الموسوعة العقدية

المبحثُ الثَّالِثُ: من عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ في الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم وُجوبُ سَلامةِ الألسِنةِ والقُلوبِ تِجاهَهم رَضِيَ اللهُ عنهم

مِن أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ سَلامةُ قُلوبِهِم وألسِنتِهِم لأصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ سَلامةُ القَلبِ مِنَ البُغْضِ والغِلِّ والحِقدِ والكَراهةِ، وسَلامةُ ألسِنَتِهِم من كُلِّ قَولٍ لا يَليقُ بهِم، فقُلوبُهم مَملوءةٌ بالحُبِّ والتَّقديرِ والتَّعظيمِ لأصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلى ما يَليقُ بهِم؛ لأنَّ مَحَبَّتَهم من مَحَبَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَحَبَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من مَحَبَّةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ .
1- قال اللهُ تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] الآية.
 قال ابنُ كثيرٍ: (أخبَرَ اللهُ العَظيمُ أنَّه قَد رَضيَ عنِ السَّابِقين الأوَّلين مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ والَّذينَ اتَّبَعوهم بإحسانٍ: فيا وَيْلَ من أبغَضَهم أو سَبَّهم أو أبغَضَ أو سَبَّ بَعضَهم!) .
2- قال اللهُ سُبحانَه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران: 159] .
قالت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: (أُمِروا أن يَستَغفِروا لأصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَبُّوهم!) .
3- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58] .
قال ابنُ كثيرٍ: (مِن أكثَرِ مَن يَدخُلُ في هَذا الوَعيدِ الكَفَرةُ باللهِ ورَسولِه، ثُمَّ الرَّافِضةُ الَّذينَ يَتَنَقَّصونَ الصَّحابةَ ويَعيبونَهم بما قَد بَرَّأهمُ اللهُ مِنهُ، ويَصِفونَهم بنَقيضِ ما أخبَرَ اللهُ عنهم؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَد أخبَرَ أنَّه قَد رَضِيَ عنِ المُهاجِرينَ والأنصارِ ومَدحَهم، وهَؤُلاءِ الجَهَلةُ الأغبياءُ يَسُبُّونَهم ويَتَنَقَّصونَهم، ويَذكُرونَ عنهم ما لم يَكُنْ ولا فَعَلوهُ أبَدًا، فهم في الحَقيقةِ مَنكوسو القُلوبِ؛ يَذمُّونَ المَمدوحينَ، ويَمدَحونَ المَذمومينَ!) .
وقال السَّعدي عِندَ تَفسيرِ هَذِه الآيةِ: (لهَذا كانَ سَبُّ آحادِ المُؤمِنينَ موجِبًا للتَّعزيرِ بحَسَبِ حالَتِه وعُلُوِّ مَرتَبَتِه؛ فتَعزيرُ من سَبَّ الصَّحابةَ أبلَغُ، وتَعزيرُ من سَبَّ العُلَماءَ وأهلَ الدِّينِ أعظَمُ من غَيرِهِم) .
4- قال اللهُ تعالى: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] الآية.
قال القُرطُبيُّ: (رَوى أبو عُروةَ الزُّبَيْريُّ من ولَدِ الزُّبَيْرِ: كُنَّا عِندَ مالِكِ بنِ أنسٍ، فذَكَروا رَجُلًا يَنتَقَّصُ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَرَأ مالِكٌ هَذِه الآيةَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى بَلَغَ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ، فقال مالِكٌ: من أصبَحَ مِنَ النَّاسِ في قَلبِه غَيظٌ عَلى أحَدٍ من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقَد أصابَتهُ هَذِه الآيةُ، ذَكَرَه الخَطيبُ أبو بَكْرٍ. قُلتُ: لقَد أحسَنَ مالِكٌ في مَقالتِه، وأصابَ في تَأويلِه، فمَن نَقصَ واحِدًا مِنهم أو طَعنَ عليه في رِوايَتِه؛ فقَد رَدَّ عَلى اللهِ رَبِّ العالَمينَ، وأبطَلَ شَرائِعَ المُسْلِمينَ، ثُمَّ ذَكرَ طائِفةً مِنَ الآياتِ القُرآنيَّةِ الَّتي تَضَمَّنَتِ الثَّناءَ عليهِم والشَّهادةَ لهم بالصِّدقِ والفَلاحِ، ثُمَّ قال عَقِبَها: وهَذا كُلُّهُ مَعَ عِلمِه تبارك وتعالى بحالِهِم، ومَآلِ أمرِهِم) .
وقَد دَلَّتِ السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ عَلى التَّحذيرِ مِن سَبِّ الصَّحابةِ والطَّعنِ فيهِم والانتِقاصِ من قَدرِهِم، ومِن ذلك:
1- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كانَ بَينَ خالِدِ بن الوَليدِ وبَينَ عَبدِ الرَّحمَنِ بن عَوفٍ شَيءٌ، فسَبَّهُ خالِدٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أحَدًا من أصحابي؛ فإنَّ أحَدَكم لو أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه )) .
 قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: («كانَ بَينَ خالِدِ بن الوَليدِ وبَينَ عَبدِ الرَّحمَنِ بن عَوفٍ شَيءٌ»، أي: مُنازَعةٌ، فسَبَّهُ خالِدٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك القَولَ، فأظهَرَ ذلك السَّبَبُ أنَّ مَقصودَ هَذا الخَبَرِ زَجْرُ خالِدٍ، ومَن كانَ عَلى مِثلِ حالِه مِمَّن سَبَقَ بالإسلامِ، وإظهارُ خُصوصيَّةِ السَّابِقِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ السَّابِقين لا يَلحَقُهم أحَدٌ في دَرَجَتِهم، وإن كانَ أكثَرَ نَفقةً وعَمَلًا مِنهم، وهَذا نَحوُ قَولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا المَقصودِ: أنَّ خالِدًا وإن كانَ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، لكِنَّهُ مُتَأخِّرُ الإسلامِ. قيلَ: أسلَمَ سَنةَ خَمسٍ، وقيلَ: سَنةَ ثَمانٍ، لكِنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا عَدَلَ عن غَيرِ خالِدٍ وعَبدِ الرَّحمَنِ إلى التَّعميمِ دَلَّ ذلك عَلى أنَّه قَصَدَ مَعَ ذلك تَقعيدَ قاعِدةِ تَغليظِ تَحريمِ سَبِّ الصَّحابةِ مُطلَقًا، فيَحرُمُ ذلك من صَحابيٍّ وغَيرِه؛ لأنَّه إذا حُرِّمَ عَلى صَحابيٍّ فتَحريمُه عَلى غَيرِه أَولى. وأيضًا: فإنَّ خِطابَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للواحِدِ خِطابٌ للجَميعِ، وخِطابَه للحاضِرينَ خِطابٌ للغائِبينَ إلى يَومِ القيامةِ) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (فإنْ قيلَ: فلِمَ نَهى خالِدًا عن أن يَسُبَّ أصحابَه إذ كانَ من أصحابِه أيضًا، وقال: ((لو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَه )) ؟ قُلنا: لأنَّ عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ ونُظَراءَهُ هم مِنَ السَّابِقين الأوَّلين الَّذينَ صَحِبوهُ في وقتٍ كانَ خالِدٌ وأمثالُهُ يُعادونَهُ فيه، وأنفَقوا أموالَهم قَبلَ الفَتحِ وقاتَلوا، وهم أعظَمُ دَرَجةً مِنَ الَّذينَ أنفَقوا من بَعدِ الفَتحِ وقاتَلوا، وكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، فقَدِ انفَرَدوا مِنَ الصُّحبةِ بما لم يَشرَكْهم فيه خالِدٌ، فنهى خالِدًا ونُظراءَه مِمَّن أسلَمَ بَعدَ الفَتحِ الَّذي هو صُلحُ الحُدَيبيَةِ وقاتَلَ، أن يَسُبَّ أولَئِكَ الَّذينَ صَحِبوهُ قَبلَه، ومَن لم يَصحَبْهُ قَطُّ نِسبَتُه إلى مَن صَحِبَه كنِسبةِ خالِدٍ إلى السَّابِقينَ وأبعَدَ.
وقَولُه: ((لا تَسُبُّوا أصحابي)) خِطابٌ لكُلِّ أحَدٍ أن يَسُبَّ مَنِ انفَرَدَ عنه بصُحبَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهَذا كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثٍ آخَرَ: ((أيُّها النَّاسُ إنِّي أتيتُكم، فقُلتُ: إنِّي رَسولُ اللهِ إلَيكم، فقُلتُم: كذَبْتَ، وقال أبو بَكْرٍ: صَدَقْتَ. فهَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟ فهَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟ )) أو كما قال بأبي هو وأمِّي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال ذلك لَمَّا عايَرَ بَعضُ الصَّحابةِ أبا بَكْرٍ، وذاكَ الرَّجُلُ من فُضَلاءِ أصحابِه، ولَكِنِ امتازَ أبو بَكْرٍ بصُحبةٍ انفَرَدَ بها عنهـ) .
وقال المناويُّ في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعُوا لي أصحابي)) : (الإضافةُ للتَّشريفِ تُؤذِنُ باحتِرامِهِم وزَجْرِ سابِّهِم وتَعزيرِه عِندَ الجُمهورِ... ((لو أنفَقتُم مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بلَغْتُم أعمالَهم)) أي: ما بَلَغتُمْ مِن إنفاقِكم بَعضَ أعمالِهِم لِمَا قارَنَها من مَزيدِ إخلاصٍ وصِدْقِ نيَّةٍ وكَمالِ يَقينٍ... وقَولُه: "أصحابي" مُفرَدٌ مُضافٌ، فيَعُمُّ كُلَّ صاحِبٍ لهُ، لكِنَّهُ عُمومٌ مُرادٌ به الخُصوصُ... يَدُلُّ عَلى أنَّ الخِطابَ لخالِدٍ وأمثالِه مِمَّن تَأخَّر إسلامُه، وأنَّ المُرادَ هُنا مُتَقَدِّمو الإسلامِ مِنهم الَّذي كانَت لهُ الآثارُ الجَميلةُ والمَناقِبُ الجَليلةُ في نُصرةِ الدِّينِ مِنَ الإنفاقِ في سَبيلِ اللهِ، واحتِمالِ الأذى في سَبيلِ اللهِ ومُجاهَدةِ أعدائِه، ويَصِحُّ أن يَكونُ مَن بَعدَ الصَّحابةِ مُخاطَبًا بذلك حُكمًا إمَّا بالقياسِ أو بالتَّبَعيَّةِ) .
2- عن جابِرِ بْنِ سَمُرةَ قال: ((خَطبَ عُمَرُ النَّاسَ بالجابيةِ، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قامَ في مِثلِ مَقامي هَذا فقال: أحسِنوا إلى أصحابي ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم)) .
 قال العَينيُّ: (مِن فوائِدِ هَذا الحَديثِ: ألَّا يَتَعَرَّضَ أحَدٌ إلى أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ إلَّا بإحسانٍ. وفيه: مُعجِزةٌ للنَّبيِّ عليه السَّلامُ؛ حَيثُ أخبَرَ بشَيءٍ قَبلَ كونِه. وفيه: الإشارةُ إلى فضيلةِ الصَّحابةِ، ثُمَّ إلى فضيلةِ التَّابِعين، وأتباعِ التَّابِعين) .
وفي رِوايةٍ عن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((قامَ فينا مِثلَ مَقامي فيكم، فقال: احفَظوني في أصحابي، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ يَفشو الكَذِبُ حَتَّى يَشهَدَ الرَّجُلُ وما يُستَشهَدُ، ويَحلِفَ وما يُستَحلَفُ)) .
قال المُناويُّ: (أي راعُوا حُرْمَتي وارقُبوني فيهِم واقدُروهم حَقَّ قَدرِهم، وكُفُّوا ألسِنَتَكم عن غَمطِهِم أوِ الوَقيعةِ فيهِم بلَومٍ أو تَعنيفٍ؛ لبَذلِهِم نَفوسَهم واطِّراحِها بَينَ يَدَيِ اللهِ تعالى في الحُروبِ، وقِتالِهِمُ القَريبَ والبَعيدَ في ذاتِ اللهِ، وبَذْلِهِم أموالَهم، وخُروجِهم من ديارِهِم، وصَبْرِهم عَلى البَلاءِ والجَهدِ الَّذي لا يُطيقُهُ غَيرُهم، ولَيسَ ذلك إلَّا عن أمرٍ عَظيمٍ مَلكَ البَواطِنَ وصَرفَها عَلى حُكمِ مَحَبَّةِ اللهِ ومَحَبَّةِ رَسولِه؛ فاستَوجَبوا بذلك الرِّعايةَ وكَمالَ العِنايةِ، والإضافةُ للتَّشريفِ) .
والطَّعنُ في الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على أنواعٍ، ولكُلِّ نَوعٍ حُكمُه.
النَّوعُ الأوَّلُ: الطَّعنُ في جَميعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم باتِّهامِهم بالكُفْرِ والرِّدَّةِ أو الفِسْقِ، وهذا كُفرٌ.
قال مالِكُ بنُ أَنَسٍ: (الذي يَشتُمُ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس له سَهمٌ -أو قال: نَصيبٌ- في الإسلامِ) .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا من جاوَز ذلك إلى أنْ زَعَمَ أنَّهم ارتَدُّوا بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا نَفرًا قَليلًا لا يَبلُغونَ بضعةَ عَشَرَ نَفسًا، أو أنَّهم فسَقوا عامَّتُهم، فهَذا لا ريبَ أيضًا في كُفرِه؛ فإنَّهُ مُكَذِّبٌ لِما نَصَّهُ القُرآنُ في غَيرِ مَوضِعٍ مِنَ الرِّضا عنهم، والثَّناءِ عليهِم، بَل من يَشُكُّ في كُفرِ مِثلِ هَذا فإنَّ كُفْرَهُ مُتَعَيِّنٌ... وكُفرُ هَذا مِمَّا يُعلَمُ بالِاضطِرارِ من دينِ الإسلامِ) .
وقال تقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ: (سَبُّ الجميعِ لا شَكَّ أنَّه كُفرٌ) .
وقال الهيتمي عن الخِلافِ الوارِدِ في تكفيرِ سابِّ الصَّحابةِ: (إنما هو في سَبِّ بَعْضِهم، أمَّا سَبُّ جميعِهم فلا شَكَّ أنَّه كُفرٌ) .
النَّوعُ الثَّاني: الطَّعنُ في بَعضِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ممَّن تواترت النُّصوصُ بفَضْلِهم
كالخُلَفاءِ الأربعةِ الرَّاشِدينَ والعَشَرةِ المُبَشَّرينَ بالجنَّةِ، فهذا فيه تفصيلٌ؛ فإن كان الطَّعنُ فيهم بتكفيرِهم فهذا كُفرٌ، وإن كان الطَّعنُ فيهم بسَبِّهم وشَتْمِهم دونَ تكفيرِهم فهذا في حُكْمِه وَجهانِ للعُلَماءِ؛ أحَدُهما: أنَّه كُفرٌ، والثَّاني: أنَّه فِسقٌ. وأمَّا قَذفُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها بالزِّنا فهذا كُفرٌ بالإجماعِ.
قال الأوزاعيُّ: (من شَتَم أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه فقد ارتدَّ عن دينِه، وأباح دَمَهـ) .
وقال أبو منصورٍ البَغْداديُّ: (قالوا بتَكفيرِ كُلِّ من أكفَرَ واحِدًا مِنَ العَشَرةِ الَّذينَ شَهِدَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَنَّةِ، وقالوا بموالاةِ جَميعِ أزواجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأكفَروا مَن أكفَرَهُنَّ، أو أكفَرَ بَعضَهُنَّ) .
وقال السُّبكيُّ: (سَبُّ أحَدٍ مِن الصَّحابةِ وبُغْضُه لا يكونُ كُفرًا لكِنْ يُضَلَّلُ، فإنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه لم يُكَفِّرْ شاتِمَه حتى لم يَقتُلْه... وفي الفتاوى البديعيَّةِ مِن كُتُبِ الحَنَفيَّةِ: مَن أنكر إمامةَ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه فهو كافِرٌ، وقال بعضُهم: هو مبتَدِعٌ. والصَّحيحُ أنَّه كافِرٌ.
وأمَّا أصحابُنا فقد قال القاضي حُسَين في تعليقِه في بابِ اختِلافِ نِيَّةِ الإمامِ والمأمومِ: ومَن سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكَفَّرُ بذلك، ومن سَبَّ صحابِيًّا فُسِّقَ، وأمَّا من سَبَّ الشَّيخَينِ أو الخَتنينِ ففيه وجهانِ؛ أحَدُهما: يُكَفَّرُ؛ لأنَّ الأمَّةَ اجتَمَعت على إمامتِهم. والثاني: يُفَسَّقُ ولا يُكَفَّرُ) .
وقال النَّوويُّ في فوائِدِ حديثِ حادِثةِ الإفْكِ: (الحاديةُ والأربعونَ: براءةُ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها من الإفْكِ، وهي براءةٌ قَطعيَّةٌ بنَصِّ القُرآنِ العزيزِ، فلو تشكَّك فيها إنسانٌ -والعياذُ باللهِ- صار كافِرًا مرتدًّا بإجماعِ المُسلِمين) .
وقال ابنُ كَثيرٍ في تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 23] : (أجمع العُلَماءُ رحمهم اللهُ قاطِبةً على أنَّ من سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذُكِر في هذه الآيةِ فإنَّه كافِرٌ؛ لأنَّه معانِدٌ للقُرآنِ) .
وقال أيضًا: (قد ذهب طائفةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى تكفيرِ مَن سَبَّ الصَّحابةَ، وهو روايةٌ عن مالكِ بنِ أنَسٍ، رحمَه اللهُ) .
وقال السُّيوطي: (قال العُلَماءُ: قَذْفُ عائِشةَ كُفرٌ؛ لأنَّ اللهَ سَبَّح نَفْسَه عند ذِكْرِه، فقال: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، كما سبَّح نَفْسَه عند ذِكْرِ ما وصفه به المُشرِكون من الزَّوجةِ والوَلَدِ) .
وقال الهيتمي: (مَرَّ عن القاضي حُسَينٍ أنَّ في كُفرِ سابِّ الشَّيخَينِ أو الختنينِ وَجْهَينِ، ولا ينافيه جَزْمُه في موضِعٍ آخَرَ بفِسْقِ سابِّ الصَّحابةِ، وكذا ابنُ الصَّبَّاغِ وغَيرُه، وحَكَوه عن الشَّافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه؛ لأنهما مسألتانِ، فالثانيةُ في مجرَّدِ السَّبِّ، وهو مُفَسِّقٌ وإن كان المسبوبُ من آحادِ الصَّحابةِ وأصاغِرِهم بخِلافِ الأوَّلِ؛ فإنَّها خاصَّةٌ بسَبِّ الشَّيخَينِ أو الختنينِ، وهو أشَدُّ وأغلَظُ في الزَّجرِ بأنَّ فيه وَجْهًا بالكُفرِ، وأمَّا تكفيرُ أبي بكرٍ ونُظَرائِه ممَّن شهد لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ، فلم يتكلَّمْ فيها أصحابُ الشَّافعيِّ، والذي أراه الكُفْرُ فيها قَطْعًا) .
وقال الخَرشيُّ: (مَن رَمى عائِشةَ بما بَرَّأها اللهُ مِنهُ... أو أنكَرَ صُحبةَ أبي بَكْرٍ، أو إسلامَ العَشَرةِ، أو إسلامَ جَميعِ الصَّحابةِ، أو كَفَّر الأربَعةَ أو واحِدًا مِنهم؛ كَفَر) .
النَّوعُ الثَّالِثُ: من سَبَّ صَحابيًّا لم يَتَواتَرِ النَّقلُ في فَضْلِه وكَمالِه، فالظَّاهِرُ أنَّ سابَّه فاسِقٌ، إلَّا أن يَسُبَّه من حَيثُ صُحبَتُهُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ ذلك كُفرٌ.
قال تقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ: (سَبُّ الجَميعِ لا شَكَّ أنَّه كُفرٌ، وهكذا إذا سَبَّ واحِدًا من الصَّحابةِ حيثُ هو صحابيٌّ؛ لأنَّ ذلك استِخفافٌ بحَقِّ الصُّحبةِ، ففيه تعَرُّضٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا شَكَّ في كُفرِ السَّابِّ) .
النَّوعُ الرَّابِعُ: من سَبَّ بَعضَهم سَبًّا لا يَطعَنُ في دينِهِم وعَدالَتِهِم، فلا شَكَّ أنَّ فاعِلَ ذلك يَستَحِقُّ التَّعزيرَ والتَّأديبَ. ومِن ذلك اتِّهامُهم بضَعفِ الرَّأيِ، وضَعفِ الشَّخصيَّةِ والغَفلةِ، وحُبِّ الدُّنيا، ونَحوِ ذلك، وهَذا النَّوعُ مِنَ الطَّعنِ تَطفَحُ به بَعضُ كُتُبِ التَّاريخِ، وبَعضُ الدِّراساتِ المُعاصِرةِ للمُستَشرِقينَ وغَيرِهِم .
قال ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا من سَبَّهم سَبًّا لا يَقدَحُ في عَدالَتِهِم ولا في دينِهِم، مِثلُ وَصفِ بَعضِهِم بالبُخْلِ أوِ الجُبنِ أو قِلَّةِ العِلمِ أو عَدَمِ الزُّهْدِ ونَحوِ ذلك، فهَذا هو الَّذي يَستَحِقُّ التَّأديبَ والتَّعزيرَ، ولا يُحكَمُ بكُفرِه بمُجَرَّدِ ذلك، وعَلى هَذا يُحمَلُ كلامُ مَن لم يُكفِّرْهم مِنَ العُلَماءِ. وأمَّا من لَعَن وقَبَّحَ مُطلَقًا فهَذا مَحَلُّ الخِلافِ فيهِم؛ لتَرَدُّدِ الأمرِ بَينَ لَعنِ الغَيظِ ولَعن الِاعتِقادِ. وأمَّا من جاوَز ذلك إلى أنْ زَعَمَ أنَّهم ارتَدُّوا بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا نَفرًا قَليلًا لا يَبلُغونَ بضعةَ عَشَرَ نَفسًا، أو أنَّهم فسَقوا عامَّتُهم، فهَذا لا ريبَ أيضًا في كُفرِه، فإنَّهُ مُكَذِّبٌ لِما نَصَّهُ القُرآنُ في غَيرِ مَوضِعٍ مِنَ الرِّضا عنهم، والثَّناءِ عليهِم، بَل من يَشُكُّ في كُفرِ مِثلِ هَذا فإنَّ كُفْرَهُ مُتَعَيِّنٌ) .
ومِن أَعْظَمِ اللَّوازِمِ التي تترتَّبُ على هذا السَّبِّ والطَّعنِ في صحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
1- الشَّكُّ في القُرآنِ الكَريمِ والأحاديثِ النَّبَويَّةِ؛ لِأنَّ الطَّعنَ في النَّقَلةِ طَعْنٌ في المَنقولِ، وقَد صَرَّحَ بَعضُ أهْلِ الضَّلالِ مِمَّن يَسُبُّ الصَّحابةَ بتَحريفِ الصَّحابةِ لِلقُرآنِ!
2- يَلزَمُ مِن هَذا القَولِ أحَدُ أمرينِ: إمَّا نِسبةُ الجَهلِ إلى اللهِ -تعالى عَمَّا يَصِفونَ- أوِ العَبَثُ في هَذِه النُّصوصِ الَّتي أثنى فيها عَلى الصَّحابةِ، فإن كانَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ غَيرَ عالِمٍ بأنَّهم سَيَكفُرونَ ومَعَ ذلك أثنى عليهِم ووَعَدَهمُ الحُسْنى، فهوَ جَهْلٌ، والجَهلُ عليه تعالى مُحالٌ، وإن كانَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عالِمًا بأنَّهم سَيَكفُرونَ فيَكونُ وَعْدُهُ لهم بالحُسْنى ورِضاهُ عنهم عَبثًا، والعَبَثُ في حَقِّه تعالى مُحالٌ .
وقَد حَذَّرَ السَّلَفُ مِن سَبِّ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والطَّعنِ فيهِم، وأَمَروا بتَوقيرِهِم وتَعظيمِهِم وحُسنِ الظَّنِّ بهِم
1- عن عَبدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (لا تَسُبُّوا أصحابَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمُقامُ أحَدِهِم ساعةً خَيرٌ مِن عَمَلِ أحَدِكم عُمُرَهـ) .
2- عن مُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ أنَّه قال لِجابِرٍ الجُعْفِيِّ: (يا جابِرُ بلغَني أنَّ قَومًا بالعِراقِ يَزعُمونَ أنَّهم يُحِبُّونَنا، ويَتَناوَلونَ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ، ويَزعُمونَ أنِّي آمُرُهم بذلك، فأبلِغْهم أنِّي إلى اللهِ مِنهم بَريءٌ، والَّذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لو وُلِّيتُ لتَقَرَّبْتُ إلى اللهِ تعالى بدِمائِهِم! لا نالَتْني شَفاعةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إن لم أكُن أستَغفِرُ لهما، وأتَرَحَّمُ عليهِما) .
3- عن عَبْدِ اللهِ بنِ مُصعَبٍ قال: (قال لي أميرُ المُؤْمِنينَ المهْدِيُّ: يا أبا بَكرٍ ما تَقولُ في الَّذينَ يَشتُمونَ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقُلت: زَنادِقةٌ يا أميرَ المُؤْمِنين، قال: ما عَلِمتُ أحَدًا قال هَذا غَيرَكَ! فكَيفَ ذلك؟ قُلتُ: إنَّما هم قَومٌ أرادوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلَم يَجِدوا أحَدًا مِنَ الأمَّةِ يُتابِعُهم عَلى ذلك فيه، فشَتَموا أصحابَه رَضِيَ اللهُ عنهم، يا أميرَ المُؤْمِنينَ ما أقبَحَ بالرَّجُلِ أن يَصحَبَ صَحابةَ السُّوءِ، فكَأنَّهم قالوا: رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَحِبَ صَحابةَ السُّوءِ، فقال لي: ما أرى إلَّا كما قُلتَ) !
4- عن أبي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ أنَّه قال: (لا أصَلِّي عَلى رافِضيٍّ ولا حَرُوريٍّ؛ لِأنَّ الرَّافِضيَّ يَجعَلُ عُمرَ كافِرًا، والحَرُوريَّ يَجعَلُ عَلِيًّا كافِرًا) .
5- قال مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ: قُلتُ لِعَبدِ الرَّحمَنِ بن مَهْديٍّ: أحضُرُ جَنازةَ مَن سَبَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: (لو كانَ مِن عَصَبَتي ما وَرثْتُهـ) !
6- قال مالِكُ بنُ أنَسٍ: (إنَّما هَؤُلاءِ قَومٌ أرادوا القَدحَ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَم يُمكِنْهم ذلك، فقَدَحوا في أصحابِه؛ حَتَّى يُقالَ: رَجُلُ سُوءٍ كانَ لهُ أصحابُ سُوءٍ، ولَو كانَ رَجُلًا صالِحًا كانَ أصحابُه صالِحينَ!) .
7- قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (إذا رَأيتَ رَجُلًا يَذكُرُ أحَدًا مِنَ الصَّحابةِ بسُوءٍ فاتِّهِمْهُ عَلى الإسلامِ) .
وقال أيضًا: (مَنِ انتَقَصَ أحَدًا مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو أبغَضَهُ بحَدَثٍ كانَ مِنهُ، أو ذَكَرَ مَساوِيَه، كانَ مُبتَدِعًا، حَتَّى يَتَرَحَّمَ عليهِم جَميعًا، ويَكونَ قَلبُه لهم سَليمًا) .
8- قال أبو زُرعةَ الرَّازي: (إذا رَأيتَ الرَّجُلَ يَنتَقِصُ أحَدًا مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاعلَمْ أنَّه زِنْديقٌ، وذلك أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَنا حَقٌّ، والقُرآنُ حَقٌّ، وإنَّما أدَّى إلَينا هَذا القُرآنَ والسُّننَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يُريدونَ أن يَجرَحوا شُهودَنا ليُبطِلوا الكِتابَ والسُّنَّةَ، والجَرحُ بهِم أَولى، وهم زَنادِقةٌ!) .
9- قال حَربٌ الكَرْمانيُّ: (مِنَ السُّنَّةِ الواضِحةِ البَيِّنةِ الثَّابِتةِ المَعروفةِ ذِكْرُ مَحاسِنِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلِّهم أجمَعينَ، والكَفُّ عن ذِكرِ مَساويهِم والخِلافِ الَّذي شَجَرَ بينَهم، فمَن سَبَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو أحَدًا مِنهم، أو تَنقَّصَه، أو طَعنَ عليهِم أو عَرَّضَ بعَيبِهِم، أو عابَ أحَدًا مِنهم بقَليلٍ أو كثيرٍ أو دِقٍّ أو جِلٍّ، مِمَّا يتَطَرَّقُ به إلى الوَقيعةِ في أحَدٍ مِنهم- فهوَ مُبتَدِعٌ رافِضيٌّ خَبيثٌ مُخالِفٌ) .
وقال أيضًا: (ثُمَّ أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ هَؤُلاءِ الأربَعةِ خَيرُ النَّاسِ، لا يَجوزُ لِأحَدٍ أن يَذكُرَ شَيئًا مِن مَساوِئِهِم، ولا يَطعنَ عَلى أحَدٍ مِنهم بعَيبٍ، ولا بنَقصٍ ولا وَقيعةٍ، فمَن فَعلَ ذلك فالواجِبُ عَلى السُّلطانِ تَأديبُه وعُقوبَتُهُ، ليسَ لهُ أن يَعفوَ عنه، بَل يُعاقِبُه ثُمَّ يَستَتيبُه، فإنْ تاب قُبِلَ مِنهُ، وإن لم يَتُبْ أعادَ عليه العُقوبةَ، ثُمَّ خَلَّدَهُ الحَبْسَ، حَتَّى يَتوبَ ويُراجِعَ، فهَذِه السُّنَّةُ في أصحابِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) .
10- قال البَرْبَهاريُّ: (اعلَمْ أنَّه مَن تَناوَلَ أحَدًا مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاعْلَم أنَّه إنَّما أرادَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَد آذاهُ في قَبرِهـ) .
وقال أيضًا: (إذا رَأيتَ الرَّجُلَ يَطعنُ عَلى أحَدٍ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاعلَمْ أنَّه صاحِبُ قَولِ سُوءٍ وهوًى... ولا تُحدِّثْ بشَيءٍ مِن زَلَلِهِم ولا حَرْبِهم، ولا ما غابَ عنكَ عِلمُهُ، ولا تَسمَعْهُ مِن أحَدٍ يُحَدِّثُ به؛ فإنَّهُ لا يَسلَمُ لكَ قَلبُكَ إنْ سَمِعْتَهـ) .
11- قال أبو نُعَيمٍ الأصبَهانيُّ: (لا يَتَتَبَّعُ هَفَواتِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وزَلَلَهم ويَحفَظُ عليهِم ما يَكونُ مِنهم في حالِ الغَضَبِ والموجِدةِ إلَّا مَفتونُ القَلبِ في دينِهـ) .
وقال أيضًا: (لا يَبْسُطُ لِسانَه فيهِم إلَّا مِن سُوءِ طَوِيَّتِه في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَحابَتِه والإسلامِ والمُسْلِمينَ) .
12- قال الغَزاليُّ مُبَيِّنًا ما يَجِبُ اعتِقادُه: (أن يَعتَقِدَ فَضْلَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم وتَرتيبَهم، وأنَّ أفضَلَ النَّاسِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبو بَكْرٍ ثُمَّ عُمرُ ثُمَّ عُثمانُ ثُمَّ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهم، وأن يُحْسِنَ الظَّنَّ بجَميعِ الصَّحابةِ ويُثْنيَ عليهِم كما أثنى اللهُ عَزَّ وجَلَّ ورَسولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليهِم أجمَعينَ، فكُلُّ ذلك مِمَّا ورَدتَ به الأخبارُ وشَهِدَت به الآثارُ، فمَنِ اعتَقَدَ جَميعَ ذلك مُوقِنًا به كانَ مِن أهلِ الحَقِّ وعِصابةِ السُّنَّةِ، وفارَقَ رَهطَ الضَّلالِ وحِزبَ البِدعةِ) .
13- قال البَغَويُّ عِندَ تَفسيرِ قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر: 10] : (قال مالِكُ بنُ مِغولٍ: قال عامِرُ بْنُ شَراحيلَ الشَّعبيُّ: يا مالِكُ، تَفاضَلَتِ اليَهودُ والنَّصارى عَلى الرَّافِضةِ بخَصلةٍ، سُئِلَتِ اليَهودُ مَن خَيرُ أهلِ مِلَّتِكم؟ فقالت: أصحابُ موسى عليه السَّلامُ، وسُئِلَتِ النَّصارى: مَن خَيرُ أهْلِ مِلَّتِكم؟ فقالوا: حَواريُّ عيسى عليه السَّلامُ، وسُئِلَتِ الرَّافِضةُ: مَن شَرُّ أهلِ مِلَّتِكم، فقالوا: أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! أُمِروا بالِاستِغفارِ لهم فسَبُّوهم، فالسَّيفُ عليهِم مَسلولٌ إلى يَومِ القيامةِ، لا تَقومُ لهم رايةٌ، ولا يَثبُتُ لهم قَدَمٌ، ولا تَجتَمِعُ لهم كلِمةٌ، كُلَّما أوقَدوا نارًا لِلحَربِ أطفَأها اللهُ بسَفكِ دِمائِهِم، وتَفريقِ شَملِهِم، وإدحاضِ حُجَّتِهِم، أعاذَنا اللهُ وإيَّاكم مِنَ الفِتَنِ المُضِلَّةِ) .
وقال البَغَويُّ أيضًا: (كُلُّ مَن كانَ في قَلبِه غِلٌّ عَلى أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ، ولَم يَتَرَحَّمْ عَلى جَميعِهِم، فإنَّهُ ليسَ مِمَّن عناهُ اللهُ بهَذِه الآيةِ؛ لِأنَّ اللهَ تعالى رَتَّبَ المُؤمِنينَ عَلى ثَلاثةِ مَنازِلَ: المُهاجِرينَ، والأنصارِ، والتَّابِعينَ المَوصوفينَ بما ذُكِرَ، فمَن لم يَكُنْ مِنَ التَّابِعينِ بهَذِه الصِّفةِ كانَ خارِجًا مِن أقسامِ المُؤمِنينَ. قال ابنُ أبي ليلى: النَّاسُ عَلى ثَلاثةِ مَنازِلَ: المُهاجِرين، والَّذينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ والإيمانَ، والَّذينَ جاؤُوا مِن بَعدِهِم، فاجتَهِدْ أن لا تَكونَ خارِجًا مِن هَذِه المَنازِلِ) .
14- قال ابنُ كثيرٍ: (قَد ذَهَبَ طائِفةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى تَكفيرِ مَن سَبَّ الصَّحابةَ، وهوَ رِوايةٌ عن مالِكِ بنِ أنسٍ رَحِمَهُ اللهُ. وقال مُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ: «ما أظُنُّ أحَدًا يَنتَقِصُ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ، وهوَ يُحِبُّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم») .
15- نَقلَ ابنُ حَجَرٍ في تَرجَمةِ عَليِّ بنِ الحَسَنِ بن أبي الفَضلِ بن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ كثيرٍ الحَلبيِّ الرَّافِضيِّ: (قَدِمَ دِمشَقَ، وأقامَ بها سَنَواتٍ، فاتَّفَقَ أنَّه شَقَّ الصُّفوفَ والنَّاسُ في صَلاةِ جِنازةٍ بالجامِعِ الأُمويِّ وهوَ يَلعَنُ ويَسُبُّ مَن ظَلمَ آلَ مُحَمَّدٍ، انتَهَرَهُ عِمادُ الدِّينِ ابنُ كثيرٍ، وأغرى به العامَّةَ، وقال: إنَّ هَذا يَسُبُّ الصَّحابةَ، فحَمَلوهُ إلى القاضي تَقيِّ الدِّينِ السُّبكيِّ، فاعتَرَفَ بسَبِّ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، فعَقَدوا لهُ مَجْلِسًا، فحَكمَ نائِبُ المالِكيِّ بضَربِ عُنُقِه بَعدَ أن كُرِّرَتْ عليه التَّوبةُ ثَلاثةَ أيَّامٍ، فأصرَّ، فضُرِبَت عُنقُهُ بسُوقِ الخَيلِ، وحَرَقَ العَوامُّ جَسَدَهُ، وذلك في جُمادى الأُولى سَنة 755هــ) .
16- قال ابنُ أبي العِزِّ: (لا شَكُّ أنَّه يَتَطَرَّقُ مَن سَبَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم إلى سَبِّ أهلِ البَيتِ، ثُمَّ إلى سَبِّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ أهْلُ بَيتِه وأصحابُه مِثلُ هَؤُلاءِ عِندَ الفاعِلين الصَّانِعينَ) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/247).
  2. (2) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 203).
  3. (3) رواه مسلم (3022).
  4. (4) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 480).
  5. (5) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 671).
  6. (6) يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/296).
  7. (7) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) واللَّفظُ له.
  8. (8) يُنظر: ((المفهم)) (6/ 494).
  9. (9) رواه مسلم (2541).
  10. (10) رواه البخاري (3661) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه.
  11. (11) يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1077-1079).
  12. (12) لفظ الحديث: عن أنس رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا، ما بلغتم أعمالهم)) أخرجه أحمد (13812) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (35/270)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2046) صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (3386)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13812)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (19/10)، والشوكاني في ((در السحابة)) (38): رجاله رجال الصحيح.
  13. (13) يُنظر: ((فيض القدير)) (3/531).
  14. (14) رواه مطولًا ابن ماجه (2363) بلفظ: ((احفظوني في أصحابي))، وأحمد (177) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5586)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2363)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (177)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/98).
  15. (15) يُنظر: ((نخب الأفكار)) (14/ 467).
  16. (16) رواه ابن ماجه (2363) واللَّفظُ له، وأحمد (177) مطولًا باختلاف يسير. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5586)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2363)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (177)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/98).
  17. (17) يُنظر: ((فيض القدير)) (1/197).
  18. (18) يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) لابن بطة (ص: 178).
  19. (19) يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1110).
  20. (20) يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/ 575).
  21. (21) يُنظر: ((الصواعق المحرقة)) (1/ 135).
  22. (22) يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) لابن بطة (ص: 178).
  23. (23) يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 353).
  24. (24) يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/ 576).
  25. (25) يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/117).
  26. (26)  يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/31).
  27. (27) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 284).
  28. (28) يُنظر: ((الإكليل)) (ص 190).
  29. (29) يُنظر: ((الصواعق المحرقة)) (1/ 146).
  30. (30) يُنظر: ((شرح مختصر خليل)) (8/ 74).
  31. (31) يُنظر: ((فتاوى السبكي)) (2/ 575).
  32. (32) يُنظر: ((اعتقاد أهل السنة في الصحابة)) للوهيبي (ص: 37).
  33. (33) يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1110).
  34. (34) يُنظر: ((إتحاف ذوي النجابة)) لمحمد العربي بن التباني (ص: 131).
  35. (35) أخرجه ابن ماجه (162)، وابن أبي شيبة (33082) واللَّفظُ لهما، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص323) باختلاف يسير. حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (162)، وصحَّح إسنادَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/336).
  36. (36) يُنظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (3/ 185)، ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) للضياء المقدسي (ص: 60).
  37. (37) يُنظر: ((النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب)) للضياء المقدسي (ص: 83).
  38. (38) يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) لابن بطة (ص: 178).
  39. (39) يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) لابن بطة (ص: 176).
  40. (40) يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (3/ 1088).
  41. (41) يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (11/ 450).
  42. (42) يُنظر: ((أصول السنة)) (ص 54).
  43. (43) يُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص: 49).
  44. (44) يُنظر: ((إجماع السلف في الاعتقاد)) (ص 70).
  45. (45) يُنظر: ((إجماع السلف في الاعتقاد)) (ص 70).
  46. (46) )) يُنظر: ((شرح السنة)) (ص 120).
  47. (47) يُنظر: ((شرح السنة)) (ص 111).
  48. (48) يُنظر: ((تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة)) (ص: 344).
  49. (49) يُنظر: ((تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة)) (ص: 376).
  50. (50) يُنظر: ((قواعد العقائد)) (ص: 70).
  51. (51) يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/61).
  52. (52) يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/61).
  53. (53) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/284).
  54. (54) يُنظر: ((الدرر الكامنة)) (4/47).
  55. (55) يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/740).