الموسوعة العقدية

المَطْلَب الأوَّلُ: أدِلَّة العُذرِ بالجَهْلِ

العُذرُ بالجَهْلِ هو مُقتضى أدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
قال ابنُ عثيمين: (أمَّا العُذرُ بالجَهلِ فهذا مقتضى عمومِ النُّصوصِ، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يأتيَ بدليلٍ يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ لا يُعذَرُ بالجَهلِ... ولولا العذرُ بالجَهلِ لم يكُنْ للرُّسُلِ فائدةٌ، ولكان النَّاسُ يُلزَمون بمقتضى الفِطرةِ، ولا حاجةَ لإرسالِ الرُّسُلِ، فالعُذرُ بالجَهلِ هو مُقتضى أدِلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، وقد نَصَّ على ذلك أئمَّةُ أهلِ العِلمِ) [1433] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 33). .
أولًا: الأدِلَّةُ من القُرآنِ الكريمِ:
1- قال اللهُ تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
2- قال اللهُ سُبحانَه: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47] .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .
فهذه الآياتُ تَنُصُّ على أنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ النَّاسَ إلَّا بعد أن يُبَيِّنَ لهم ويُعَلِّمَهم طريقَ رَبِّهم، ولا تكونُ المؤاخَذةُ إلَّا بعد العِلمِ.
4- قال اللهُ تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَاكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 113] .
قال ابنُ حزمٍ: (فهؤلاء الحواريُّون الذين أثنى الله عزَّ وجلَّ عليهم قد قالوا بالجَهلِ لعيسى عليه السَّلامُ: هل يستطيعُ رَبُّك أن يُنَزِّلَ علينا مائدةً من السَّماءِ؟! ولم يَبطُلْ بذلك إيمانُهم، وهذا ما لا مَخْلَصَ منه، وإنَّما كانوا يَكفُرون لو قالوا ذلك بعد قيامِ الحُجَّةِ وتبيينِهم لها) [1434] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/141). .
5- قال اللهُ سُبحانَه عن قَولِ بني إسرائيلَ لِموسى عليه السَّلامُ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] .
 قال البَغَويُّ: (قالت بنو إسرائيلَ لَمَّا رأوا ذلك، قالوا: يا موسى اجعَلْ لنا إلهًا، أي: مِثالًا نَعبُدُه كما لهم آلهةٌ، ولم يكُنْ ذلك شكًّا من بني إسرائيلَ في وَحْدانيَّةِ اللهِ، وإنَّما معناه: اجعَلْ لنا شيئًا نُعَظِّمُه ونتقَرَّبُ بتعظيمِه إلى اللهِ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يَضُرُّ الدِّيانةَ، وكان ذلك لشِدَّةِ جَهْلِهم. قال موسى: إنَّكم قَومٌ تَجهَلونَ عظَمةَ اللهِ) [1435] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/227). .
6- قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التوبة: 115] .
 قال البَغَوي: (معناه: ما كان اللهُ ليَحكُمَ عليكم بالضَّلالةِ بتَرْكِ الأوامِرِ وباستغفارِكم للمُشرِكين، حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتَّقون، يريدُ: حتى يتقَدَّمَ إليكم بالنَّهيِ، فإذا بَيَّن ولم تأخُذوا به، فعند ذلك تستحِقُّون الضَّلالَ) [1436] ينظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 396). .
7- قال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .
قال ابنُ كثير: (قَولُه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أي: ومن سلك غيرَ طريقِ الشَّريعةِ التي جاء بها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصار في شِقٍّ والشَّرعُ في شِقٍّ، وذلك عن عَمدٍ منه بعدما ظَهَر له الحَقُّ وتبَيَّن له واتَّضَح له) [1437] ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 412). .
8- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 42] .
 وقال البَغَوي: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، أي: ليموتَ من يموتُ على بيِّنةٍ رآها وعِبرةٍ عاينها وحُجَّةٍ قامت عليه. وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، ويعيشَ من يعيشُ على بيِّنةٍ لوَعْدِه، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] . وقال محمَّدُ بن إسحاقَ: ليَكفُرَ من كَفَر بعد حُجَّةٍ قامت عليه، ويؤمِنَ من آمن على مِثلِ ذلك، فالهَلاكُ هو الكُفرُ، والحياةُ هي الإيمانُ) [1438] ينظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 297). .
الأدِلَّة من السُّنَّة:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان رجُلٌ يُسرِفُ على نَفْسِه، فلمَّا حضره الموتُ قال لبنيه: إذا أنا مِتُّ فأحرِقوني، ثم اطحَنُوني، ثم ذَرُّوني في الرِّيحِ؛ فوالله لَئِن قَدَر عليَّ رَبِّي ليُعَذِّبَنِّي عذابًا ما عَذَّبه أحدًا! فلما مات فُعِلَ به ذلك، فأمر اللهُ الأرضَ، فقال: اجمَعِي ما فيكِ منه. ففعَلَتْ فإذا هو قائِمٌ، فقال: ما حمَلَك على ما صَنْعَتْ؟! قال: يا رَبِّ، خَشْيَتُك. فغَفَر له )). وفي لفظٍ: ((مخافتُك يا رَبِّ)) [1439] أخرجه البخاري (3482) واللفظ له، ومسلم (2756). .
قال ابنُ بطَّال: (وقال آخَرون: بل غَفَر له وإن كان كُفْرًا من قَولِه؛ من أجْلِ أنَّه قاله على جَهلٍ منه بخَطَئِه؛ فظَنَّ أنَّ ذلك صوابٌ. قالوا: وغيرُ جائزٍ في عَدْلِ اللهِ وحِكْمَتِه أن يسَوِّيَ بين من أخطأ وهو يقصِدُ الصَّوابَ، وبين من تعَمَّد الخطَأَ والعنادَ للحَقِّ، في العِقابِ)  [1440]يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 192). .
وقال ابنُ حزم: (فهذا إنسانٌ جَهِل إلى أن مات أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقدِرُ على جَمعِ رَمادِه وإحيائِه، وقد غُفِرَ له؛ لإقرارِه وخَوْفِه وجَهْلِه) [1441]  يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/140). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فهذا الرَّجُلُ اعتقد أنَّ اللهَ لا يقدِرُ على جَمعِه إذا فعل ذلك أو شَكَّ، وأنَّه لا يبعَثُه، وكُلٌّ من هذينِ الاعتقادينِ كُفرٌ، يكفُرُ من قامت عليه الحُجَّةُ، لكِنَّه كان يجهَلُ ذلك، ولم يبلُغْه العِلمُ بما يرُدُّه عن جَهْلِه، وكان عنده إيمانٌ باللهِ وبأمْرِه ونَهْيِه ووَعْدِه ووَعيدِه، فخاف مِن عقابِه، فغَفَر اللهُ له بخَشْيَتِه) [1442]  يُنظر: ((الاستقامة)) (1/164). .
2- عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا خرجَ إلى خيبرَ مرَّ بشَجرةٍ للمُشرِكينَ يقالُ لَها ذاتُ أنواطٍ يعلِّقونَ عليْها أسلحتَهم فقالوا: يا رسولَ اللهِ اجعَل لنا ذاتَ أنواطٍ كما لَهم ذاتُ أنواطٍ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سبحانَ اللهِ! هذا كما قالَ قومُ موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، والَّذي نفسي بيدِهِ لترْكبُنَّ سُنَّةَ مَن كانَ قبلَكم )) [1443] أخرجه الترمذي (2180) واللفظ له، وأحمد (21897). صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (6702)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2180)، وصَحَّح إسناده على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21897). .
وفي رواية: (خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى حُنَينٍ ونحن حُدَثاءُ عَهدٍ بكُفرٍ) [1444] أخرجها ابن أبي عاصم في ((السنة)) (76)، والطبراني (3/244) (3291) واللفظ له، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (2021). صحَّح إسناده ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (3/337)، وحسنه الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (76). .
فهؤلاء جُهَّالٌ؛ حديثو العَهدِ بكُفرٍ، طلبوا الشِّركَ ولم يفعَلوه فلم يُكَفِّرْهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لجَهْلِهم بسَبَبِ حَداثةِ عَهْدِهم بالإسلامِ، لكِنَّه أنكر عليهم إنكارًا شديدًا.
قال محمَّدُ بنُ عبد الوهَّابِ: (حُكمُ من وقع من المسلِمين في نوعٍ من الشِّركِ جَهلًا ثمَّ تاب منه.
ولكِنْ للمُشرِكين شُبهةٌ يُدلُون بها عند هذه القِصَّةِ، وهي أنَّهم يقولونَ: إنَّ بني إسرائيلَ لم يَكفُروا، وكذلك الذين قالوا: اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ، لم يكفُروا.
فالجوابُ أن نقولَ: إنَّ بني إسرائيلَ لم يفعَلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يفعلوا ذلك، ولا خِلافَ أنَّ بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكَفَروا، وكذلك لا خِلافَ في أنَّ الذين نهاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو لم يُطيعوه واتَّخَذوا ذاتَ أنواطٍ بعد نَهْيِه، لكَفَروا [1445] أي: أنَّهم لو اتَّخَذوا ذاتَ أنواطٍ قبل نَهْيِهم وإقامةِ الحُجَّةِ عليهم لا يَكفُرونَ؛ لجَهْلِهم. ، وهذا هو المطلوبُ.
ولكِنْ هذه القِصَّةُ تفيدُ أنَّ المسلِمَ بل العالمَ قد يقَعُ في أنواعٍ من الشِّركِ لا يدري عنها، فتفيدُ التعَلُّمَ والتحَرُّزَ، ومعرفةَ أنَّ قَولَ الجاهِلِ: «التوحيدُ فَهِمْناه» أنَّ هذا من أكبرِ الجَهلِ ومكائِدِ الشَّيطانِ.
وتفيدُ أيضًا أنَّ المسلِمَ المجتَهِدَ إذا تكَلَّم بكلامٍ كُفرٍ وهو لا يدري، فنُبِّهَ على ذلك فتاب من ساعتِه؛ أنَّه لا يكفُرُ، كما فعل بنو إسرائيلَ، والذين سألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)  [1446]يُنظر: ((كشف الشبهات)) (ص: 44). .
 قال ابنُ عُثَيمين مُعَلِّقًا على كلامِ محمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَّابِ: (قَولُه: «وتفيدُ أيضًا أنَّ المسلِمَ المجتَهِدَ... إلخ» هذه هي الفائدةُ الثَّانيةُ: أنَّ المسلِمَ إذا قال ما يقتضي الكُفرَ جاهِلًا بذلك، ثمَّ نُبِّه فانتَبَه وتاب في الحالِ، فإنَّ ذلك لا يَضُرُّه؛ لأنَّه معذورٌ بجَهْلِه، ولا يكَلِّفُ اللهُ نفسًا إلَّا وُسْعَها، أمَّا لو استمَرَّ على ما عَلِمَه من الكُفرِ فإنَّه يُحكَمُ بما تقتضيه حالُه)  [1447]يُنظر: ((شرح كشف الشبهات)) (ص: 91) .

انظر أيضا: