المَبحثُ الثاني: نَقْلُ أقوالِ السَّلَفِ في الاستثناءِ مع التوفيقِ بينها
للسَّلَفِ في الاستثناءِ صِيَغٌ متعَدِّدةٌ؛ فمنهم من يستثني بقولِ: إن شاء اللهُ، أو أرجو، أو آمنتُ باللهِ، ونحوِ ذلك، وجميعُ هذه الصِّيَغِ مؤدَّاها واحدٌ، وهو عَدَمُ القَطعِ بالإيمانِ المطلَقِ الكامِلِ، وتفويضُ ذلك إلى الله سُبحانَه
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الاستثناءُ أن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ، أو مُؤمِنٌ أرجو، أو آمنتُ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، أو إن كنتَ تريدُ الإيمانَ الذي يعصِمُ دمي فنَعَم، وإن كنتَ تريدُ:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] فاللهُ أعلَمُ)
.
وفيما يلي نَقْلٌ لبَعضِ ما ورد عن السَّلَفِ في ذلك:
أولًا: استثناؤهم بقَولِ: (إن شاء اللهُ):1- عن
أحمدَ بنِ حَنبلٍ قال: سَمِعتُ
سُفيانَ بنَ عُيَينةَ يقول: (إذا سُئِل: مُؤمِنٌ؟ لم يجِبْه، وسؤالُك إيَّاي بدعةٌ، ولا أشُكُّ في إيماني، ولا يُعَنِّفُ من قال: إنَّ الإيمان يَنقُصُ إن قال: إن شاء الله، ليس يُكرَهُ، وليس بداخِلٍ في الشَّكِّ)
.
2- قال جريرُ بنُ عبدِ الحميدِ: (كان الأعمَشُ ومنصورٌ ومُغيرةُ وليثٌ، وعطاءُ بنُ السَّائبِ وإسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ وعُمارةُ بنُ القَعقاعِ، والعلاءُ بنُ المسَيِّبِ وابنُ شبرمةَ و
سفيانُ الثَّوريُّ، وأبو يحيى -صاحِبُ الحَسَنِ- و
حمزةُ الزَّيَّات؛ يقولون: نحن مُؤمِنون إن شاء اللهُ، ويَعيبون من لا يَستثني)
.
3- سُئِل أحمد: ما تقولُ في الاستثناءِ في الإيمانِ؟ قال: نحن نذهبُ إليه. قيل: الرَّجُلُ يقولُ: أنا مُؤمِن إن شاء الله؟ قال: نعم
.
وسُئِلَ عن الرَّجُلِ يسألني: مُؤمِن أنت؟ قال: تقول: نعم إن شاء اللهُ
.
ثانيًا: استثناؤهم بقَولِ: (أرجو):1- عن
إبراهيمَ النَّخعيِّ قال: (قال رجلٌ لعَلْقَمةَ: أمُؤمِنٌ أنت؟ قال: أرجو)
.
2- عن عَلْقَمةَ أنَّه قال لَمَّا تكَلَّم عنده رجلٌ من
الخوارجِ بكلامٍ كَرِهَه:
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58] فقال له الخارجيُّ: أَوَ منهم أنت؟ فقال: أرجو)
.
3- قال
إبراهيمُ النَّخَعيُّ: (إذا قيل لك: أمُؤمِنٌ أنت؟ فقل: أرجو)
.
4- سُئل
أحمدُ بنُ حَنبَلٍ عمَّن يقالُ له أنت مُؤمِن؟ فقال: سؤالُه إيَّاك بِدعةٌ، وقُلْ: أنا مُؤمِنٌ أرجو
.
ثالثًا: استثناؤهم بقَولِ: (آمَنْتُ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِهـ):1- عن عَلْقَمةَ بنِ الأسوَدِ قال: (قال رجلٌ عند
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنا مُؤمِنٌ. قال: قُلْ: إنِّي في الجنَّةِ! ولكِنْ: آمَنَّا باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِهـ)
. وكأنَّه أراد أن يُبَيِّنَ له شناعةِ ادِّعائِه الإيمانَ المطْلَقَ، أي: إذا ادَّعَيْتَ أنَّك مُؤمِنٌ، فما بَقِيَ لك إذَن إلَّا أن تجزِمَ لنَفْسِك بالجنَّةِ كذلك!
