موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: النَّفَقةُ عليهم


مِن حُقوقِ الأولادِ على الآباءِ: النَّفَقةُ عليهم، وهيَ واجِبةٌ على الوالدِ للأولادِ الذينَ لا مالَ لهم حتَّى سِنِّ البُلوغِ [108] يَجِبُ على الوالدِ النَّفَقةُ على أولادِه الذينَ لا مالَ لهم حتَّى سِنِّ البُلوغِ، ولا تَجِبُ النَّفَقةُ على أبنائِه الذُّكورِ بَعدَ سِنِّ البُلوغِ إذا كانت لهمُ القُدرةُ على التَّكَسُّبِ، وتَجِبُ إذا لم يَكُنْ لهم قُدرةٌ على التَّكَسُّبِ، ويَجِبُ على الوالدِ النَّفَقةُ على بِنتِه البالغةِ المُحتاجةِ ما لم تَتَزَوَّجْ، وتَجِبُ نَفَقةُ المَحضونِ في مالِه إن كان له مالٌ، فإن لم يَكُنْ له مالٌ ففي مالِ مَن تُجِبُ عليه نَفقَتُه، وتَجِبُ النَّفقةُ للحَفيدِ الفقيرِ العاجِزِ عنِ الكَسبِ إذا كان الأبُ فقيرًا. يُنظر تَفصيلُ هذه المَسائِلِ -وغَيرِها مِمَّا يَتَعَلَّقُ بأحكامِ النَّفَقاتِ- مَعَ أدِلَّتِها في: ((المَوسوعة الفِقهيَّة بمَوقِعِ الدُّرَرِ السَّنيَّة)) .
الأدِلَّةُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ والإجماعِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللهَ تعالى بَيَّن أنَّ على الأبِ الذي يُولَدُ له إطعامُ وكِسوةُ وَلَدِه بالمعروفِ [109] يُنظر: ((فتح القدير)) للشوكاني (1/ 245). .
2- قَولُه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أوجب اللهُ أُجرةَ رَضاعِ الوَلَدِ على الأبِ، فدَلَّ على أنَّ نَفَقَتَه تجِبُ عليه [110] يُنظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (11/245). .
وقال الرَّازيُّ: (قَولُه: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني حَقَّ الرَّضاعِ وأُجرَتَه... وهو دليلٌ على أنَّ اللَّبَنَ وإن خُلِق لمكانِ الوَلَدِ فهو مِلكٌ لها، وإلَّا لم يكُنْ لها أن تأخُذَ الأجرَ، وفيه دليلٌ على أنَّ حَقَّ الرَّضاعِ والنَّفَقةِ على الأزواجِ في حَقِّ الأولادِ) [111] ((مفاتيح الغيب)) (30/ 564). .
فقد أوجَبَ اللهُ تعالى نَفَقةَ الوَلَدِ حَملًا ورَضيعًا بواسِطةِ الإنفاقِ على الحاملِ والمُرْضِعِ؛ فإنَّه لا يُمكِنُ رَزْقُه بدونِ رَزْقِ حامِلِه ومُرْضِعِه، وفي ذلك تنبيهٌ على أنَّ نَفقةَ الوَلَدِ على أبيه أيضًا بعدَ فِطامِه؛ فإنَّه إذا كان في حالِ اختِفائِه وارتضاعِه أوجَبَ نفقةَ مَن تَحمِلُه وتُرضِعُه -إذْ لا يُمكِنُ الإنفاقُ عليه إلَّا بذلك- فالإنفاقُ عليه بعدَ فِصالِه إذا كان يُباشِرُ الارتِزاقَ بنَفْسِه: أَولى وأَحرى. وهذا مِن حُسْنِ الاستِدلالِ؛ فقد تَضَمَّنَ الخِطابُ التَّنبيهَ بأنَّ الحُكمَ في المسكوتِ أَولى منه في المنطوقِ، وتَضَمَّنَ تعليلَ الحُكْمِ بكَونِ النَّفَقةِ إنَّما وَجَبَتْ على الأبِ؛ لأنَّه هو الذي له الوَلَدُ دونَ الأمِّ، ومَن كان الشَّيءُ له كانت نَفَقتُه عليه؛ ولذا سُمِّيَ الوَلَدُ كَسْبًا في قَولِه: وَمَا كَسَبَ [المسد: 2] ، وفي قَولِه: ((إنَّ أطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وإنَّ وَلَدَه مِن كَسْبِهـ)) [112] أخرجه مِن طُرقٍ: أبو داود (3528) باختلافٍ يسيرٍ، والنَّسائيُّ (4452)، وابنُ ماجه (2137) واللَّفظُ لهما مِن حديثِ عائشةَ رضيَ الله عنها. صحَّحه أبو زرعة الرازي كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (4/1302)، وابنُ حِبَّانَ في ((صحيحهـ)) (4260)، وابنُ حزم في ((المحلى)) (8/102)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (8/308)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2137). [113] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/106). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ هِندًا قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ، وليس لي إلَّا ما يدخُلُ بيتي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذِي ما يكفيكِ ووَلَدَك بالمعروفِ)) [114] أخرجه البخاري (5364) واللَّفظُ له، ومسلم (1714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحديثَ نَصٌّ في وُجوبِ النَّفَقةِ على الأولادِ [115] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (26/45)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/319). .
2-عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كَفى بالمَرءِ إثمًا أن يَحبِسَ عَمَّن يَملِكُ قُوتَهـ)) [116] أخرجه مسلم (996). .
ج- مِنَ الآثارِ
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفضَلُ الصَّدَقةِ ما ترك غِنًى، واليدُ العُلْيا خيرٌ من اليَدِ السُّفلى، وابدأْ بمن تعولُ)). تَقولُ المَرأةُ: إمَّا أن تُطعِمَني وإمَّا أن تُطَلِّقَني، ويَقولُ العَبدُ: أطعِمْني واستَعمِلْني، ويَقولُ الابنُ: أطعِمْني، إلى مَن تَدَعُني؟ فقالوا: يا أبا هرَيرةَ، سَمِعتَ هذا مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: لا، هذا مِن كِيسِ أبي هرَيرةَ [117] أخرجه البخاري (5355). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِ أبي هرَيرةَ: (ويَقولُ الابنُ: أطعِمْني، إلى مَن تَدَعُني؟) دَليلٌ على وُجوبِ النَّفقةِ عليه [118] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/540). .
د- مِنَ الإجماعِ
 نَقَل الإجماعَ على ذلك: غَيرُ واحِدٍ مِن أهلِ العِلمِ [119] منهم: القاضي عبدُ الوَهَّابِ، والماوَرديُّ، وابنُ حَزمٍ، والكاسانيُّ، وابنُ عبدِ البَرِّ، وابنُ قُدامةَ، والقُرطبيُّ، وابنُ تيميَّةَ، وابنُ القَيِّمِ. قال القاضي عبدُ الوهَّابِ: (تلزَمُ الرَّجُلَ نَفَقةُ وَلَدِه الصَّغيرِ إذا كان فقيرًا...فبَيَّن أنَّ النَّفَقةَ تَلزَمُ لكُلِّ واحدٍ ممَّن ذُكِر، وأنه يحتجُّ بما ذكرَه، ولا خلافَ في ذلك). ((المعونة على مذهب عالم المدينة)) (ص: 937). وقال الماوَرديُّ: (نَفَقةُ الأولادِ على الآباءِ بدليلِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ). ((الحاوي الكبير)) (11/477). وقال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا على أنَّه يلزَمُ الرَّجُلَ -الذي هو كما ذكَرْنا- نَفَقةُ وَلَدِه وابنتِه اللذَينِ لم يبلُغَا ولا لهما مالٌ، حتى يبلُغا). ((مراتب الإجماع)) (ص: 79). وقال الكاسانيُّ: (لو كان للصَّغيرِ أبوانِ فنَفَقتُه على الأبِ لا على الأمِّ، بالإجماعِ). ((بدائع الصنائع)) (4/32). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ بعد أن ذكَر الأثَرَ عن أبي هُرَيرةَ: ("يقولُ وَلَدُك: أنفِقْ عَلَيَّ، إلى من تَكِلُني؟" قال أبو عُمَرَ: هذا بَيِّنٌ في نَفَقاتِ الزَّوجاتِ والمماليكِ، والبنينَ الصِّغارِ والبناتِ، ولا خِلافَ بين العُلَماءِ في وجوبِ النَّفَقاتِ جملةً على ما ذكَرْنا). ((الاستذكار)) (8/540). وقال ابنُ قُدامةَ: (من كان له أبٌ من أهلِ الإنفاقِ لم تجِبْ نفَقَتُه على سواه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] ، وقال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ [البقرة: 233] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهندٍ: «خُذِي ما يكفيكِ ووَلَدَكِ بالمعروفِ»، فجعل النَّفَقةَ على أبيهم دونها، ولا خِلافَ في هذا نَعلَمُهـ). ((المغني)) (8/216). وقال القُرطُبيُّ: (أجمع العُلَماءُ على أنَّ على المرءِ نَفَقةَ وَلَدِه الأطفالِ الذين لا مالَ لهم). ((الجامع لأحكام القرآن)) (3/163). وقال ابنُ تيميَّةَ: (يجِبُ على الرَّجُلِ أن يُنفِقَ على وَلَدِه وبهائِمِه وزَوجتِه، بإجماعِ المُسلمِين). ((مجموع الفتاوى)) (8/535). وقال ابنُ القَيِّمِ: (فيه دليلٌ على تفَرُّدِ الأبِ بنَفَقةِ أولادِه، ولا تُشارِكُه فيها الأمُّ، وهذا إجماعٌ من العُلَماءِ إلَّا قولًا شاذًّا لا يُلتَفَتُ إليه: أنَّ على الأمِّ من النَّفَقةِ بقَدرِ مِيراثِها). ((زاد المعاد)) (5/448). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ الوَلَدَ بَعضٌ مِنَ الأبِ، فكما يلزَمُه أن يُنفِقَ على نَفْسِه، فكذلك يَلزَمُه أن يُنفِقَ على وَلَدِه [120] يُنظر: ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (11/245). .

انظر أيضا: