خامسَ عشرَ: الخَوفُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
مِنَ الأدَبِ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: الخَوفُ مِنه سُبحانَه خَوفًا لا يُقنِطُ مِن رَحمَتِه
[197] قال القاسِميُّ: (اعلَمْ أنَّ الخَوفَ عِبارةٌ عن تَألُّمِ القَلبِ واحتِراقِه بسَبَبِ تَوقُّعِ مَكروهٍ في الاستِقبالِ، والعِلمِ بأسبابِ المَكروهِ، وهو السَّبَبُ الباعِثُ المُثيرُ لإحراقِ القَلبِ وتَألُّمِه، وذلك الإحراقُ هو الخَوفُ. فالخَوفُ مِنَ اللهِ تعالى تارةً يَكونُ لمَعرِفةِ اللهِ تعالى ومَعرِفةِ صِفاتِه، وأنَّه لو أهلَك العالَمينَ لم يُبالِ ولم يَمنَعْه مانِعٌ، وتارةً يَكونُ لكَثرةِ الجِنايةِ مِنَ العَبدِ بمُقارَفةِ المَعاصي، وتارةً يَكونُ بهما جَميعًا. وبحَسَبِ مَعرِفتِه بعُيوبِ نَفسِه، ومَعرِفتِه بجَلالِ اللهِ تعالى واستِغنائِه، وأنَّه لا يُسألُ عَمَّا يَفعَلُ وهم يُسأَلونَ تَكونُ قوَّةُ خَوفِه. فأخوَفُ النَّاسِ لرَبِّه أعرَفُهم بنَفسِه وبرَبِّه؛ ولذلك قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنا أخوَفُكُم للَّهِ» [أخرجه البخاري (5063) من حديثِ أنَسِ بلفظِ: "أمَا واللَّهِ إنِّي لأخشاكُم للهِ وأتقاكُم له"]، وكذلك قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، ثُمَّ إذا كَمَلتِ المَعرِفةُ أورَثَت جَلالَ الخَوفِ واحتِراقَ القَلبِ، ثُمَّ يَفيضُ أثَرُ الحُرقةِ مِنَ القَلبِ على البَدَنِ وعلى الجَوارِحِ وعلى الصِّفاتِ: أمَّا في البَدَنِ: فبالنُّحولِ والبُكاءِ، وأمَّا في الجَوارِحِ: فبكَفِّها عنِ المَعاصي وتَقييدِها بالطَّاعاتِ تَلافيًا لِما فرَطَ واستِعدادًا للمُستَقبَلِ، وأمَّا في الصِّفاتِ: فبأن يَقمَعَ الشَّهَواتِ ويُكَدِّرَ اللَّذَّاتِ، فتَصيرَ المَعاصي المَحبوبةُ عِندَه مَكروهةً، كَما يَصيرُ العَسَلُ مَكروهًا عِندَ مَن يَشتَهيه إذا عَرَف أنَّ فيه سُمًّا، فتَحتَرِقُ الشَّهَواتُ بالخَوفِ، وتَتَأدَّبُ الجَوارِحُ، ويَحصُلُ في القَلبِ الذُّبولُ والخُشوعُ والاستِكانةُ، ويُفارِقُه الكِبرُ والحِقدُ والحَسَدُ، ولا يَكونُ له شُغلٌ إلَّا المُراقَبةُ والمُحاسَبةُ والمُجاهَدةُ، والضِّنَّةُ بالأنفاسِ واللَّحَظاتِ، ومُؤاخَذةُ النَّفسِ بالخَطَراتِ والخُطواتِ والكَلِماتِ. وما ورَدَ في فضيلةِ الخَوفِ خارِجٌ عنِ الحَصرِ، وناهيك دَلالةً على فضيلتِه جَمعُ اللهِ تعالى للخائِفينَ الهدى والرَّحمةَ والعِلمَ والرِّضوانَ، وهيَ مَجامِعُ مَقاماتِ أهلِ الجِنانِ؛ قال اللهُ تعالى: هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154] ، وقال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 8] ، وكُلُّ ما دَلَّ على فضيلةِ العِلمِ دَلَّ على فضيلةِ الخَوفِ؛ لأنَّ الخَوفَ ثَمَرةُ العِلمِ). ((موعظة المؤمنين)) (ص: 290، 291). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 155). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ: أ- مِنَ الكِتابِ 1- قال تعالى:
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175] .