2- عن ابنِ طاووسٍ عن أبيه أنَّه كان إذا قيل له: أمُؤمِنٌ أنت؟ قال: (آمنتُ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورسُلِهـ)، ولا يَزيدُ على ذلك)
.
3- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ بكيرٍ السُّلَميِّ قال: (كنتُ عند
محمَّدِ بنِ سيرين وعنده أيُّوبُ، فقُلتُ له: يا أبا بكرٍ يقولُ لي: مُؤمِنٌ أنت؟ أقول: مُؤمِنٌ، فانتهرني أيوبُ، فقال
محمَّدٌ: وما عليك أن تقولَ: آمنتُ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه؟)
.
4- عن حَبيبِ بنِ الشَّهيدِ قال: قال
محمَّدُ بنُ سيرين: (إذا قيل لك: أمُؤمِنٌ أنت؟ فقل: آمَنَّا باللهِ وما أُنزِلَ إلينا وما أُنزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ)
.
5- عن أحمدَ بنِ أصرَمَ المُزنيِّ أنَّ
أبا عبدِ اللهِ أحمدَ بنِ حَنبلٍ قيل له: إذا سألني الرَّجُلُ أمُؤمِنٌ أنت؟ فقال: سؤالُه إيَّاك بدعةٌ، لا نشُكُّ في إيمانِنا. قال المُزَنُّي: وحِفْظي أنَّ
أبا عبدِ اللهِ قال: أقولُ كما قال طاووسٌ: آمنتُ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه
.
رابعًا: استثناؤُهم بقَولِ (لا إلهَ إلَّا اللهـ): 1- عن سِوارِ بنِ شَبيبٍ قال: (جاء رجلٌ إلى
ابنِ عُمَرَ فقال: إنَّ هاهنا قومًا يَشهَدون عليَّ بالكُفرِ، قال: ألا تقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ فتُكَذِّبَهم؟!)
.
2- عن الحسَنِ بنِ عَمرٍو عن
إبراهيمَ النَّخعيِّ قال: (إذا قيل لك: أمُؤمِنٌ أنت؟ فقُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ)
.
ولا يُشكِلُ على هذا ما نُقِل من آثارٍ عن بَعضِ السَّلَفِ بأنَّه أجاب بأنَّه مُؤمِنٌ دون استثناءٍ، فهذه الآثارُ لا تخلو من أُمورٍ:
1- إمَّا أن تكونَ ضعيفةَ الإسنادِ غيرَ ثابتةٍ عن الصَّحابي أو التَّابعي المرويَّةِ عنه.
2- أو يكونَ ذلك مقولًا على سبيلِ التعميمِ، وهذا لا إشكالَ فيه؛ إذ أهلُ القِبلةِ كُلُّهم مُؤمِنون باعتبارِ الظَّاهِرِ منهم، وبذلك يتوارَثون ويتناكَحون ويتعامَلون بالأُخُوَّةِ الإيمانيَّةِ.
3- أو يكون مَقصَدُ القائِلِ بذلك أصلَ الإيمانِ لا تمامَه وكَمالَه؛ فاسمُ الإيمانِ عند السَّلَفِ على نوعينِ: مُطلَقٌ، ومُقَيَّدٌ.
فإذا استُعمِلَ مُطلَقًا شَمِلَ جميعَ ما يحِبُّه اللهُ ورَسولُه من أقوالِ العبدِ وأعمالِه الظَّاهِرةِ والباطِنةِ.
وإذا استُعمِلَ مُقَيَّدًا يكونُ مُتناوِلًا لأصلِ الإيمانِ وأساسِه، وهو الإيمانُ الباطِنُ بأركانِه الستَّةِ الواردةِ في حديثِ
جِبريلَ المشهورِ
.
وللإيمانِ عندَهم أصلٌ وفرعٌ؛ فأصلُ الإيمانِ في القَلبِ، وهو قَولُ القَلبِ وعَمَلُه، وفرعُه الأعمالُ الظَّاهرةُ بأنواعِها
.
وعلى هذا ينبغي لِمن سُئِل هل هو مُؤمِنٌ أو لا؟ أن يستفصِلَ من السَّائِلِ ماذا يريدُ بالإيمانِ؟ هل يريدُ بذلك الإيمانَ الكامِلَ التَّامَّ المقبولَ عند اللهِ الذي أهلُه يقينًا في الجنَّةِ؟ فلا بُدَّ فيه من الاستثناءِ.
أو يريدُ الإيمانَ المقَيَّدَ الذي هو أصلُ الإيمانِ وأساسُه؟ فلا استثناءَ.
فعن تمامِ بنِ نجيحٍ قال: سأل رجُلٌ
الحسَنَ البَصريَّ عن الإيمانِ فقال: (الإيمانُ إيمانانِ؛ فإن كنتَ تسألُني عن الإيمانِ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه والجنَّةِ والنَّارِ والبَعثِ والحسابِ، فأنا مُؤمِنٌ، وإن كنتَ تسألُني عن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2-4] فواللهِ ما أدري أنا منهم أم لا)
.
قال
البَيهقيُّ مُعَلَّقًا: (فلم يتوقَّفِ الحسَنُ في أصلِ إيمانِه في الحالِ، وإنَّما توقَّف في كمالِه الذي وعَدَ اللهُ عزَّ وجَلَّ لأهلِه الجنَّةَ بقَولِه:
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4] )
.
وقال
سفيانُ الثَّوريُّ: (النَّاسُ عندنا مُؤمِنون في الأحكامِ والمواريثِ، ونرجو أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالُنا عند اللهِ عزَّ وجَلَّ)
.
وعن وكيعٍ قال: (كان
سفيانُ الثَّوريُّ يقولُ: أنا مُؤمِنٌ، وأهلُ القِبلةِ كُلُّهم مُؤمِنون في النِّكاحِ والدِّيَةِ والمواريثِ، ولا يقولُ: أنا مُؤمِنٌ عند اللهِ عزَّ وجَلَّ)
.
وعن قُتيبةَ بنِ سَعيدٍ قال: (هذا قَولُ الأئمَّةِ المأخوذُ في الإسلامِ والسُّنَّةِ بقَولِهم، ... ونقولُ: النَّاسُ عندنا مُؤمِنون بالاسمِ الذي سَمَّاهم اللهُ في الإقرارِ والحُدودِ والمواريثِ، ولا نقولُ: حَقًّا، ولا نقولُ: عند الله، ولا نقولُ: كإيمانِ
جِبريلَ و
ميكائيلَ؛ لأنَّ إيمانَهما مُتقَبَّلٌ)
.
وعن إسماعيلَ بنِ سَعيدٍ قال: سألتُ أحمدَ: من قال: أنا مُؤمِنٌ عند نَفْسي من طريقِ الأحكامِ والمواريثِ، ولا أعلَمُ ما أنا عندَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، قال: (ليس هذا بمُرجئٍ)
.
فمَذهَبُ السَّلَفِ أنَّهم يجَوِّزون الاستثناءَ باعتبارٍ، ويمنعونَه باعتبارٍ، بحَسَبِ مُرادِ القائِلِ بكَلِمةِ الإيمانِ، وبهذا المعنى كان بعضُ السَّلَفِ يرى أنَّ الاستثناءَ وتَرْكَه سواءٌ.
قال
الأوزاعيُّ: (من قال: أنا مُؤمِنٌ فحَسَنٌ، ومن قال: أنا مُؤمِنٌ إن شاء اللهُ فحَسَنٌ؛ لقَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، وقد عَلِم أنَّهم داخلون)
.
ولا يتنافى هذا مع ما جاء عن بَعْضِهم من كراهةِ تَرْكِ الاستثناءِ، كما رُوِيَ ذلك عن
سفيانَ الثَّوريِّ أنَّه كان يُنكِرُ ويَكرَهُ أن يقولَ: (أنا مُؤمِنٌ)
، وجاء عن جمعٍ مِن السَّلَفِ أنَّهم كانوا يعيبون من لا يستثني.
قال
أبو عُبَيدٍ: (إنَّما كراهتُهم عندنا أن يَبُتُّوا الشَّهادةَ بالإيمانِ مخافةَ ما أعلَمْتُكم في البابِ الأوَّلِ من التزكيةِ والاستِكمالِ عند اللهِ، وأمَّا على أحكامِ الدُّنيا فإنَّهم يُسَمُّون أهلَ المِلَّةِ جميعًا مُؤمِنين؛ لأنَّ ولايتَهم وذبائِحَهم وشهاداتِهم ومُناكَحَتَهم وجميعَ سُنَّتِهم إنَّما هي على الإيمانِ؛ ولهذا كان
الأوزاعيُّ يرى الاستثناءَ وتَرْكَه جميعًا واسِعَينِ)
.
ولكِنْ لَمَّا كان تَرْكُ الاستثناءِ شِعارًا للمُرجئةِ، ومتضَمِّنًا لتزكيةِ النَّفْسِ والثَّناءِ عليها، وهذا منهيٌّ عنه شرعًا، فالأَولى والأكمَلُ الاستثناءُ، وعَدَمُ تَرْكِ الاستثناءِ إلَّا إذا بَيَّن المقصودَ والمرادَ.
وكان أحمَدُ لا يُعجِبُه تَرْكُ الاستثناءِ
، وقال مَرَّةً لحُسَين بنِ منصورٍ: من قال من العلماء: أنا مُؤمِنٌ؟ قلتُ: ما أعلَمُ رجلًا أثِقُ به. قال: لم تَقُلْ شيئًا لم يَقُلْه أحدٌ مِن أهلِ العِلمِ قَبْلَنا
.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الصَّحيحُ أنَّه يجوزُ أن يقالَ: أنا مُؤمِنٌ بلا استثناءٍ إذا أراد ذلك أي: أصلَ الإيمانِ، لكن ينبغي أن يَقرِنَ كَلامَه بما يُبَيِّن أنَّه لم يُرِدِ الإيمانَ المُطلَقَ الكامِلَ؛ ولهذا كان أحمَدُ يَكرَهُ أن يجيبَ على المُطلَقِ بلا استثناءٍ يُقَدِّمُهـ)
.
ولم يكُنْ أحمَدُ يُنكِرُ على من تَرَك الاستثناءَ إذا لم يكُنْ قَصْدُه قَصْدَ
المُرجِئةِ أنَّ الإيمانَ مُجَرَّدُ القَولِ، قال
الأثرَمُ: (قُلتُ لأبي عبدِ اللهِ: فكأنَّك لا ترى بأسًا ألَّا يستثنيَ، فقال: إذا كان ممَّن يقولُ: الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ؛ فهو أسهَلُ عندي، ثمَّ قال أبو عبدِ اللهِ: إنَّ قَومًا تَضعُفُ قُلوبُهم عن الاستثناءِ، فتعَجَّبَ منهم)
.
وقال حرب بن إسماعيل الكرماني: (الاستثناءُ في الإيمانِ سُنَّةٌ ماضيةٌ عن العُلَماءِ، وإذا سُئِلَ الرَّجُلُ: أمؤمِنٌ أنت؟ فإنَّه يقولُ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، أو مؤمِنٌ أرجو، أو يقولُ: آمنتُ باللهِ ومَلائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِهـ)
.
وقال
الآجُرِّيُّ: (مِن صِفةِ أهلِ الحَقِّ -ممَّن ذكَرْنا من أهلِ العِلمِ- الاستثناءُ في الإيمانِ، لا على جهةِ الشَّكِّ، نعوذُ باللهِ مِنَ الشَّكِّ في الإيمانِ، ولكِنْ خَوفَ التزكيةِ لأنْفُسِهم من الاستِكمالِ للإيمانِ، لا يدري أهو ممَّن يستحِقُّ حقيقةَ الإيمانِ أم لا؟ وذلك أنَّ أهلَ العِلمِ مِن أهلِ الحَقِّ إذا سُئِلوا: أمُؤمِنٌ أنت؟ قال: آمنتُ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ والجنَّةِ والنَّارِ، وأشباهِ هذا، والنَّاطِقُ بهذا، والمصَدِّقُ به بقَلْبِه: مُؤمِنٌ، وإنَّما الاستثناءُ في الإيمانِ، لا يدري: أهو ممَّن يستوجِبُ ما نَعَت اللهُ عزَّ وجَلَّ به المُؤمِنين من حقيقةِ الإيمانِ أم لا؟ هذا، وطريقُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والتَّابعين لهم بإحسانٍ عندهم أنَّ الاستثناءَ في الأعمالِ لا يكونُ في القَولِ والتصديقِ بالقَلْبِ، وإنَّما الاستثناءُ في الأعمالِ الموجِبةِ لحقيقةِ الإيمانِ، والنَّاسُ عندهم على الظَّاهِرِ مُؤمِنون، به يتوارَثون، وبه يتناكَحون، وبه تجري أحكامُ مِلَّةِ الإسلامِ، ولكِنَّ الاستثناءَ منهم على حَسَبِ ما بَيَّنَّاه لك، وبَيَّنَه العُلَماءُ مِن قَبْلِنا، رُوِيَ في هذا سُنَنٌ كثيرةٌ، وآثارٌ تَدُلُّ على ما قُلْنا)
.
وقال
الأصبهانيُّ: (يُكرَهُ لِمن حصل منه الإيمانُ أن يقولَ: أنا مؤمِنٌ حَقًّا ومؤمِنٌ عند اللهِ، ولكن يقولُ: أنا مؤمِنٌ أرجو، أو مؤمِنٌ إن شاء اللهُ، أو يقولُ: آمَنتُ باللهِ وملائكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، وليس هذا على طريقِ الشَّكِّ في إيمانِه، لكِنَّه على معنى أنَّه لا يُضبَطُ أنَّه قد أتى بجميعِ ما أُمِرَ به، وتَرَك جميعَ ما نُهِيَ عنه، خلافًا لقولِ من قال: إذا عَلِمَ من نَفْسِه أنَّه مؤمِنٌ، جاز أن يقولَ: أنا مؤمِنٌ حَقًّا.
والدَّليلُ على امتناعِ القَطْعِ لنَفْسِه ودُخولِ الاستثناءِ إجماعُ السَّلَفِ، قيل ل
ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّ هذا يَزعُمُ أنَّه مؤمِنٌ، قال: سلوه أفي الجنَّةِ هو أم في النَّارِ؟ فسألوه فقال: اللهُ أعلَمُ. فقال له عبدُ اللهِ: فهلا وكَلْتَ الأُولى كما وكَلْتَ الآخِرةَ!
ولأنَّه قد ثبت أنَّ الإيمانَ جميعُ الطَّاعاتِ وتَرْكُ المحرَّماتِ، وهو في الحالِ لا يضبطُ أنَّه قد أدَّى سائِرَ ما لَزِمَه، واجتنب كلَّ ما حَرُم عليه، وإنما يُعلَمُ ذلك في الثَّاني، فلا يجوزُ أن يُعلَمَ أنَّه مؤمِنٌ مستَحِقٌّ للثَّوابِ)
.
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (مسألةُ الاستثناءِ في الإيمانِ، وهو أن يقولَ الرَّجُلُ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ. والنَّاسُ فيه على ثلاثةِ أقوالٍ: طرَفانِ ووَسَطٌ، منهم من يوجِبُه، ومنهم من يُحَرِّمُه، ومنهم من يُجيزُه باعتبارٍ ويمنَعُه باعتبارٍ، وهذا أصحُّ الأقوالِ... وأمَّا من يُجَوِّزُ الاستثناءَ وتَرْكَه، فهم أسعَدُ بالدَّليلِ من الفريقينِ، وخَيرُ الأمورِ أوسَطُها؛ فإنْ أراد المستثني الشَّكَّ في أصلِ إيمانِه مُنِعَ من الاستثناءِ، وهذا ممَّا لا خِلافَ فيه، وإن أراد أنَّه مُؤمِنٌ من المُؤمِنين الذين وصَفَهم اللهُ في قَولِه:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] فالاستثناءُ حينئذٍ جائزٌ، وكذلك من استثنى وأراد عَدَمَ عِلْمِه بالعاقبةِ، وكذلك من استثنى تعليقًا للأمرِ بمشيئةِ اللهِ، لا شكًّا في إيمانِه، وهذا القَولُ في القُوَّةِ كما ترى)
.
وقال
السعديُّ في قَولِه تعالى:
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ [آل عمران: 84] : (فيه دلالةٌ على جوازِ إضافةِ الإنسانِ إلى نَفْسِه الإيمانَ على وَجهِ التقييدِ، بأن يقولَ: أنا مُؤمِنٌ باللهِ، كما يقولُ: آمَنتُ باللهِ، بل هذا الأخيرُ من أوجَبِ الواجباتِ، كما أمر الله به أمرًا حَتمًا، بخلافِ قَولِ العَبدِ: أنا مُؤمِنٌ، ونحوَه، فإنَّه لا يقالُ إلَّا مقرونًا بالمشيئةِ؛ لِما فيه من تزكيةِ النَّفْسِ؛ لأنَّ الإيمانَ المُطلَقَ يشمَلُ القيامَ بالواجِباتِ، وتَرْكَ المحَرَّماتِ، فهو كقَولِه: أنا مُتَّقٍ أو وَلِيٌّ أو من أهلِ الجنَّةِ، وهذا التفريقُ هو مذهَبُ محقِّقي أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ)
.
وقال أيضًا بعد أن عرَّف الإيمانَ وأنَّه اعتقادٌ وقَولٌ وعَمَلٌ: (يرتِّبون أيضًا على هذا الأصلِ صِحَّةَ الاستثناءِ في الإيمانِ، فيصِحُّ أن يقولَ: أنا مؤمِنٌ إن شاء اللهُ؛ لأنَّه يرجو من اللهِ تكميلَ إيمانِه، فيَسْتثني لذلك، ويرجو الثَّباتَ على ذلك إلى المماتِ، فيَستثني من غيرِ شَكٍّ منه بحُصولِ الإيمانِ)
.
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الصَّحيحُ أنَّ الاستثناءَ ينقَسِمُ إلى واجِبٍ ومحرَّمٍ وجائزٍ:
فالواجِبُ: إذا كان الحامِلُ على الاستثناءِ الخَوفَ من التزكيةِ، فالاستثناءُ واجِبٌ؛ لأنَّه إذا جزم بأنَّه مُؤمِنٌ فقد شَهِد لنَفْسِه بأنَّه مُؤمِنٌ، والمُؤمِنُ له الجنَّةُ، فيكونُ قد شهد لنَفْسِه بأنَّ له الجنَّةَ، ولا يجوزُ للإنسانِ أن يَشهَدَ لأحَدٍ بأنَّ له الجنَّةَ إلَّا من شَهِدَ له الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا كان يخشى من التزكيةِ فالاستِثناءُ واجِبٌ.
والمحَرَّمُ: إذا كان الحامِلُ على الاستثناءِ الترَدُّدَ وعَدَمَ الجَزمِ، فالاستثناءُ حرامٌ، بل مُنافٍ للإيمانِ.
والجائِزُ: إذا كان الاستثناءُ للتعليلِ، بمعنى: أنا مُؤمِنٌ بمشيئةِ اللهِ، فهذا جائِزٌ؛ لأنَّ هذه هي الحقيقةُ، والدَّليلُ على ذلك قَولُه تعالى:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، فالتعليقُ هنا ليس للترَدُّدِ؛ لأنَّ اللهَ غيرُ مترَدِّدٍ، وإنَّما هو لبيانِ العِلَّةِ، وهي أنَّ دُخولَكم بمشيئةِ اللهِ.
ومن ذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند مُرورِه لزيارةِ القُبورِ:
((وإنَّا إن شاء الله بكم لاحِقون ))، فالإنسانُ لا يشُكُّ في أنَّه لاحِقٌ جَزمًا بالأمواتِ، ولكِنَّه أتى بالمشيئةِ للتعليلِ، أي: أنَّ لحوقَنا بكم بمشيئةِ اللهِ تعالى.
ومنه قَولُه تعالى:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ؛ لأنَّ هذا ليس للتعليقِ، بل هو خبرٌ من عندِ اللهِ تعالى، وهو سُبحانَه وتعالى جازِمٌ بهـ)
.