الفَرعُ العاشرُ: حَسْرَتُهم ونَدَمُهم ودُعاؤُهم
عندما يرى الكُفَّارُ النَّارَ يَندَمونَ أشَدَّ النَدَمِ
.
قال اللهُ تعالى:
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يونس: 54] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
مَا فِي الْأَرْضِ مِن قَليلٍ أو كَثيرٍ،
لافَتَدَتْ بِهِ يَقُولُ: لافتَدتْ بذَلِكَ كُلِّه مِن عَذابِ اللهِ إذا عايَنَتْه. وقَولُه:
وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُ: وأخَفَتْ رُؤساءُ هَؤُلاءِ المُشرِكينَ مِن وُضَعائِهم وسَفِلَتِهمُ النَّدامةَ حينَ أبصَرُوا عَذابَ اللهِ قَد أحاطَ بهم، وأيقَنُوا أنَّه واقِعٌ بهم.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يَقُولُ: وقَضى اللهُ يَوْمَئِذٍ بينَ الأتباعِ والرُّؤساءِ مِنهم بالعَدْلِ.
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وذَلِكَ أنَّه لا يُعاقِبُ أحَدًا مِنهم إلَّا بجَريرتِه، ولا يَأخُذُه بذَنبِ أحَدٍ، ولا يُعذِّبُ إلَّا مِن قَد أعذَرَ إليه في الدُّنيا وأنذَرَ وتابَعَ عليه الحُجَجَ)
.
وعِندَما يَطَّلِعُ الكافِرُ على صَحيفةِ أعمالِه ويَرى ما فيها، يَدعُو بالثُّبُورِ والهلاكِ!
قال اللهُ سُبحانَه:
وَأَما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 10-12] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قَولُه:
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا يَقُولُ: فسَوفَ يُنادي بالهلاكِ، وهو أن يَقُولَ: واثُبُوراه، واوَيْلَاه)
.
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:13-14] .
قال
ابنُ كَثيرٍ: (
دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا أي: بالوَيلِ والحَسرةِ والخَيبةِ... وقال العَوفيُّ، عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ في قَولِه:
لَا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثيرًا أي: لا تَدعُوا اليَومَ ويلًا واحِدًا، وادْعُوا ويلًا كَثيرًا. وقال الضَّحَّاكُ: الثُّبُورُ: الهَلاكُ. والأظهَرُ: أنَّ الثُّبُورَ يَجمَعُ الهلاكَ والويلَ والخَسارَ والدَّمارَ)
.
ويَعلُو صُراخُهم، ويَشتَدُّ عَويلُهم، ويَدعُونَ رَبَّهم ليَخرِجَهم مِنَ النَّارِ.
قال اللهُ تعالى:
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: هَؤُلاءِ الكُفَّارُ يَستَغيثُونَ، ويَضجُّونَ في النَّارِ، يَقُولُونَ: يا رَبَّنا أخرِجْنا نَعمَلْ صالِحًا: أي نَعمَلْ بطاعَتِكَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَبلُ مِن مَعاصيكَ)
.
وقال
البيضاويُّ: (وهم يَصطَرِخُونَ فيها: يَستَغيثُونَ، يَفتَعِلُونَ مِنَ الصُّراخِ، وهو الصِّياحُ، استُعمِلَ في الِاستِغاثةِ لِجَهرِ المُستَغيثِ صَوتَه.
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُ بإضمارِ القَولِ، وتَقييدُ العَمَلِ الصَّالِحِ بالوصفِ المَذكُورِ لِلتَّحَسُّرِ على ما عَمِلُوه مِن غيرِ الصَّالِحِ والِاعتِرافِ به، والإشعارِ بأنَّ استِخراجَهم لِتَلافيه وأنَّهم كانُوا يَحسَبُونَ أنَّه صالِحٌ، والآنَ تَحَقَّقَ لَهم خِلافُه)
.
وهم يَعتَرِفُونَ بضَلالِهم وكُفرِهم وقِلَّةِ عُقُولِهم.
قال اللهُ سُبحانَه:
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: وقال الفَوجُ الَّذي أُلقِيَ في النَّارِ لِلخَزَنةِ: لَو كُنَّا في الدُّنيا نَسمَعُ أو نَعقِلُ مِنَ النُّذُرِ ما جاءُونا به مِنَ النَّصيحةِ، أو نَعقِلُ عَنهم ما كانُوا يَدعُونَنا إليه ما كُنَّا اليَومَ
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ يَعني أهلَ النَّارِ)
.
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّنْ سَبِيلٍ [غافر: 11] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قَولُه:
فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا يَقُولُ: فأقرَرْنا بما عَمِلْنا مِنَ الذُّنُوبِ في الدُّنيا
فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ يَقُولُ: فهَل إلى خُرُوجٍ مِنَ النَّارِ لَنا سَبيلٌ لِنَرجِعَ إلى الدُّنيا، فنَعمَلَ غيرَ الَّذي كُنَّا نَعمَلُ فيها)
.
ولكِنْ طلَبُهم يُرفَضُ بشِدَّةٍ.
قال اللهُ تعالى:
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:106-108] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قال الرَّبُّ لَهم جَلَّ ثَناؤُه مُجيبًا:
اخْسَئُوا فِيهَا أيِ: اقعُدُوا في النَّارِ...
وَلَا تُكَلِّمُونِ فعِندَ ذَلِكَ أيِسَ المَساكينُ مِنَ الفَرجِ، ولَقَد كانُوا طامِعينَ فيه!)
.
وقال
السَّمعاني: (يَنقَطِعُ رَجاؤُهم حينَئِذٍ، ولا يُسمَعُ بَعدَ ذَلِكَ مِنهم إلَّا الزَّفيرُ والشَّهيقُ)
.
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (هذا جَوابٌ مِنَ الله تعالى لِلكُفَّارِ إذا سَألُوا الخُرُوجَ مِنَ النَّارِ والرَّجَعةَ إلى هذه الدَّارِ، يَقُولُ:
اخسَئُوا فِيهَا أي: امكُثُوا فيها صاغِرينَ مُهانينَ أذِلَّاءَ.
وَلَا تُكَلِّمُونِ أي: لا تَعُودُوا إلى سُؤالِكم هذا؛ فإنَّه لا جَوابَ لَكم عِندي)
.
وقال
السَّعْديُّ: (قال اللهُ جَوابًا لِسُؤالِهم:
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وهذا القَولُ -نَسألُه تعالى العافيةَ- أعظَمُ قَولٍ على الإطلاقِ يَسمَعُه المُجْرِمُونَ في التَّخييبِ والتَّوبيخِ، والذُّلِّ والخَسارِ، والتَّأييسِ مِن كُلِّ خيرٍ، والبُشرى بكُلِّ شَرٍّ، وهذا الكَلامُ والغَضَبُ مِنَ الرَّبِّ الرَّحيمِ أشَدُّ عليهم وأبلَغُ في نِكايَتِهم مِن عَذابِ الجَحيمِ)
.
فلَقَد حَقَّ عليهمُ القَولُ، وصارُوا إلى المُصيرِ الَّذي لا يَنفَعُ مَعَه دُعاءٌ ولا يُقبَلُ فيه رَجاءٌ.
قال اللهُ سُبحانَه:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 12-14] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه لِنَبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَو تَرى يا مُحَمَّدُ هَؤُلاءِ القائِلينِ:
أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إذ هم ناكسُو رُءُوسِهم عِندَ رَبّهم حياءً مِن رَبِّهم لِلَّذي سَلَفَ مِنهم مِن مَعاصيه في الدُّنيا، يَقُولُونَ: يا
رَبَّنَا أَبْصَرْنَا ما كُنَّا نُكَذِّبُ به مِن عِقابِكَ أهلَ مَعاصيكَ
وَسَمِعْنَا مِنكَ تَصديقَ ما كانَت رُسُلُكَ تَأمُرُنا به في الدُّنيا،
فَارْجِعْنَا يَقُولُ: فارْدُدْنا إلى الدُّنيا نَعمَلْ فيها بطاعَتِكَ، وذَلِكَ العَمَلُ الصَّالِحُ
إِنَّا مُوقِنُونَ يَقُولُ: إنَّا قَد أيقَنَّا الآنَ ما كُنَّا به في الدُّنيا جُهَّالًا مِن وحدانيَّتِكَ، وأنَّه لا يَصلُحُ أن يُعبَدَ سِواك، ولا يَنبَغي أن يَكُونَ رَبٌّ سِواكَ، وأنَّكَ تُحيي وتُمِيتُ، وتَبعَثُ مَن في القُبُورِ بَعدَ المَمَاتِ والفَناءِ، وتَفعَلُ ما تَشاءُ... يَقُولُ تعالى ذِكرُه:
وَلَوْ شِئْنَا يا مُحَمَّدُ
لَآتَيْنَا هَؤُلاءِ المُشرِكينَ باللهِ مِن قَومِكَ وغيرِهم مِن أهلِ الكُفْرِ باللهِ
هُدَاهَا يَعني: رُشْدَها وتَوفيقَها لِلإيمانِ باللهِ
ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي يَقُولُ: وجَبَ العَذابُ مِني لَهم، وقَولُه
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ يَعني مِن أهلِ المَعاصي والكُفْرِ باللهِ مِنهم)
.
ويَتَوجَّه أهلُ النَّارِ بالنِّداءِ إلى خَزَنةِ النَّارِ، يَطلُبونَ مِنهم أن يَشْفَعُوا لَهم كي يُخَفِّفَ اللهُ عَنهم شيئًا مِمَّا يُعانُونَه.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر: 49-50] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: وقال أهلُ جَهَنَّمَ لِخَزنَتِها وقُوَّامِها استِغاثةً بهم مِن عَظيمِ ما هم فيه مِنَ البَلاءِ، ورَجاءَ أن يَجِدُوا مِن عِندِهم فَرَجًا
ادَعُوا رَبَّكُمْ لَنا
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا واحِدًا، يَعني قَدْرَ يَومٍ واحِدٍ مِن أيَّامِ الدُّنيا
مِنَ العَذَابِ الَّذي نَحنُ فيه، وإنَّما قُلنا: مَعنى ذَلِكَ: قَدْرَ يَومٍ مِن أيَّامِ الدُّنيا؛ لِأنَّ الآخِرةَ يَومٌ لا ليلَ فيه، فيُقالُ: خَفِّفْ عَنهم يَومًا واحِدًا...
قالت خَزَنةُ جَهَنَّمَ لَهم: أَولَم تَكُ تَأتيكم في الدُّنيا رُسُلُكم بالبيِّناتِ مِنَ الحُجَجِ على تَوحيدِ اللهِ، فتُوَحِّدُوه وتُؤمِنُوا به، وتَتَبَرَّؤوا مِمَّا دُونَه مِنَ الآلِهةِ؟ قالُوا: بلى، قَد أتَتْنا رُسُلُنا بذَلِكَ... قالتِ الخَزَنةُ لَهم: فادَعُوا إذَن رَبَّكم الَّذي أتتْكُمُ الرُّسُلُ بالدُّعاءِ إلى الإيمانِ به، وقَولُه:
وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ يَقُولُ: قَد دَعَوا وما دُعاؤُهم إلَّا في ضَلالٍ؛ لِأنَّه دُعاءٌ لا يَنفَعُهم، ولا يُستَجابُ لَهم، بَل يُقالُ لَهم:
اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ!)
.
وهم يسألونَ الشَّفاعةَ كي يُهلِكَهم رَبُّهم.
قال اللهُ تعالى:
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَاكِثُونَ [الزخرف: 77] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: ونادى هَؤُلاءِ المُجْرِمُونَ بَعدَ ما أَدخَلَهمُ اللهُ جَهَنَّم، فنالَهم فيها مِنَ البلاءِ ما نالَهم، مالِكًا خازِنَ جَهَنَّمَ
يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قال: لِيُمِتْنا رَبُّكَ، فيَفْرُغْ مِن إماتَتِنا، فذُكِرَ أنَّ مالِكًا لا يُجيبُهم في وقتِ قِيلِهم لَه ذَلِكَ، ويَدَعُهم ألفَ عامٍ بَعدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُجيبُهم، فيَقُولُ لَهم:
إنَّكُمْ مَاكِثُونَ!)
.
وقال
السَّعْديُّ: (
وَنَادَوْا وهم في النَّارِ، لَعَلَّهم يَحصُلُ لَهمُ استِراحةٌ
يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أي: لِيُمِتْنا فنَستَريحَ، فإنَّنا في غَمٍّ شَديدٍ، وعَذابٍ غَليظٍ، لا صَبْرَ لَنا عليه ولا جَلَدَ. فـ
قَالَ لَهم مالِكٌ خازِنُ النَّارِ -حينَ طَلَبُوا مِنه أن يَدعُوَ اللهَ لَهم أن يَقضِيَ عليهم-:
إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ أي: مُقيمُونَ فيها، لا تُخرَجُونَ عَنها أبَدًا، فلَم يَحصُلْ لَهم ما قَصَدُوه، بَل أجابَهم بنَقيضِ قَصدِهم، وزادَهم غَمًّا إلى غَمِّهم)
.
فرُفِضَ كُلُّ ما يَطلُبُه أهلُ النَّارِ، فلا خُرُوجَ مِنها، ولا تَخفيفَ مِن عَذابها، ولا إهلاكَ وقَضاءَ عليهم بالمَوتِ والفَناءِ، بَل لَهم عَذابٌ أَبَديٌّ سَرمَديٌّ دائِمٌ.
وقَد ذَكَرَ اللهُ تعالى أنَّه يُقالُ لَهم:
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16].
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ: ذُوقُوا حَرَّ هذه النَّارِ الَّتي كُنتُم بها تُكَذِّبُونَ، ورِدُوها فاصبِرُوا على ألَمِها وشِدَّتِها، أو لا تَصبِرُوا على ذَلِكَ، سَواءٌ عَليكم صَبَرتُم أو لَم تَصبرُوا
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعمَلُونَ يَقُولُ: ما تُجْزَونَ إلَّا أعمالَكم: أي لا تُعاقَبُونَ إلَّا على مَعصيَتِكم في الدُّنيا رَبَّكم وكُفْرِكم)
.
وقال
البيضاويُّ: (أيِ: ادخُلُوها على أيِّ وَجهٍ شِئتُمْ مِنَ الصَّبرِ وعَدَمِه؛ فإنَّه لا مَحيصَ لَكم عَنها، سَواءٌ عَليكم أيِ الأمرانِ الصَّبرُ وعَدَمُه، إنَّما تُجْزَونَ ما كُنتُم تَعمَلُونَ؛ تَعليلٌ لِلِاستِواءِ فإنَّه لَمَّا كانَ الجَزاءُ واجِبَ الوُقُوعِ كانَ الصَّبرُ وعَدَمُه سِيَّينِ في عَدَمِ النَّفعِ)
.
وأهلُ النَّارِ يَشتَدُّ نَحيبُهم، وتَفيضُ دُمُوعُهم، ويَطُولُ بُكاؤُهم.
قال اللهُ تعالى:
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 82] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (فَرِحَ هَؤُلاءِ المُخَلَّفُونَ بمَقعَدِهم خِلافَ رَسولِ اللهِ، فليَضحَكُوا فرحينَ قَليلًا في هذه الدُّنيا الفانيةِ بمَقعَدِهم خِلافَ رَسولِ اللهِ ولَهْوِهم عَن طاعةِ رَبِّهم؛ فإنَّهم سيَبكُونَ طَويلًا في جَهَنَّمَ مَكانَ ضَحِكِهمُ القَليلِ في الدُّنيا
جَزَاءً يَقُولُ: ثَوابًا مِنَّا لَهم على مَعصيَتِهم بتَركِهمُ النَّفْرَ إذِ استُنفِرُوا إلى عَدُوِّهم وقُعُودِهم في مَنازِلِهم خِلافَ رَسولِ اللَّهِ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَقُولُ: بما كانُوا يَجتَرِحُونَ مِنَ الذُّنُوبِ)
.
وقال
السَّعْديُّ: (قال اللهُ تعالى:
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا أي: فليَتَمَتَّعوا في هذه الدَّارِ المُنقَضيةِ، ويَفرَحُوا بلذَّاتِها، ويَلْهوا بلَعِبِها، فسيَبكُونُ كَثيرًا في عَذابٍ أليمٍ
جُزاءٍ بما كانُوا يَكسِبُونَ مِنَ الكُفرِ والنِّفاقِ، وعَدَمِ الِانقيادِ لِأوامِرِ رَبِّهم)
.
وقال اللهُ تعالى:
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 66-68] .
قال
البَغَويُّ: (
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ حينَ يُسحَبُونَ عليها
يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدُّنيا)
.
وقال ابنُ جُزَيٍّ: (وتَقليبُ وُجُوهِهم: تَصريفُها في جِهةِ النَّارِ كَما تَدُورُ البَضعةُ أي قِطعةُ اللَّحمِ في القِدْرِ إذا غَلتْ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ، أو تَغيُّرِها عَن أحوالِها)
.
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] .
قال
البيضاويُّ: (الزَّفيرُ: إخراجُ النَّفَسِ، والشَّهيقُ: رَدُّه، واستِعمالُهما في أوَّلِ النَّهيقِ وآخِرِه، والمُرادُ بهما الدَّلالةُ على شِدَّةِ كَربِهم وغَمِّهم، وتَشبيهُ حالِهم بمَنِ استَولَتِ الحَرارةُ على قَلْبِه وانحَصَرَ فيه رُوحُه، أو تَشبيهُ صُراخِهم بأصَواتِ الحَميرِ)
.