2- قال تعالى:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] .
3- قال تعالى:
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة: 44] .
4- قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك: 12] .
أي: إنَّ الذينَ يَخافونَ اللَّهَ وهم لم يَرَوه في الدُّنيا، ولم يَرَوا عَذابَه، فيُطيعونَه ويَترُكونَ مَعصيَتَه حتَّى في خَلواتِهم حَيثُ لا يَراهمُ النَّاسُ: لهم مَغفِرةٌ مِنَ اللهِ لذُنوبِهم، وثَوابٌ مِنَ اللهِ لهم على خَشيَتِهم إيَّاه بالغَيبِ عَظيمٌ
[198] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (23/ 126)، ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (39/ 285). .
5- وقال تعالى عن أهلِ الجَنَّةِ:
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 25 - 28] .
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ أي: قد كُنَّا في الدَّارِ الدُّنيا ونَحنُ بَينَ أهلِنا خائِفينَ مِن رَبِّنا مُشفِقينَ مِن عَذابِه وعِقابِه،
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ أي: فتَصَدَّق علينا وأجارَنا مِمَّا نَخافُ
[199] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 435). .
6- قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 57 - 61] .
7- قال تعالى:
ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14] ،
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46] ،
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41] أي: وأمَّا مَن خاف مَقامَه بَينَ يَدَيِ اللهِ تعالى للحِسابِ يَومَ القيامةِ، فاتَّقاه بفِعلِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه، ونَهى نَفسَه وزَجَرَها عن كُلِّ ما لا يُرضي اللَّهَ تعالى؛ فإنَّ الجَنَّةَ تَكونُ مَسكَنَه ومُستَقَرَّه في الآخِرةِ
[200] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (42/ 196، 197). .
وخَوفُ مَقامِ اللهِ وسيلةٌ إلى الخَجَلِ مِنَ اللهِ، والاستِحياءِ مِن مُخالفتِه، وإلى إحسانِ طاعَتِه
[201] ((شجرة المعارف)) للعز بن عبد السلام (ص: 69). .
8- قال تعالى:
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 57] .
9- قال تعالى:
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 97 - 99] .
10-قال تعالى:
قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر: 15 - 17] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((سَبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادِلُ، وشابٌّ نَشَأ في عِبادةِ رَبِّه، ورَجُلٌ قَلبُه مُعَلَّقٌ في المَساجِدِ، ورَجُلانِ تَحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتَفَرَّقا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْه امرَأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنِّي أخافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخفى حَتَّى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يَمينُه، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عَيناه)) [202] أخرجه البخاري (660) واللفظ له، ومسلم (1031). .
(يَحتَمِلُ قَولُه: "أخافُ اللَّهَ" باللِّسانِ، ويَحتَمِلُ قَولُه في قَلبِه؛ ليَزجُرَ نَفسَه، وخَصَّ ذاتَ المَنصِبِ والجَمالِ لكَثرةِ الرَّغبةِ فيها، وعُسرِ حُصولِها، وهيَ جامِعةٌ للمَنصِبِ والجَمالِ، لا سيَّما وهيَ داعيةٌ إلى نَفسِها طالبةٌ لذلك، قد أغنَت عن مَشاقِّ التَّوصُّلِ إلى مُراودةٍ ونَحوِها. فالصَّبرُ عنها لخَوفِ اللَّهِ تعالى، وقد دَعَت إلى نَفسِها، مَعَ جَمعِها المنصِبَ والجَمالَ: مِن أكمَلِ المَراتِبِ وأعظَمِ الطَّاعاتِ؛ فرَتَّبَ اللَّهُ تعالى عليه أن يُظِلَّه في ظِلِّه)
[203] ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 122). ويُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) لعياض (3/ 563). .
(وذِكرُ اللهِ يَشمَلُ ذِكرَ عَظَمَتِه وبَطشِه وانتِقامِه وعِقابِه، والبُكاءُ النَّاشِئُ عن هذا هو بُكاءُ الخَوفِ، ويَشمَلُ ذِكرَ جَمالِه وكَمالِه وبرِّه ولُطفِه وكَرامَتِه لأوليائِه بأنواعِ البرِّ والإلطافِ، لا سيَّما برُؤيَتِه في الجَنَّةِ، والبُكاءُ النَّاشِئُ عن هذا هو بُكاءُ الشَّوقِ)
[204] ((فتح الباري)) لابن رجب (4/ 63). .
فائدةٌ: - قال أبو العَبَّاسِ ابنُ قُدامةَ: (اعلَمْ أنَّ الخَوفَ سَوطُ اللَّهِ تعالى يَسوقُ به عِبادَه إلى المواظَبةِ على العِلمِ والعَمَلِ؛ ليَنالوا بهما رُتبةَ القُربِ مِنَ اللهِ تعالى.
والخَوفُ له إفراطٌ، وله اعتِدالٌ، وله قُصورٌ.
والمَحمودُ مِن ذلك الاعتِدالُ، وهو بمَنزِلةِ السَّوطِ للبَهيمةِ؛ فإنَّ الأصلحَ للبَهيمةِ ألَّا تَخلوَ عن سَوطٍ، وليسَ المُبالغةُ في الضَّربِ مَحمودةً، ولا التَّقاصُرُ عنِ الخَوفِ أيضًا مَحمودٌ، وهو كالذي يَخطُرُ بالبالِ عِندَ سَماعِ آيةٍ، أو سَبَبٍ هائِلٍ، فيورِثُ البُكاءَ، فإذا غابَ ذلك السَّبَبُ عنِ الحِسِّ رَجَعَ القَلبُ إلى الغَفلةِ، فهو خَوفٌ قاصِرٌ قَليلُ الجَدوى، ضَعيفُ النَّفعِ، وهو كالقَضيبِ الضَّعيفِ الذي يَضرِبُ به دابَّةً قَويَّةً، فلا يُؤلمُها ألمًا مُبَرِّحًا، فلا يَسوقُها إلى المَقصِدِ، ولا يَصلُحُ لرياضَتِها، وهذا هو الغالبُ على النَّاسِ كُلِّهم إلَّا العارِفينَ والعُلماءَ، أعني العُلماءَ باللهِ وبآياتِه، وقد عَزَّ وجودُهم، وأمَّا المُرتَسِمونَ برُسومِ العِلمِ فإنَّهم أبعَدُ النَّاسِ عنِ الخَوفِ!
وأمَّا القِسمُ الأوَّلُ -وهو الخَوفُ المُفرِطُ- فهو الذي يَقوى ويُجاوِزُ حَدَّ الاعتِدالِ حتَّى يَخرُجَ إلى اليَأسِ والقُنوطِ، فهو أيضًا مَذمومٌ؛ لأنَّه يَمنَعُ مِنَ العَمَلِ، وقد يُخرِجُ المَرَضَ والوَلَهَ والمَوتَ، وليسَ ذلك مَحمودًا، وكُلُّ ما يُرادُ لأمرٍ فالمَحمودُ مِنه ما يُفضي إلى المُرادِ المَقصودِ مِنه، وما يَقصرُ عنه أو يُجاوِزُه فهو مَذمومٌ، وفائِدةُ الخَوفِ: الحَذَرُ والورَعُ، والتَّقوى والمُجاهَدةُ، والفِكرُ والذِّكرُ والتَّعَبُّدُ، وسائِرُ الأسبابِ التي توصِلُ إلى اللهِ تعالى، وكُلُّ ذلك يَستَدعي الحَياةَ مَعَ صِحَّةِ البَدَنِ وسَلامةِ العَقلِ، فإذا قدَحَ في ذلك شَيءٌ كان مَذمومًا)
[205] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 303، 304). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 157). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش