخلَصَ التَّوبةَ مِنَ المُنافِقينَ تابَ اللَّهُ عليه [2067] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/340). .
3- قال تعالى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة: 56] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ صَريحةٌ بأنَّ هَؤُلاءِ مُنافِقونَ يَحلِفونَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بابِ التَّقيَّةِ، ومَعَ ذلك كَفَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أظهَروه مِنَ الشَّهادةِ، ولَم يُقاتِلْهم [2068] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/340). .
4- قَولُه تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون: 2] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ دَليلٌ على أنَّ إظهارَ الإيمانِ يُحَصِّنُ مِنَ القَتلِ [2069] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/340)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (7/ 229). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عُمَرَ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشهَدوا أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَموا مِنِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ)) [2070] أخرجه البخاري (25) واللفظ له، ومسلم (22). .
 وَجهُ الدَّلالةِ:
بَيَّنَ الحَديثُ أنَّ هناكَ مَن يَقولُ كَلِمةَ الإسلامِ غَيرَ مُخلِصٍ بها، وحِسابُه على اللهِ، فدَلَّ ذلك على أنَّ الكافِرَ المُستَسِرَّ بكُفرِه لا يُتَعَرَّضُ لَه إذا كان ظاهِرُه الإسلامَ، وتُقبَلُ تَوبَتُه إذا أظهَرَ الإنابةَ مِن كُفرٍ عُلِمَ بإقرارِه أنَّه كان يَستَسِرُّ به [2071] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/157)، ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 11). .
2- عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بَعَثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَريَّةٍ، فصَبَّحْنا الحُرَقاتِ مِن جُهَينةَ، فأدرَكتُ رَجُلًا فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فطَعنتُه، فوقَعَ في نَفسي مِن ذلك، فذَكَرتُه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وقَتَلتَه؟ قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّما قالها خَوفًا مِنَ السِّلاحِ، قال: أفلا شَقَقتَ عن قَلبِه حتَّى تَعلمَ أقالها أم لا؟)) [2072] أخرجه البخاري (4269) بنحوه، ومسلم (96) واللفظ له. .
3- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كُنَّا في غَزاةٍ -قال سُفيانُ: مَرَّةً في جَيشٍ- فكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرينَ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ، فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ، وقال المُهاجِريُّ: يا لَلمُهاجِرينَ، فسَمِعَ ذلك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما بالُ دَعوى الجاهليَّةِ؟! قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرينَ رَجُلًا مِنَ الأنصارِ، فقال: دَعوها؛ فإنَّها مُنتِنةٌ! فسَمِعَ بذلك عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ، فقال: فعَلوها، أما واللهِ لئِن رَجَعنا إلى المَدينةِ ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ، فبَلغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقامَ عُمَرُ فقال: يا رَسولَ اللهِ: دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْه، لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقتُلُ أصحابَه! وكانتِ الأنصارُ أكثَرَ مِنَ المُهاجِرينَ حينَ قدِموا المَدينةَ، ثُمَّ إنَّ المُهاجِرينَ كَثُروا بَعدُ)) [2073] أخرجه البخاري (4905) واللفظ له، ومسلم (2506). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَعلَمُ المُنافِقينَ في عَهدِه، ومَعَ ذلك فلَم يَقتُلْ واحِدًا مِنهم [2074] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (12/ 151)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/156). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
1- عن قابوسَ بنِ مُخارِقِ بنِ سليمٍ، عن أبيه: (أنَّ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ كَتَبَ إلى عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ يَسألُه عن ثَلاثِ خِصالٍ: عن مُكاتَبٍ ماتَ وتَرَكَ مالًا وولَدًا، وقد بَقيَ عليه شَيءٌ مِن مُكاتَبَتِه، وعن زَنادِقةٍ مُسلِمينَ، وزَنادِقةٍ نَصارى، وعن مُسلِمٍ زَنى بنَصرانيَّةٍ. فكَتَبَ إليه عليٌّ: أمَّا المُكاتَبةُ فتُكمَلُ مِمَّا تَرَكَ، ويَصيرُ ما بَقيَ ميراثًا لولَدِه. وأمَّا زَنادِقةُ المُسلِمينَ فتَعرِضُ عليه الإسلامَ، فإن أسلَموا وإلَّا قُتِلوا. وأمَّا زَنادِقةُ النَّصارى فيُترَكونَ وأهلَ دينِهم. وأمَّا المُسلِمُ الذي زَنى بنَصرانيَّةٍ فيُقامُ عليه الحَدُّ، وأمَّا النَّصرانيَّةُ فتُترَكُ وأهلَ دينِها) [2075] أخرجه ابن أبي شيبة (21928) مختصرًا، وابن المنذر في ((الأوسط)) (9661) واللفظ له. .
2- عن ظَبيانَ بنِ عُمارةَ: (أنَّ رَجُلًا مِن بَني سَعدٍ مَرَّ على مَسجِدِ بَني حَنيفةَ، فإذا هم يَقرَؤونَ برَجَزِ مُسَيلِمةَ، فرَجَعَ إلى ابنِ مَسعودٍ، فذَكَر ذلك لَه، فبَعَثَ إليهم، فأُتِيَ بهم فاستَتابَهم فتابوا، فخَلَّى سَبيلَهم، إلَّا رَجُلًا مِنهم يُقالُ لَه ابنُ النَّوَّاحةِ. قال: قد أتيتُ بك مَرَّةً، فزَعَمتَ أنَّك قد تُبتَ، وأُراك قد عُدتَ، فقَتَلَهـ) [2076] أخرجه الأثرم كما في ((المغني)) لابن قدامة (9/7). .
وَجهُ الدَّلالةِ:     
أنَّ ابنَ مَسعودٍ قَبِلَ تَوبَتَهم، وإنَّما قَتَل ابنَ النَّوَّاحةِ لتَكَرُّرِ ذلك مِنه [2077] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 7-8 ).  .
رابِعًا: أنَّ العُلَماءَ قد أجمَعوا على أنَّ أحكامَ الدُّنيا على الظَّاهرِ، وأنَّ السَّرائِرَ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ [2078] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (10/157).  .

انظر أيضا: