الموسوعة العقدية

المطلبُ الثَّاني: مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ في عَدالةِ الصَّحابةِ، وأدِلَّةُ ثُبوتِ ذلك

تَمهيدٌ:
يَعتَقِدُ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ شَرفَ الصُّحبةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُضيفُ عَلى صاحِبِه إطلاقَ مَفهومِ العَدالةِ عليه، فهم يَقولونَ بتَعديلِ جَميعِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دونَ استِثناءِ أحَدٍ مِنهم.
هَذا، وقَد ثَبَتَت عَدالةُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم في كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وسُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (ثَبَتَت عَدالةُ جَميعِهِم بثَناءِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وثَناءِ رَسولِه عليه السَّلامُ، ولا أعدَلَ مِمَّنِ ارتَضاه اللهُ لصُحبةِ نَبيِّه ونُصرَتِه، ولا تَزكيةَ أفضَلُ من ذلك، ولا تَعديلَ أكمَلُ مِنه) [1818] يُنظر: ((الاستيعاب)) (1/1). .
أوَّلًا: أدِلَّةُ عَدالةِ الصَّحابةِ مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
ورَدَت في القُرآنِ الكَريمِ عِدَّةُ آياتٍ تَذكُرُ صِفاتٍ كريمةً للصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم تُفيدُ في جُملَتِها ثُبوتَ العَدالةِ لهم. ومِن ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218] .
قال قَتادةُ: (أثنى اللهُ عَلى أصحابِ نَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنَ الثَّناءِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 218] .
هَؤُلاءِ خيارُ هَذِه الأمَّةِ ثُمَّ جَعلَهمُ اللهُ أهْلَ رَجاءٍ كما تَسمَعونَ، وأنَّه من رَجا طَلَبَ، ومَن خافَ هَرَبَ) [1819] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/ 669). .
2- قال اللهُ سُبحانَه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
قال الزَّجَّاجُ: (يَعني به أمَّةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقيلَ في مَعنى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ كُنتُم عِندَ اللهِ في اللَّوحِ المَحفوظِ، وقيلَ: كُنتُم مُنذُ آمَنتُم خَيرَ أمَّةٍ، وقال بَعضُهم: مَعنى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ هَذا الخِطابُ أصلُهُ أنَّهُ خُوطِبَ به أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهوَ يَعُمُّ سائِرَ أمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1820] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) (1/456). .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
عن أبي صَخرٍ حُمَيدِ بْنِ زِيادٍ قال: قُلتُ لمُحَمَّدِ بنِ كَعبٍ القُرظيِّ يَومًا: ألَا تُخبِرُني عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما كانَ من رَأيِهِم؟ وإنَّما أُريدُ الفِتَنَ.
فقال: إنَّ اللهَ قَد غَفَرَ لجَميعِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأوجَبَ لهمُ الجَنَّةَ في كِتابِه؛ مُحْسِنِهم ومُسيئِهم.
قُلتُ: في أيِّ مَوضِعٍ أوجَبَ لهمُ الجَنَّةَ في كِتابِه؟ فقال: سُبحانَ اللهِ! ألَا تَقرَأُ قَولَهُ تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إلى آخِرِ الآيةِ، فأوجَبَ اللهُ لجَميعِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنَّةَ والرِّضوانَ، وشَرَطَ عَلى التَّابِعينَ شَرطًا لم يَشتَرِطْه عليهِم.
قُلتُ: وما اشتَرَطَ عليهِم؟ قال: اشتَرَطَ عليهِم أن يَتَّبِعوهم بإحسانٍ، يَقولُ: يَقتَدونَ بأعمالِهِمُ الحَسَنةِ ولا يَقتَدونَ بهِم في غَيرِ ذلك.
قال أبو صَخرٌ: فواللهِ لكَأنِّي لم أَقْرَأْها قَطُّ، وما عَرَفتُ تَفسيرَها حَتَّى قَرَأ عليَّ مُحَمَّدُ بنُ كَعبٍ [1821] ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/520). !
4- قال اللهُ تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 117] .
قال الجَصَّاصُ: (قَولُهُ تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فيه مَدْحٌ لأصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذينَ غَزَوا مَعَهُ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وإخبارٌ بصِحَّةِ بواطِنِ ضَمائِرِهِم وطَهارَتِهِم؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخبِرُ بأنَّه قَد تابَ عليهِم إلَّا وقَد رَضِيَ عنهم ورَضِيَ أفعالَهم، وهَذا نَصٌّ في رَدِّ قَولِ الطَّاعِنين عليهِم والنَّاسِبين إليهِم غَيرَ ما نَسَبهُمُ اللهُ إلَيه مِنَ الطَّهارةِ ووَصفَهم به من صِحَّةِ الضَّمائِرِ وصَلاحِ السَّرائِرِ، رَضِيَ اللهُ عنهم) [1822] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (3/ 205). .
5- قال اللهُ سُبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
قال ابن حجر الهيتمي: (صَرَّح تعالى برِضاهُ عن أولَئِكَ وهم ألفٌ ونَحوُ أربَعِمِائةٍ، ومَن رَضِيَ اللهُ عنه تعالى لا يُمكِنُ مَوتُهُ عَلى الكُفرِ؛ لأنَّ العِبرةَ بالوَفاةِ عَلى الإسلامِ، فلا يَقَعُ الرِّضا مِنهُ تعالى إلَّا عَلى من عَلِمَ مَوتَه عَلى الإسلامِ، وأمَّا من عَلِمَ مَوتَه عَلى الكُفرِ فلا يُمكِنُ أن يُخبِرَ اللهُ تعالى بأنَّه رَضِيَ عنه؛ فعُلِمَ أنَّ كُلًّا من هَذِه الآيةِ وما قَبلَها صَريحٌ في رَدِّ ما زَعَمَهُ وافتَراهُ أولَئِكَ المُلْحِدونَ الجاحِدونَ حَتَّى للقُرآنِ العَزيزِ؛ إذ يَلزَمُ مِنَ الإيمانِ به الإيمانُ بما فيه، وقَد عَلِمْتَ أنَّ الَّذي فيه أنَّهم خَيرُ الأمَمِ، وأنَّهم عُدولٌ أخيارٌ، وأنَّ اللهَ لا يُخزيهِم، وأنَّه راضٍ عنهم؛ فمَن لم يُصَدِّقْ بذلك فيهِم فهوَ مُكَذِّبٌ لِما في القُرآنِ، ومَن كذَّبَ بما فيه مِمَّا لا يَحتَمِلُ التَّأويلَ كانَ كافِرًا جاحِدًا مُلحِدًا مارِقًا) [1823] يُنظر: ((الصواعق المحرقة)) (2/ 605). .
ثانيًا: أدِلَّةُ عدالةِ الصَّحابةِ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
اشتَمَلَتِ السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ عَلى أحاديثَ كثيرةٍ تُبَيِّنُ فضلَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وهيَ بمَجموعِها تُشَكِّلُ دَليلًا عَلى عَدالَتِهِم. ومِن ذلك:
1- عن عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ يَجيءُ قَومٌ تَسبِقُ شَهادةُ أحَدِهِم يَمينَهُ، ويَمينُهُ شَهادَتَه )) [1824] رواه البخاري (3651) واللَّفظُ له، ومسلم (2533). .
 قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ عَلى أنَّ خَيرَ النَّاسِ الَّذينَ صَحِبوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَأوهُ، ثُمَّ التَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، كما قال عَزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) [1825] يُنظر: ((الإفصاح)) (2/ 49). .
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أصحابي، فلَو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَه )) [1826] رواه البخاري (3673) واللَّفظُ له، ومسلم (2541). .
 قال العينيُّ: (يدُلُّ على فَضلِ الصَّحابةِ كُلِّهم على غَيرِهم) [1827] يُنظر: ((عمدة القاري)) (16/ 187). .
3- عن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: صَلَّينا المَغرِبَ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قُلْنا: لو جَلَسْنا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ العِشاءَ. قال: فجَلَسْنا فخَرجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما زِلتُم هاهُنا؟ قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ صَلَّينا مَعَكَ المَغرِبَ، ثُمَّ قُلْنا: نَجلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ العِشاءَ، قال: أحسَنْتُمُ أو أصبَتُم. قال: فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ -وكانَ كثيرًا ما يَرفَعُ رَأسَهُ إلى السَّماءِ- فقال: ((النُّجومُ أَمَنةٌ للسَّماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النُّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدونَ )) [1828] رواه مسلم (2531). .
قال النَّوَويُّ: (مَعنى الحَديثِ أنَّ النُّجومَ ما دامَت باقيةً فالسَّماءُ باقيةٌ، فإذا انكَدَرَتِ النُّجومُ وتَناثَرَت في القيامةِ وَهَنتِ السَّماءُ، فانفَطَرَت وانشَقَّت، وذَهَبَت. وقَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ)) أي: مِنَ الفِتَنِ والحُروبِ وارتِدادِ مَنِ ارتَدَّ مِنَ الأعرابِ، واختِلافِ القُلوبِ، ونَحوِ ذلك مِمَّا أنذَرَ به صَريحًا، وقَد وقَعَ كُلُّ ذلك. قَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدونَ )) مَعناهُ من ظُهورِ البِدَعِ والحَوادِثِ في الدِّين والفِتَنِ فيه، وطُلوعِ قَرنِ الشَّيطانِ، وظُهورِ الرُّومِ وغَيرِهِم عليهِم، وانتِهاكِ المَدينةِ ومَكَّةَ، وغَيرِ ذلك، وهَذِه كُلُّها من مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1829] يُنظر: ((شرح مسلم)) (16/83). .
4- عن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في خُطبةِ الوَداعِ: ((ألا لِيُبلغِ الشَّاهِدُ مِنكم الغائِبَ )) [1830] رواه مطولًا البخاري (105) واللَّفظُ له، ومسلم (1679). .
قال ابنُ حِبَّانَ: (في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا لِيُبلغِ الشَّاهِدُ مِنكم الغائِبَ ))، أعظَمُ الدَّليلِ عَلى أنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ ليسَ فيهِم مَجروحٌ ولا ضَعيفٌ؛ إذ لو كانَ فيهِم مَجروحٌ أو ضَعيفٌ أو كانَ فيهِم أحَدٌ غَيرُ عَدْلٍ، لاستَثنى في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: ألَّا لِيُبلغْ فُلانٌ وفُلانٌ مِنكم الغائِبَ، فلَمَّا أجمَلَهم في الذِّكْرِ بالأمرِ بالتَّبليغِ مَن بَعدَهم، دَلَّ ذلك عَلى أنَّهم كُلَّهم عُدولٌ، وكَفى بمَن عَدَّلَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرَفًا) [1831] يُنظر: ((صحيح ابن حبان)) (1/ 162). !
وقَد دَلَّ القُرآنُ عَلى براءةِ كُلِّ مَن صَحِبَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَجَّةِ الوَداعِ مِنَ النِّفاقِ.
قال اللهُ تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ للْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة: 83] .
قال ابنُ تيميَّةَ: (يَنبَغي أن يُعرَفَ أنَّ المُنافِقِينَ كانوا قَليلينَ بالنِّسبةِ إلى المُؤمِنينَ، وأكثَرُهمُ انكَشَفَ حالُهُ لَمَّا نَزَلَ فيهِمُ القُرآنُ وغَيرُ ذلك... والصَّحابةُ المَذكورونَ في الرِّوايةِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والَّذينَ يُعَظِّمُهمُ المُسْلِمونَ عَلى الدِّينِ، كُلُّهم كانوا مُؤمِنينَ به، ولَم يُعظِّمِ المُسْلِمونَ -وللهِ الحَمدُ- عَلى الدِّين مُنافِقًا. والإيمانُ يُعلَمُ مِنَ الرَّجُلِ كما يُعلَمُ سائِرُ أحوالِ قَلبِه من موالاتِه ومُعاداتِه، وفَرحِه وغَضَبِه، وجُوعِه وعَطَشِه، وغَيرِ ذلك، فإنَّ هَذِه الأمورَ لها لوازِمُ ظاهِرةٌ، والأمورُ الظَّاهِرةُ تَستَلزِمُ أمورًا باطِنةً، وهَذا أمرٌ يَعرِفُهُ النَّاسُ فيمَن جَرَّبوهُ وامتَحَنوهُ. ونَحنُ نَعلَمُ بالِاضطِرارِ أنَّ ابنَ عُمرَ وابنَ عَبَّاسٍ وأنَسَ بنَ مالِكٍ وأبا سَعيدٍ الخُدْريَّ وجابِرًا ونَحوَهم، كانوا مُؤمِنينَ بالرَّسولِ، مُحِبِّينَ لهُ مُعظِّمين لهُ، ليسوا مُنافِقين، فكَيفَ لا يُعلَمُ ذلك في مِثلِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ الَّذينَ أخبارُهم وإيمانُهم ومَحَبَّتُهم ونَصْرُهم لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد طَبقَتِ البِلادَ مُشارِقَها ومَغارِبَها؟! فهَذا مِمَّا يَنبَغي أن يُعرَفَ، ولا يُجعَلَ وُجودُ قَومٍ مُنافِقِينَ موجِبًا للشَّكِّ في إيمانِ هَؤُلاءِ الَّذينَ لهم في الأمَّةِ لِسانُ صِدقٍ، بَل نَحنُ نَعلَمُ بالضَّرورةِ إيمانَ سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ وعَلقَمةَ والأسوَدِ ومالِكٍ والشَّافِعيِّ وأحمَدَ والفُضَيلِ والجُنَيدِ، ومَن هو دونَ هَؤُلاءِ، فكَيفَ لا يُعلَمُ إيمانُ الصَّحابةِ؟! ونَحنُ نَعلَمُ إيمانَ كثيرٍ مِمَّن باشَرناهُ مِنَ الأصحابِ؟! فهَذا يُقالُ أوَّلًا، ويُقالُ ثانيًا: وهوَ ما ذَكَرهُ أحمَدُ وغَيرُه، ولا أعلَمُ بَينَ العُلَماءِ فيه نِزاعًا: أنَّ المُهاجِرينَ لم يَكُن فيهِم مُنافِقٌ أصلًا، وذلك لأنَّ المُهاجِرينَ إنَّما هاجَروا باختيارِهِم لَمَّا آذاهمُ الكُفَّارُ عَلى الإيمانِ وهم بمَكَّةَ، لم يَكُن يُؤمِنُ أحَدُهم إلَّا باختيارِه، بَل مَعَ احتِمالِ الأذى، فلَم يَكُنْ أحَدٌ يَحتاجُ أن يُظهِرَ الإيمانَ ويُبْطِنَ الكُفرَ، لا سيَّما إذا هاجَر إلى دارٍ يَكونُ فيها سُلْطانُ الرَّسولِ عليه، ولَكِن لَمَّا ظَهَرَ الإسلامُ في قَبائِلِ الأنصارِ صارَ بَعضُ من لم يُؤمِنْ بقَلبِه يَحتاجُ إلى أن يُظهِرَ موافَقةَ قَومِه؛ لأنَّ المُؤمِنين صارَ لهم سُلْطانٌ وعِزٌّ ومَنَعةٌ) [1832] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (8/ 474 - 476). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (الصَّحابةُ لم يَكُن فيهِم مَن يَتَعَمَّدُ الكَذِبَ عَلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأهْلُ العِلمِ يَعلَمونَ بالِاضطِرارِ أنَّ مِثلَ مالِكٍ وشُعبةَ ويَحيى بْنِ سَعيدٍ والثَّوريِّ والشَّافِعيِّ وأحمَدَ ونَحوِهم، لم يَكونوا يَتَعَمَّدونَ الكَذِبَ عَلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَل ولا عَلى غَيرِه، فكَيفَ بابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ وأبي سَعيدٍ، وغَيرِهِم؟!) [1833] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (7/ 270). .
وقال المِزِّيُّ: (لم يوجَدْ قَطُّ رِوايةٌ عَمَّن لُمِزَ بالنِّفاقِ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم) [1834] يُنظر: ((التحبير شرح التحرير)) للمرداوي (4/ 1995). .
قال الخَطيبُ البَغْداديُّ: (عَلى أنَّه لو لم يَرِدْ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهِم شَيءٌ مِمَّا ذَكَرْناهُ، لأوجَبَتِ الحالُ الَّتي كانوا عليها مِنَ الهِجرةِ والجِهادِ والنُّصرةِ، وبَذْلِ المُهَجِ والأموالِ، وقَتْلِ الآباءِ والأولادِ، والمُناصَحةِ في الدِّينِ، وقوَّةِ الإيمانِ واليَقينِ- القَطعَ عَلى عَدالَتِهِم، والاعتِقادَ لنَزاهَتِهِم، وأنَّهم أفضَلُ من جَميعِ المُعَدَّلين والمُزَكِّينَ الَّذينَ يَجِيئونَ من بَعدِهِم أبَدَ الآبِدِينَ) [1835] يُنظر: ((الكفاية)) (ص: 48). .
ثالِثًا: الإجماعُ على ثُبوتِ عَدالةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
حَكى عَدَدٌ من أهلِ العِلمِ إجماعَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ عَلى أنَّ جَميعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم عُدولٌ.
1- قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (ونَحنُ وإن كانَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم قَد كُفِينا البَحثَ عن أحوالِهِم؛ لإجماعِ أهلِ الحَقِّ مِنَ المُسْلِمينَ -وهم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ- عَلى أنَّهم كُلَّهم عُدولٌ، فواجِبٌ الوُقوفُ عَلى أسمائِهِم، والبَحثُ عن سِيَرِهِم وأحوالِهِم؛ ليُهتَدى بهُداهم) [1836])) يُنظر: ((الاستيعاب)) (1/19). .
وقال أيضًا: (لا فَرْقَ بَينَ أن يُسَمِّيَ التَّابِعُ الصَّاحِبَ الَّذي حَدَّثَهُ أو لا يُسَمِّيَه، في وُجوبِ العَمَلِ بحَديثِه؛ لأنَّ الصَّحابةَ كُلَّهم عُدولٌ مَرضِيُّونَ ثِقاتٌ أثباتٌ، وهَذا أمرٌ مُجتَمَعٌ عليه عِندَ أهلِ العِلمِ بالحَديثِ) [1837])) يُنظر: ((التمهيد)) (22/47). .
2- قال ابنُ الصَّلاحِ: (للصَّحابةِ بأسرِهِم خَصيصةٌ، وهيَ أنَّه لا يُسألُ عن عَدالةِ أحَدٍ مِنهم، بَل ذلك أمرٌ مَفروغٌ مِنهُ؛ لكَونِهِم عَلى الإطلاقِ مُعَدَّلين بنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ مَن يُعتَدُّ به في الإجماعِ مِنَ الأمَّةِ. قال اللهُ تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية. قيلَ: اتَّفَقَ المُفَسِّرونَ عَلى أنَّه وارِدٌ في أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وهَذا خِطابٌ مَعَ المَوجودينَ حينَئِذٍ. وقال سُبحانَه وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح: 29] الآيةُ. وفي نُصوصِ السُّنَّةِ الشَّاهِدةِ بذلك كثرةٌ؛ مِنها حَديثُ أبي سَعيدٍ المُتَّفَقُ عَلى صِحَّتِه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فوالَّذي نَفسي بيدِه لو أنَّ أحَدَكم أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه )) [1838] رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) باختلاف يسير. . ثُمَّ إنَّ الأمَّةَ مُجْمِعةٌ عَلى تَعديلِ جَميعِ الصَّحابةِ، ومَن لابَسَ الفِتَنَ مِنهم فكَذلك بإجماعِ العُلَماءِ الَّذينَ يُعتَدُّ بهِم في الإجماعِ؛ إحسانًا للظَّنِّ بهِم ونَظَرًا إلى ما تَمهَّد لهم مِنَ المآثِرِ، وكَأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أتاحَ الإجماعَ عَلى ذلك؛ لكَونِهِم نَقَلةَ الشَّريعةِ. واللهُ أعلَمُ) [1839] يُنظر: ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص: 397). .
3- قال القُرطُبيُّ: (الصَّحابةُ كُلُّهم عُدولٌ، أولياءُ اللهِ تعالى وأصفياؤُهُ، وخِيرَتُهُ من خَلقِه بَعدَ أنبيائِه ورُسُلِه. هَذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ، والَّذي عليه الجَماعةُ من أئِمَّةِ هَذِه الأمَّةِ. وقَد ذَهَبَت شِرْذِمةٌ لا مُبالاةَ بهِم إلى أنَّ حالَ الصَّحابةِ كحالِ غَيرِهِم، فيَلزَمُ البَحثُ عن عَدالَتِهِم. ومِنهم من فرَّقَ بَينَ حالِهِم في بُداءةِ الأمرِ فقال: إنَّهم كانوا عَلى العَدالةِ إذ ذاكَ، ثُمَّ تَغَيَّرَت بهِمُ الأحوالُ فظَهَرَت فيهِمُ الحُروبُ وسَفْكُ الدِّماءِ، فلا بُدَّ مِنَ البَحثِ. وهَذا مَردودٌ؛ فإنَّ خيارَ الصَّحابةِ وفُضَلاءَهم كعَلِيٍّ وطَلحةَ والزُّبَيْرِ وغَيرِهم رَضِيَ اللهُ عنهم، مِمَّن أثنى اللهُ عليهِم وزَكَّاهم ورَضِيَ عنهم وأرضاهم ووَعَدَهمُ الجَنَّةَ بقَولِه تعالى: مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا. وخاصَّةً العَشَرةَ المَقطوعَ لهم بالجَنَّةِ بإخبارِ الرَّسولِ همُ القُدوةُ مَعَ عِلمِهِم بكَثيرٍ مِنَ الفِتَنِ والأُمورِ الجاريةِ عليهِم بَعدَ نَبيِّهِم بإخبارِه لهم بذلك. وذلك غَيرُ مُسقِطٍ مِن مَرتَبَتِهِم وفَضْلِهم؛ إذ كانَت تِلكَ الأمورُ مَبنيَّةً عَلى الِاجتِهادِ، وكُلُّ مُجتَهِدٍ مُصيبٌ) [1840] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/ 299). .
4- قال النَّوَويُّ: (الصَّحابةُ كُلُّهم عُدولٌ، من لابَسَ الفِتَنَ وغَيرُهُم، بإجماعِ مَن يُعتَدُّ به)  [1841]يُنظر: ((التقريب والتيسير)) (ص: 92). .
5- قال ابنُ تيميَّةَ: (الَّذي عليه سَلَفُ الأمَّةِ وجُمهورُ الخَلفِ أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم كُلَّهم عُدولٌ بتَعديلِ اللهِ تعالى لهم) [1842] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 292). .
6- قال ابنُ كثيرٍ: (الصَّحابةُ كُلُّهم عُدولٌ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ؛ لِمَا أثنى اللهُ عليهِم في كِتابِه العَزيزِ، وبِما نَطَقَتْ به السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ في المَدحِ لهم في جَميعِ أخلاقِهِم وأفعالِهِم، وما بذَلوه مِنَ الأموالِ والأرواحِ بَينَ يَدَي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ رَغبةً فيما عِندَ اللهِ مِنَ الثَّوابِ الجَزيلِ، والجَزاءِ الجَميلِ. وأمَّا ما شَجَر بَينَهم بَعدَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فمِنهُ ما وقَعَ عن غَيرِ قَصدٍ، كيومِ الجَمَلِ، ومِنهُ ما كانَ عنِ اجتِهادٍ، كيَومِ صِفِّينَ. والاجتِهادُ يُخطِئُ ويُصيبُ، ولَكِنَّ صاحِبَهُ مَعذورٌ وإن أخطَأ، ومَأجورٌ أيضًا، وأمَّا المُصيبُ فلَهُ أجرانِ اثنانِ، وكانَ عليٌّ وأصحابُه أقرَبَ إلى الحَقِّ من مُعاويةَ وأصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ.
وقَولُ المُعتَزِلةِ: الصَّحابةُ عُدولٌ إلَّا من قاتَلَ عَلِيًّا؛ قَولٌ باطِلٌ مَرذولٌ ومَردودٌ) [1843] يُنظر: ((اختصار علوم الحديث)) (ص: 181). .
7- قال المُناويُّ: (قَدِ اتَّفَقَ أهلُ السُّنَّةِ عَلى أنَّ جَميعَ الأصحابِ عُدولٌ) [1844] يُنظر: ((فيض القدير)) (1/263). .
8- قال الشَّوكانيُّ: (اعلَمْ أنَّ ما ذَكَرناهُ من وُجوبِ تَقديمِ البَحثِ عن عَدالةِ الرَّاوي إنَّما هو في غَيرِ الصَّحابةِ، فأمَّا فيهِم فلا؛ لأنَّ الأصلَ فيهِمُ العَدالةُ فتُقبَلُ روايَتُهم من غَيرِ بَحثٍ عن أحوالِهِم، حَكاهُ ابنُ الحاجِبِ عنِ الأكثَرينَ، قال القاضي: هو قَولُ السَّلَفِ وجُمهورِ الخَلَفِ، وقال الجُوينيُّ بالإجماعِ.
ووَجهُ هَذا القَولِ ما ورَدَ مِنَ العُموماتِ المُقتَضيةِ لتَعديلِهِم كِتابًا وسُنَّةً) [1845] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/ 185). .
9- قال أبو الثَّناءِ الألوسيُّ: (اعلَمْ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ إلَّا من شَذَّ أجمَعوا عَلى أنَّ جَميعَ الصَّحابةِ عُدولٌ، يَجِبُ عَلى الأمَّةِ تَعظيمُهم)  [1846] يُنظر: ((الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية)) (ص 9). .
رابِعًا: من أقوالِ أهْلِ العِلمِ في ثُبوتِ عَدالةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
1- قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي حاتمٍ الرَّازيُّ: (فأمَّا أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهمُ الَّذينَ شَهِدوا الوَحْيَ والتَّنزيلَ، وعَرَفوا التَّفسيرَ والتَّأويلَ، وهمُ الَّذينَ اختارَهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ لصُحبةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُصرَتِه، وإقامةِ دينِه، وإظهارِ حَقِّه، فرَضِيَهم لهُ صَحابةً، وجَعلَهم لنا أعلامًا وقُدوةً، فحَفِظوا عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما بَلغَهم عنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وما سَنَّ وشَرعَ، وحَكمَ وقَضى، ونَدَب وأمرَ، ونَهى وحَظَرَ وأدَّب، ووَعَوهُ وأتَقَنوهُ، ففَقِهوا في الدِّينِ، وعَلِموا أمرَ اللهِ ونَهْيَه ومُرادَه، بمُعايَنةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومُشاهَدَتِهِم مِنهُ تَفسيرَ الكِتابِ وتَأويلَهُ، وتَلَقُّفِهم مِنهُ، واستِنباطِهم عنه، فشَرَّفَهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بما مَنَّ عليهِم وأكرَمَهم به من وَضْعِه إيَّاهم مَوضِعَ القُدوةِ، فنَفى عنهمُ الشَّكَّ والكَذِبَ والغَلَطَ والرِّيبةَ والغَمزَ، وسَمَّاهُم عُدولَ الأمَّةِ، فقال عَزَّ ذِكرُهُ في مُحكَمِ كِتابِه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البَقرة: 143] ، ففَسَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ اللهِ عَزَّ ذِكرُهُ قَولَه: وَسَطًا قال: عَدْلًا [1847] رواه البخاري (7349) مطولًا من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه. ، فكانوا عُدولَ الأمَّةِ، وأئِمَّةَ الهُدى، وحُجَجَ الدِّينِ ونَقَلةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. ونَدَب اللهُ عَزَّ وجَلَّ إلى التَّمَسُّكِ بهَدْيِهِم، والجَرْيِ عَلى مِنهاجِهِم، والسُّلوكِ لسَبيلِهِم، والاقتِداءِ بهِم، فقال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النِّساءُ: 115] الآية. ووَجَدْنا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد حَضَّ عَلى التَّبليغِ عنه في أخبارٍ كثيرةٍ، ووَجَدْناهُ يُخاطِبُ أصحابَهُ فيها، مِنها أنْ دَعا لهم فقال: ((نَضَّر اللهُ امرَأً سَمِعَ مَقالتي فحَفِظَها ووَعاها حَتَّى يُبَلِّغَها غَيرَه)) [1848] أخرجه من طرق أبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) مطولًا باختلاف يسير من حديثِ زيد بن ثابت رضي الله عنه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (680)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/327)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/368). . وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خُطبَتِه: ((فلْيُبلغِ الشَّاهِدُ مِنكم الغائِبَ)) [1849] رواه البخاري (105)، ومسلم (1679) مطولًا باختلاف يسير من حديثِ أبي بكرة رضي الله عنه. ، وقال: ((بَلِّغُوا عنِّي ولَو آيةً، وحَدِّثوا عنِّي ولا حَرَجَ)) [1850] رواه البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بلِّغوا عني ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حَرَجَ..)). .
ثُمَّ تَفَرَّقَتِ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم في النَّواحي والأمصارِ والثُّغورِ، وفي فُتوحِ البُلْدانِ والمَغازي والإمارةِ والقَضاءِ والأحكامِ، فبَثَّ كُلُّ واحِدٍ مِنهم في ناحيَتِه وبِالبَلَدِ الَّذي هو به ما وعاهُ وحَفِظَهُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَكَموا بحُكمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأمضَوُا الأمورَ عَلى ما سَنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأفتَوا فيما سُئِلوا عنه مِمَّا حَضَرَهم من جَوابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن نَظائِرِها مِنَ المَسائِلِ، وجَرَّدوا أنفُسَهم مَعَ تَقْدِمةِ حُسْنِ النِّيَّةِ والقُربةِ إلى اللهِ تَقدَّسَ اسمُهُ، لتَعليمِ النَّاسِ الفَرائِضَ والأحكامَ والسُّننَ، والحَلالَ والحَرامَ، حَتَّى قَبضَهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ رِضوانُ اللهِ ومَغفِرَتُه ورَحمَتُه عليهِم أجمَعينَ) [1851] يُنظر: ((الجرح والتعديل)) (1/7). .
2- قال الخَطيبُ البَغْداديُّ: (بابٌ: ما جاءَ في تَعديلِ اللهِ ورَسولِه للصَّحابةِ، وأنَّه لا يُحتاجُ للسُّؤالِ عنهم، وإنَّما يَجِبُ ذلك فيمَن دونَهم.
كُلُّ حَديثٍ اتَّصَلَ إسنادُهُ بَينَ من رواه وبَينَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لم يَلزَمِ العَمَلُ به إلَّا بَعدَ ثُبوتِ عَدالةِ رِجالِه، ويَجِبُ النَّظَرُ في أحوالِهِم، سِوى الصَّحابيِّ الَّذي رَفعَهُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ عَدالةَ الصَّحابةِ ثابِتةٌ مَعلومةٌ بتَعديلِ اللهِ لهم وإخبارِه عن طَهارَتِهِم، واختيارِه لهم في نَصِّ القُرآنِ) [1852] يُنظر: ((الكفاية)) (ص: 46). .
3- قال الباجي: (الصَّحابةُ كُلُّهم عِندَنا عُدولٌ بتَعديلِ اللهِ تعالى لهم، وإخبارِه عن طَهارَتِهِم وتَفضيلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم، فلا يُحتاجُ إلى السُّؤالِ عن حالِهِم، ولا إلى البَحثِ عن عَدالَتِهِم)  [1853]يُنظر: ((إحكام الفصول)) (1/ 380). .
4- قال الغَزاليُّ: (ذَكَرَ اللهُ تعالى المُهاجِرينَ والأنصارَ في عِدَّةِ مَواضِعَ، وأحسَنَ الثَّناءَ عليهِم، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْني ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم)) [1854] أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) مطولًا من حديثِ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو أنفَقَ أحَدُكم مِلءَ الأرضِ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِم ولا نَصيفَه ُ)) [1855] رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه بلفظ: ((..أنفق مِثْلَ أحُدٍ ذَهَبًا..)). ... أيُّ تَعديلٍ أصَحُّ من تَعديلِ عَلَّامِ الغُيوبِ سُبحانَه وتَعديلِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! كيفَ ولَو لم يَرِدِ الثَّناءُ لكانَ فيما اشتَهَرَ وتَواتَرَ من حالِهِم في الهِجْرةِ والجِهادِ وبَذلِ المُهَجِ والأموالِ وقَتْلِ الآباءِ والأهْلِ في مُوالاةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونُصرَتِه كِفايةٌ في القَطْعِ بعَدالَتِهِم؟) [1856] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 130). .
5- قال ابنُ كثيرٍ: (هم عُدولٌ كُلُّهم. وأمَّا طَوائِفُ الرَّوافِضِ وجَهْلُهم وقِلَّةُ عَقلِهِم، ودَعاويهِم أنَّ الصَّحابةَ كفَروا إلَّا سَبعةَ عَشَرَ صَحابيًّا، وسَمَّوهم؛ فهوَ مِنَ الهَذَيانِ بلا دَليلٍ، إلَّا مُجَرَّدَ الرَّأيِ الفاسِدِ عن ذِهنٍ بارِدٍ، وهوًى مُتَّبَعٍ، وهوَ أقَلُّ من أن يُرَدَّ. والبُرهانُ عَلى خِلافِه أظهَرُ وأشهَرُ، مِمَّا عُلِمَ مِنِ امتِثالِهِم أوامِرَهُ بَعدَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفَتْحِهمُ الأقاليمَ والآفاقَ، وتَبليغِهم عنه الكِتابَ والسُّنَّةَ، وهَدايَتِهِمُ النَّاسَ إلى طَريقِ الجَنَّةِ، ومواظَبَتِهم عَلى الصَّلَواتِ والزَّكَواتِ وأنواعِ القُرُباتِ، في سائِرِ الأحيانِ والأوقاتِ، مَعَ الشَّجاعةِ والبَراعةِ، والكَرَمِ والإيثارِ، والأخلاقِ الجَميلةِ) [1857] يُنظر: ((اختصار علوم الحديث)) (ص: 181 - 183). .
9- قال ابنُ أبي شَريفٍ شارِحًا كلامَ الكَمالِ بنِ الهمامِ: («واعتِقادُ أهلِ السُّنَّةِ» والجَماعةِ «تَزكيةُ جَميعِ الصَّحابةِ» رَضِيَ اللهُ عنهم وُجوبًا، بإثباتِ العَدالةِ لكُلٍّ مِنهم، والكَفِّ عنِ الطَّعنِ فيهِم، «والثِّناءِ عليهِم كما أثنى اللهُ سُبحانَه وتعالى عليهِم... ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»)  [1858]يُنظر: ((المسامرة في شرح المسايرة)) (2/158). .
10- قال ابنُ باز: (إنَّ صَحابَتَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هم خَيرُ الأمَّةِ، وهم أفضَلُها، فيَجِبُ حُسنُ الظَّنِّ بهِم، واعتِقادُ عَدالَتِهِم، وأنَّهم خَيرُ الأمَّةِ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّهم حَمَلةُ السُّنَّةِ وحَمَلةُ القُرآنِ؛ فوَجَبُ السَّيرُ عَلى مِنهاجِهِم والتَّرضِّي عنهم جَميعًا) [1859] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/ 246). .

انظر أيضا: