المَبحثُ الأوَّلُ: بيانُ قَولِ أهل ِالسُّنَّةِ في الاستثناءِ ومأخَذُهم فيه وأدِلَّتُهم عليه
مجمَلُ قَولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في هذه المسألةِ هو أنَّ الاستثناءَ في الإيمانِ جائِزٌ مَشروعٌ؛ لأنَّ الإيمانَ عندهم شامِلٌ للاعتقاداتِ والأقوالِ والأعمالِ، فإذا سُئِلَ أحَدُهم هذا السُّؤالَ استثنى في إيمانِه، فيقولُ إذا أجاب: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، أو نحوَ ذلك من العباراتِ
.
والاستثناءُ يكونُ في الإيمانِ المطلَقِ (الإيمانُ الكامِلُ التَّامُّ)، ولا يكونُ في مُطلَقِ الإيمانِ (أصل الإيمان).
قال عبدُ الرحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ: (مُطلَقُ الإيمانِ هو: وَصفُ المسلِمِ الذي معه أصلُ الإيمانِ، الذي لا يتِمُّ إسلامُه إلَّا به، بل لا يَصِحُّ إلَّا به، فهذا في أدنى مراتِبِ الدِّينِ، إذا كان مصِرًّا على ذنبٍ، أو تاركًا لِما وجب عليه مع القُدرةِ عليه. والمرتبةُ الثانيةُ من مراتِبِ الدِّينِ: مَرتَبةُ أهلِ الإيمانِ المطْلَقِ، الذين كَمَل إسلامُهم وإيمانُهم بإتيانِهم بما وَجَب عليهم، وتَرْكِهم ما حَرَّمه اللهُ عليهم، وعَدَمِ إصرارِهم على الذنوبِ؛ فهذه هي المرتبةُ الثانيةُ التي وعد اللهُ أهْلَها بدُخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِنَ النَّارِ، كقَولِه تعالى:
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية
[الحديد: 21] ، فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمالُ الظَّاهِرةُ والباطِنةُ، ففَعَلوا ما أوجبه اللهُ عليهم، وترَكوا ما حَرَّم اللهُ عليهم، وهم السُّعَداءُ أهلُ الجَنَّةِ، واللهُ سُبحانَه أعلَمُ)
.
ولهم على ذلك دلائِلُ وشواهِدُ كثيرةٌ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وعلى هذا مضى مذهَبُهم واتَّفَقَت كَلِمَتُهم.
قال الوليدُ بنُ مُسلمٍ: (سَمِعتُ
أبا عمرٍو -يعني:
الأوزاعِيَّ- و
مالِكَ بنَ أنسٍ، وسعيدَ بنَ عبدِ العزيزِ: يُنكِرونَ أن يقولَ: أنا مؤمِنٌ، ويأذَنون في الاستثناءِ أن يقولَ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ)
.
وقال
البيهقيُّ: (قد رُوِّينا هذا يعني الاستثناءَ في الإيمانِ عن جماعةٍ مِن الصَّحابة والتابعين والسَّلَفِ الصَّالحِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم أجمعينَ)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا مَذهَبُ سَلَفِ أصحابِ الحديثِ؛ ك
ابنِ مَسعودٍ وأصحابِه، و
الثَّوريِّ، و
ابنِ عُيَينةَ، وأكثَرِ عُلَماءِ الكوفةِ، ويحيى بنِ سَعيدٍ القَطَّانِ فيما يرويه عن عُلَماءِ أهلِ البَصرةِ، و
أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ وغَيرِه من أئِمَّةِ السُّنَّةِ؛ فكانوا يَسْتَثنون في الإيمانِ، وهذا متواتِرٌ عنهم)
.
وقال أيضًا: (المأثورُ عن الصَّحابةِ وأئمَّةِ التابعين وجمهورِ السَّلَفِ، وهو مذهَبُ أهلِ الحديثِ، وهو المنسوبُ إلى أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ؛ يَزيدُ بالطَّاعة، ويَنقُصُ بالمعصيةِ، وأنَّه يجوزُ الاستثناءُ فيهـ)
.
وقال كذلك: (الاستثناءُ في الإيمانِ سُنَّةٌ عند أصحابِنا، وأكثَرِ أهلِ السُّنَّةِ)
.
وأمَّا مأخَذُ السَّلَفِ في الاستثناءِ في الإيمانِ، ووَجْهُ ذلك عِندَهم، فيتبيَّنُ بعدَّة أمورٍ:
أوَّلًا: أنَّ الإيمانَ المُطلَقَ الشَّامِلَ لامتثالِ جَميعِ الأوامِرِ والانتهاءِ عن جميعِ النَّواهي لا يمكِنُ لأحَدٍ أن يدَّعِيَه على التَّمامِ والكَمالِ.قال
أحمدُ: (أذهَبُ إلى حديثِ
ابنِ مَسعودٍ في الاستِثناءِ في الإيمانِ؛ لأنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، والعَمَلُ الفِعلُ، فقد جِئْنا بالقَولِ، ونخشى أن نكونَ قد فَرَّطْنا في العَمَلِ، فيُعجِبُني أن نستثنيَ في الإيمانِ بقَولِ: أنا مؤمِنٌ إنْ شاء اللهُ)
.
وعن الميمونيِّ أنَّه سأل أحمدَ عن قَولِه ورأيِه في قَولِ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ. قال: (أقولُ: مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، ومؤمِنٌ أرجو؛ لأنَّه لا يدري كيف أداؤه للأعمالِ على ما افتُرِضَ عليه أم لا)
.
قال
ابنُ جرير: (إنَّما وصَلْنا تسمِيَتَنا إيَّاه بذلك بقَولِنا: إن شاء اللهُ؛ لأنَّا لا ندري هل هو مؤمِنٌ ضَيَّع شيئًا من فرائِضِ اللهِ عَزَّ ذِكرُه أم لا، بل سُكونُ قُلوبِنا إلى أنَّه لا يخلو من تضييعِ ذلك أقرَبُ منها إلى اليقينِ؛ فإنَّه غيرُ مُضَيِّعٍ شَيئًا منها ولا مُفَرِّطٍ؛ فلذلك من وصَفْناه بالإيمانِ بالمشيئةِ؛ إذ كان الاسمُ المُطلَقُ من أسماءِ الإيمانِ إنَّما هو الكمالُ، فمن لم يكُنْ مُكَمِّلًا جميعَ معانيه -والأغلبُ عندنا أنَّه لا يُكَمِّلُها أحدٌ- لم يكُنْ مُستَحِقًّا اسمَ ذلك بالإطلاقِ والعُمومِ الذي هو اسمُ الكَمالِ؛ لأنَّ النَّاقِصَ غيرُ جائزٍ تسميتُه بالكمالِ، ولا البَعضُ باسمِ التَّامِّ، ولا الجزءُ باسمِ الكُلِّ)
.
وقال
أبو عَمرٍو الدَّاني: (من قَولِ أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ الاستثناءَ في الإيمانِ جائزٌ واسِعٌ إذا كان عائدًا إلى العاقبةِ أو الكمالِ، ولا يجوزُ على طريقِ الشَّكِّ؛ لأنَّ أقَلَّ ما يُقبَلُ من الإيمانِ ما لا يجامِعُه الشُّكوكُ)
.
وقال يحيى بن أبي الخير العمراني: (إنَّ الاستثناءَ في هذه يرجِعُ إلى كمالِ الإيمانِ بالأعمالِ؛ لأنَّ النَّاسَ لا يخلُون من تقصيرٍ بالعَمَلِ أو من نفاقٍ أو قِلَّةِ إخلاصٍ، ولا يرجِعُ إلى أصلِ الاعترافِ)
.
وقال
الرَّازي: (عابوا على
الشَّافعيِّ قَولَه: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، والجوابُ: أنَّ هذا القولَ مَنقولٌ عن الكثيرِ من السَّلَفِ... فكان المرادُ بقَولِنا: إن شاء الله، ليس هو الشَّكَّ في الاعتقادِ والإقرارِ، بل الشَّكُّ في كمالِ الأعمالِ)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (الإيمانُ المطلَقُ يتضَمَّنُ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به عَبْدَه كُلِّه؛ وتَرْكَ المَحَّرماتِ كُلِّها؛ فإذا قال الرَّجُلُ: أنا مؤمِنٌ بهذا الاعتبارِ، فقد شَهِدَ لنَفْسِه بأنَّه من الأبرارِ المتَّقين القائمين بفِعلِ جميعِ ما أُمِروا به، وتَرْكِ كُلِّ ما نُهُوا عنه، فيكونُ مِن أولياءِ اللهِ)
.
ثانيًا: أنَّ الإيمانَ النَّافِعَ هو المتقَبَّلُ عند اللهِ.قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ، فمن قام بالعَمَلِ، لا يدري هل يُقبَلُ منه عَمَلُه أو لا؟
وقد قال اللهُ تعالى في وَصْفِ المؤمنينَ:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] .
قال
ابنُ بطة: (فهذه سَبيلُ المؤمنين، وطريقُ العُقَلاءِ مِن العُلَماءِ؛ لزومُ الاستثناءِ، والخوفُ والرَّجاءُ، لا يدرون كيف أحوالُهم عند الله، ولا كيف أعمالُهم: أمقبولةٌ هي أم مردودةٌ؟ قال الله عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] ، وأخبر عن عَبدِه الصَّالحِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ في مسألتِه إيَّاه
وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل: 19] . أفلا تراه كيف يسألُ اللهَ الرِّضا منه بالعَمَلِ الصَّالحِ؛ لأنَّه قد عَلِمَ أنَّ الأعمالَ ليست بنافعةٍ وإن كانت في مَنظَرِ العَينِ صالِحةً إلَّا أن يكونَ اللهُ عزَّ وجَلَّ قد رَضِيَها وقَبِلَها، فهل يجوزُ لأحَدٍ يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أن يجزِمَ أنَّ أعمالَه الصَّالحةَ مِنَ أفعالِ الخيرِ وأعمالِ البِرِّ كُلُّها مَرْضِيَّةٌ، وعنده زكِيَّةٌ، ولديه مقبولةٌ؟! هذا لا يقدِرُ على حَتْمِه وجَزْمِه إلَّا جاهِلٌ مُغتَرٌّ باللهِ، نعوذُ باللهِ مِنَ الغِرَّةِ باللهِ، والإصرارِ على معصيةِ اللهِ)
.
وقال أبو الفرج الشيرازي الحنبليُّ: (فإن قيل: فقد تحقَّق بإتيانِ الإيمانِ، فكيف يجوزُ أن يستثنيَ؟
والجوابُ: هو أنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ الاستثناءَ لا ينفي التحقيقَ، وإنَّما هو ترَجٍّ وتذلُّلٌ إلى الله تعالى، والاستثناءُ لم يقَعْ بشَكٍّ في الفِعلِ، وإنَّما وقع خوفًا من الخاتمةِ، وخوفًا من القَبولِ، فإذا قال: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، فيكون معناه: إنْ قَبِلَ الله تعالى إيماني وأماتني عليه، وكذلك قولُه: صَلَّيتُ إن شاء اللهُ تعالى، معناه: إن قَبِلَ اللهُ صلاتي، وقولُه: أصلِّي إن شاء الله تعالى، أي: إن يسَّرَ اللهُ تعالى، وقد قال
الإمامُ أحمدُ رَضِيَ الله عنه: الاستثناءُ ليس بشَكٍّ، وليس بداخلٍ في الشَّكِّ، وإنما هو توقُّعٌ وتَرَجٍّ)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (خَوفُ من خاف مِنَ السَّلَفِ ألَّا يُتقَبَّلُ منه؛ لخَوفِه ألَّا يكوَن أتى بالعَمَلِ على وَجْهِه المأمورِ، وهذا أظهَرُ الوُجوهِ في استثناءِ من استثنى منهم في الإيمانِ وفي أعمالِ الإيمانِ، كقَولِ أحَدِهم: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، وصَلَّيتُ إن شاء اللهُ؛ لخوفِ ألَّا يكونَ أتى بالواجِبِ على الوَجهِ المأمورِ به، لا على جِهةِ الشَّكِّ فيما بقَلْبِه من التصديقِ)
.
وسُئِلَ
ابنُ المبارَكِ فقيلَ له: إنَّ قومًا يقولون: إنَّ
سُفيانَ الثَّوريَّ حين كان يقولُ: إن شاء اللهُ، كان ذاك منه شَكٌّ، فقال
ابنُ المبارك: (أتُرى سفيانَ كان يَستثني في وحدانيَّةِ الرَّبِّ أو في محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! إنَّما كان استثِناؤه في قَبولِ إيمانِه، وما هو عندَ اللهـ)
.
وقد نَقَل
أحمدُ عن سلُيمانَ بنِ حَربٍ أنَّه كان يستثني، ويحمِلُ هذا على التقَبُّلِ، فيقولُ: (نحن نعمَلُ، ولا ندري يتقَبَّلُ منا أو لا؟)
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (القَبولُ مُتعَلِّقٌ بفِعْلِه كما أَمَر، فكُلُّ من اتَّقى اللهَ في عَمَلِه، ففَعَلَه كما أُمِرَ؛ فقد تُقُبِّلَ منه، لكن هو لا يجزِمُ بالقَبولِ، لعَدَمِ جَزْمِه بكمالِ الفِعلِ)
.
ثالثًا: البُعدُ عن تزكيةِ النَّفسِ، فلا تزكيةَ لها أعظَمُ مِن التزكيةِ بالإيمانِ.ليس هناك تزكيةٌ للنَّفسِ وراءَ الشَّهادةِ لها بالإيمانِ، فمن قال عن نَفْسِه: إنَّه مُؤمِنٌ فقد زكَّاها بأعظَمِ تزكيةٍ، ونعَتَها بأكمَلِ الصِّفاتِ وأجمَلِها، واللهُ قد نهى عن ذلك في محكَمِ تنزيلِه؛ قال تعالى:
فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 3] .
قال
الحسَنُ في معنى الآيةِ: (عَلِمَ اللهُ مِن كُلِّ نَفْسٍ ما هي صانِعةٌ، وإلى ما هي صائِرةٌ؛ فلا تزكُّوا أنْفُسَكم، فلا تُبَرِّئوها عن الآثامِ، ولا تمدَحوها بحُسْنِ أعمالِها)
.
فإذا عَلِمَ أنَّ اللهَ قد نهى عبادَه عن الثَّناءِ على أنْفُسِهم وتزكيَتِها، فأيُّ وَصفٍ وثناءٍ أبلَغُ من الثَّناءِ عليها بالإيمانِ؟! وأيُّ تزكيةٍ أعظَمُ مِن هذا؟!
قال
ابنُ بطَّةَ: (اعلَمُوا -رَحِمَنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّ مِن شأنَّ المُؤمِنين وصفاتِهم وجودَ الإيمانِ فيهم، ودوامَ الإشفاقِ على إيمانِهم، وشِدَّةَ الحذَرِ على أديانِهم؛ فقُلوبُهم وَجِلةٌ من خَوفِ السَّلْبِ، قد أحاط بهم الوَجَلُ، لا يدرون ما اللهُ صانِعٌ بهم في بقيَّةِ أعمارِهم، حَذِرين من التزكيةِ، مُتَّبِعين لِما أمَرَهم به مولاهم الكريمُ حين يقولُ:
فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] )
.
وقال يحيى بن أبي الخير العِمراني: (الإيمانُ من أعلى صِفاتِ الحَمدِ، وإطلاقُ القَولِ به تزكيةٌ مُطلَقةٌ، والاستثناءُ فيه خروجٌ من التزكيةِ، كما يقال للإنسانِ: أنت فقيهٌ أو مُفَسِّرٌ؟ فيقول: نعم إن شاء اللهُ، لا في مَعرِضِ الشَّكِّ، ولكن لإخراجِ نَفْسِه عن التزكيةِ)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (فإذا قال الرَّجُلُ: أنا مُؤمِنٌ، بهذا الاعتبارِ؛ فقد شَهِد لنَفْسِه بأنَّه من الأبرارِ المتَّقين القائمين بفِعلِ جميعِ ما أُمِروا به، وتَرْكِ كُلِّ ما نُهُوا عنه، فيكونُ من أولياءِ اللهِ، وهذا من تزكيةِ الإنسانِ لنَفْسِه، وشهادتِه لنَفْسِه بما لا يعلَمُ، ولو كانت هذه الشَّهادةُ صحيحةً لكان ينبغي له أن يشهَدَ لنَفْسِه بالجنَّةِ إن مات على هذه الحالِ، ولا أحَدَ يشهَدُ لنَفْسِه بالجنَّةِ؛ فشَهادتُه لنَفْسِه بالإيمانِ كشَهادتِه لنَفْسِه بالجنَّةِ إذا مات على هذه الحالِ، وهذا مأخَذُ عامَّةِ السَّلَفِ الذين كانوا يَستَثْنون)
.
رابِعًا: صِحَّةُ الاستثناءِ في الأمورِ المتيقَّنةِ غيرِ المشكوكِ فيهاوقد جاءت السُّنَّةُ بالاستثناءِ في أمورٍ مُتيقَّنةٍ غيرِ مَشكوكٍ فيها؛ لِما في ذلك من الحِكمةِ
.
ومن ذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين وقف على المقابرِ:
((وإنَّا إن شاء اللهُ بكم لاحِقون ))
.
وفي قِصَّةِ صاحِبِ القبرِ
((عليه حَيِيتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تُبعَثُ إن شاء اللهُ ))
، وفي قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنِّي اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمَّتي، وهي نائلةٌ إن شاء اللهُ مَن لا يُشرِكُ باللهِ شيئًا ))
.
ودخل شيخٌ على
أحمدَ بنِ حَنبلٍ، فسأله عن الإيمانِ، فقال: قَولٌ وعَمَلٌ، فقال له: يزيدُ؟ قال: يَزيدُ ويَنقُصُ. فقال له: أقولُ: مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ؟ قال نعم، فقال له: إنَّهم يقولون لي: إنَّك شاكٌّ. قال: بِئْس ما قالوا! ثمَّ خرج فقال: رُدُّوه، فقال: أليس يقولون: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ؟ قال: نعم. قال: هؤلاء مُسْتَثنون، قال له: كيف يا
أبا عبدِ اللهِ؟ قال: قُلْ لهم: زعمتُم أنَّ الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، فالقولُ قد أتيتُم به، والعَمَلُ فلم تأتوا به، فهذا الاستثناءُ لهذا العَمَلِ، فقيل له: فيُستثنى في الإيمانِ؟ قال: نعم، أقولُ: أنا مُؤمِن إن شاء اللهُ، أستثني على اليقينِ لا على الشَّكِّ، ثمَّ قال: قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] فقد علم تبارك وتعالى أنَّهم داخلون المسجِدَ الحرامَ
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فقد بَيَّن
أحمدُ في كلامِه أنَّه يَستثني مع تيقُّنِه بما هو الآنَ موجودٌ فيه، يقولُه بلِسانِه وقَلْبِه لا يَشُكُّ في ذلك، ويستثني لكونِ العَمَلِ من الإيمانِ، وهو لا يتيقَّنُ أنَّه أكمَلَه، بل يشُكُّ في ذلك، فنفى الشَّكَّ وأثبتَ اليقينَ فيما يتيقَّنُه من نَفْسِه، وأثبت الشَّكَّ فيما لا يعلَمُ وجودَه، وبيَّن أنَّ الاستثناءَ مستحَبٌّ لهذا الثَّاني الذي لا يُعلَمُ، هل أتى به أم لا، وهو جائِزٌ أيضًا لِما يتيقَّنُه، فلو استثنى لنَفْسِ الموجودِ في قَلْبِه، جاز، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((واللهِ لأرجو أن أكونَ أخشاكم للهِ ))
، وهذا أمرٌ موجودٌ في الحالِ ليس بمستقبَلٍ، وهو أخشانا، فإنَّه لا يرجو أن يصيرَ أخشانا لله، بل هو يرجو أن يكونَ حين هذا القولِ أخشانا للهِ، كما يرجو المُؤمِنُ إذا عَمِل عملًا أن يكونَ اللهُ تقَبَّله منه، ويخافُ ألَّا يكونَ تقَبَّلَه منهـ)
.
وعن محمَّدِ بنِ الحسَنِ بنِ هارون قال: سألتُ
أبا عبدِ اللهِ يعني:
أحمدَ بنَ حَنبلٍ عن الاستثناءِ في الإيمانِ، فقال: نعم، الاستثناءُ على غيرِ معنى شَكٍّ، مخافةً واحتياطًا للعَمَلِ، وقد استثنى
ابنُ مسعودٍ وغيرُه، وهو مذهَبُ
الثَّوريِّ
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فقد بَيَّن
أحمدُ أنَّه يستثني مخافةً واحتياطًا للعَمَلِ، فإنَّه يخاف ألَّا يكوَن قد كَمَّل المأمورَ به، فيحتاطُ بالاستثناءِ، وقال على غيرِ معنى شَكٍّ، يعني: من غيرِ شَكٍّ ممَّا يعلَمُه الإنسانُ من نَفْسِه، وإلَّا فهو يشُكُّ في تكميلِ العَمَلِ الذي خاف ألَّا يكونَ كَمَّله، فيخاف من نقصِه، ولا يشُكُّ في أصلِهـ)
.
وقال حمَّادُ بنُ زيدٍ: (يُسَمُّوننا الشُّكَّاكَ، واللهِ ما شَكَكْنا في دينِنا قَطُّ، ولكن جاءت أشياءُ، أليس ذُكِر أنَّ اليسيرَ من الرِّياءِ شِركٌ؟ فأيُّنا لم يراءِ؟)
.
وقال أحمَدُ بنُ إسماعيلَ الكُورانيُّ: (هنا أيضًا مسألةٌ غريبةٌ، وهو أنَّه قال
الشَّافعيُّ: إذا سُئِلْتَ عن الإيمانِ فقُلْ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، وشَنَّع عليه الحنفيَّةُ في كُتُبِهم بأنَّ الاستثناءَ شَكٌّ، والشَّكُّ في الإيمانِ كُفرٌ. وهذا كلامٌ ساقِطٌ؛ لأنَّ
((إن شاء اللهـ)) ليس منحَصِرًا في المشكوكِ، بل استعمله رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المقطوعِ به، وهو قَولُه في السَّلامِ على الموتى:
((وإنَّا بكم إن شاء اللهُ لاحقون ))
، بل المرادُ من المشيئةِ: التفويضُ إلى اللهِ بالكُلِّيَّةِ، أو ذاك بحسَبِ العاقبةِ، ولله عاقبةُ الأُمورِ ليس لأحَدٍ اطِّلاعٌ على شيءٍ من ذلك)
.
خامسًا: وقوعُ الاستثناءِ لعدَمِ العِلمِ بالعاقبةِ وخَوفِ تغيُّرِ الحالِ في المستقبَلِ قال
ابنُ بطَّةَ: (يصِحُّ الاستثناءُ أيضًا من وجهٍ آخَرَ يقَعُ على مستقبَلِ الأعمالِ، ومُستأنَفِ الأفعالِ، وعلى الخاتمةِ، وبقيَّةِ الأعمارِ، ويريدُ أنِّي مُؤمِنٌ إن خَتَم اللهُ لي بأعمالِ المُؤمِنين، وإن كنتُ عند الله مُثبَتًا في ديوانِ أهلِ الإيمانِ، وإن كان ما أنا عليه من أفعالِ المُؤمِنين أمرًا يدومُ لي، ويبقى عليَّ حتى ألقى اللهَ به، ولا أدري هل أُصبِحُ وأُمسي على الإيمانِ أم لا؟ وبذلك أدَّب اللهُ نبيَّه والمُؤمِنين من عبادِه؛ قال تعالى:
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف: 23، 24]، فأنت لا يجوزُ لك إن كنتَ ممَّن يؤمِنُ بالله، وتعلَمُ أنَّ قَلْبَك بيَدِه يُصَرِّفُه كيف شاء؛ أن تقولَ قولًا حزمًا حَتمًا: إني أُصبِحُ غدًا مُؤمِنًا، ولا تقولَ: إنِّي أصبِحُ غدًا كافِرًا ولا منافِقًا، إلَّا أن تَصِلَ كلامَك بالاستثناءِ فتقولَ: إن شاء اللهُ، فهكذا أوصافُ العُقَلاءِ مِن المُؤمِنين)
.
وقال
أبو عَمرٍو الدَّاني: (من قَولِ أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ الاستثناءَ في الإيمانِ جائزٌ واسِعٌ إذا كان عائدًا إلى العاقبةِ أو الكَمالِ، ولا يجوزُ على طريقِ الشَّكِّ؛ لأنَّ أقَلَّ ما يُقبَلُ من الإيمانِ ما لا يجامِعُه الشُّكوكُ)
.
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا مذهَبُ سَلَفِ أصحابِ الحديثِ؛ ك
ابنِ مسعودٍ وأصحابِه، و
الثوريِّ، و
ابنِ عُيَينةَ، وأكثَرِ عُلَماءِ الكوفةِ، ويحيى بنِ سعيدٍ القَطَّانِ فيما يرويه عن عُلَماءِ أهلِ البصرةِ، و
أحمدَ بنِ حَنبلٍ، وغيرِه من أئمَّةِ السُّنَّةِ؛ فكانوا يَسْتَثنون في الإيمانِ، وهذا متواتِرٌ عنهم، لكِنْ ليس في هؤلاءِ مَن قال: أنا أستثني لأجْلِ الموافاةِ، وإنَّ الإيمانَ إنَّما هو اسمٌ لِما يوافي به العبدُ رَبَّه، بل صَرَّح أئمَّةُ هؤلاء بأنَّ الاستثناءَ إنَّما هو لأنَّ الإيمانَ يتضَمَّنُ فِعلَ الواجباتِ، فلا يَشهَدون لأنْفُسِهم بذلك، كما لا يَشهَدونَ لها بالبِرِّ والتقوى؛ فإنَّ ذلك ممَّا لا يعلمونَه، وهو تزكيةٌ لأنْفُسِهم بلا عِلمٍ، كما سنذكر أقوالَهم إن شاء اللهُ في ذلك، وأمَّا الموافاةُ فما عَلِمْتُ أحدًا من السَّلَفِ عَلَّل بها الاستثناءَ، ولكِنْ كثيرٌ من المتأخِّرين يعَلِّلُ بها من أصحابِ الحديثِ مِن أصحابِ أحمدَ و
مالكٍ و
الشَّافعيِّ وغيرِهم، كما يعَلِّلُ بها نُظَّارهم، ك
أبي الحسَنِ الأشعريِّ وأكثَرِ أصحابِه، لكِنْ ليس هذا قَولَ سَلَفِ أصحابِ الحديثِ)
.
وقال محمَّد أنور شاه الكشميري: (الاستثناءُ باعتبارِ الخاتمةِ جائِزٌ عن الكُلِّ، فمن منعه فباعتبارِ الحالةِ الرَّاهنةِ، ومن أجازه فبالنَّظَرِ إلى الخاتمةِ؛ فإنَّه لا يعلَمُ أحدٌ على ماذا يُختَمُ له؛ على الإيمانِ أو على الكُفرِ؟ والعياذُ باللهِ)
.