موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: البُعدُ عنِ الحَرامِ


يَجِبُ على الموظَّفِ تَحَرِّي الحَلالِ، واجتِنابُ الحَرامِ؛ كالرِّشوةِ وغَيرِها، ويَنبَغي لَه اتِّقاءُ الشُّبُهاتِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكتاب
قال تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ -وأهوى النُّعمانُ بإصبَعَيه إلى أُذُنَيه-: ((إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشتَبِهاتٌ لا يَعلَمُهنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه [165] استَبرَأ لدينِه وعِرضِه: أي: حَصَلَ له البَراءةُ لدينِه مِنَ الذَّمِّ الشَّرعيِّ، وصانَ عِرضَه عن كَلامِ النَّاسِ فيه. والعِرضُ، قيلَ: هو بَدَنُ الإنسانِ ونَفسُه، وقيلَ: هو مَوضِعُ المَدحِ والذَّمِّ مِن نَفسِه أو سَلَفِه أو مَن نُسِبَ إليه، وقيلَ: ما يَصونُه مِن نَفسِه وحَسَبِه. ومَعنى الحَديثِ: مَن تَرَكَ ما يُشتَبَه عليه سَلِمَ دينُه مِمَّا يُفسِدُه أو يَنقُصُه، وعِرضُه مِمَّا يَشينُه ويَعيبُه، فيَسلَمُ مِن عِقابِ اللهِ وذَمِّه، ويَدخُلُ في زُمرةِ المُتَّقينَ الفائِزينَ بثَناءِ اللهِ تعالى وثَوابِه. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 490)، ((شرح مسلم)) للنووي (11/ 28)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 155). ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحَرامِ، كالرَّاعي يَرعى حَولَ الحِمى [166] الحِمَى: هو المَرعى الذي يَحميه السُّلطانُ مِن أن يَرتَعَ مِنه غَيرُ رُعاةِ دَوابِّه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 1892). ، يوشِكُ أن يَرتَعَ [167] يَرتَعُ: مِنَ الرَّتعِ، وهو أكلُ الماشيةِ مِنَ المَرعى، وأصلُه الإقامةُ فيه والتَّبَسُّطُ في الأكلِ والشُّربِ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 494)، ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (7/ 304). فيه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللَّهِ مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ)) [168] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له. .
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (قَولُه: «ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ» وذلك يَكونُ بوجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّ مَن لم يَتَّقِ اللَّهَ تعالى، وتَجَرَّأ على الشُّبُهاتِ، أفضَت به إلى المُحَرَّماتِ بطَريقِ اعتيادِ الجُرأةِ، والتَّساهُلِ في أمرِها، فيَحمِلُه ذلك على الجُرأةِ على الحَرامِ المَحضِ؛ ولهذا قال بَعضُ المُتَّقينَ: الصَّغيرةُ تَجُرُّ إلى الكَبيرةِ، والكَبيرةُ تَجُرُّ إلى الكُفرِ ... وهو مَعنى قَولِه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] .
وثانيهما: أنَّ مَن أكثَرَ مِن مواقَعةِ الشُّبُهاتِ أظلمَ عَليه قَلبُه؛ لفِقدانِ نورِ العِلمِ، ونورِ الورَعِ، فيَقَعُ في الحَرامِ، ولا يَشعُرُ به. وإلى هذا النُّورِ الإشارةُ بقَولِه تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] ، وإلى ذلك الإظلامِ الإشارةُ بقَولِه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزَّمر: 22] .
وقَولُه: «كالرَّاعي حَولَ الحِمى يوشِكُ أن يَرتَعَ فيه» هذا مَثَلٌ ضَربَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَحارِمِ اللهِ تعالى. وأصلُه: أنَّ مُلوكَ العَرَبِ كانت تَحمي مَراعيَ لمَواشيها الخاصَّةِ بها، وتُحَرِّجُ بالتَّوعُّدِ بالعُقوبةِ على مَن قَربَها. فالخائِفُ مِن عُقوبةِ السُّلطانِ يبعدُ بماشيَتِه مِن ذلك الحِمى؛ لأنَّه إن قَرُبَ مِنه فالغالِبُ الوُقوعُ وإن كَثُرَ الحَذَرُ؛ إذ قد تَنفرِدُ الفاذَّةُ [169] الفاذَّةُ، أي: المنفَرِدةُ، والفَذُّ: الواحِدُ الفَردُ، يقالُ: فَذَّ الشَّيءُ فهو فاذٌّ، وفَذَّ الرَّجُلُ عن أصحابِه: إذا شَذَّ عنهم وبَقِيَ فَردًا وَحدَه. ينظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1185) و (3/ 1741)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 166). ، وتَشِذُّ الشَّاذَّةُ ولا تَنضَبطُ، فالحَذَرُ: أن يَجعَلَ بَينَه وبَينَ ذلك الحِمى مَسافةً بحَيثُ يَأمَنُ فيها مِن وُقوعِ الشَّاذَّةِ والفاذَّةِ. وهَكَذا مَحارِمُ اللهِ تعالى، لا يَنبَغي أن يَحومَ حَولَها؛ مَخافةَ الوُقوعِ فيها على الطَّريقَتَينِ المُتَقدِّمَتَينِ) [170] ((المفهم)) (4/ 493). .
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لكَعبِ بنِ عُجْرةَ: ... يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، إنَّه لا يَدخُلُ الجَنَّةَ لَحمٌ نَبَتَ مِن سُحتٍ، النَّارُ أَولى بهـ)) [171] أخرجه أحمد (14441) واللفظ له، والدارمي (2818) مُختَصَرًا، وابن حبان (4514) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابنُ حبان، والذهبي على شرط الشيخين في ((الكبائر)) (223)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (213)، وصحَّحه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2242). .
وفي رِوايةٍ: عن كَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، إنَّه لا يَربو [172] رَبَا الشَّيءُ يَربو: إذا زادَ ونَما. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 76). لَحمٌ نَبَتَ مِن سُحتٍ [173] السُّحتُ: الحَرامُ الخَبيثُ مِنَ المَكسَبِ والمَطعَمِ والمُشرَبِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 77). إلَّا كانتِ النَّارُ أَولى بهـ)) [174] أخرَجَها مِن طُرُقٍ: الترمذي (614) واللَّفظُ له، والنسائي (4207) بنحوه. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (279)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (215)، وأحمد شاكر في ((شرح سنن الترمذي)) (2/513)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (614). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ليَأتينَّ على النَّاسِ زَمانٌ لا يُبالي المَرءُ بما أخَذَ المالَ أمِنْ حَلالٍ أم مِن حَرامٍ)) [175] أخرجه البخاري (2083). .
4- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَر المُؤمِنينَ بما أمَر به المُرسَلينَ، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعَثَ أغبَرَ، يَمُدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطعَمُه حَرامٌ، ومَشرَبُه حَرامٌ، ومَلبَسُه حَرامٌ، وغُذِيَ [176]غُذِيَ بالحَرامِ -بغَينٍ مُعجَمةٍ مَضمومةٍ، وذالٍ مُعجَمةٍ مَكسورةٍ مُخَفَّفةٍ- أي: كان غِذاؤُه الحَرامَ. يُنظر: ((التعيين في شرح الأربعين)) للصرصري (1/ 114). بالحَرامِ، فأنَّى يُستَجابُ لذلك؟!)) [177] أخرجه مسلم (1015). .
5- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ، فإنَّ نَفسًا لن تَموتَ حتَّى تَستَوفيَ رِزقَها وإن أبطَأَ عنها، فاتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ، خُذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُمَ)) [178] أخرجه من طرق: ابن ماجه (2144) واللفظ له، وابن الجارود في ((المنتقى)) (556)، وابن حبان (3239). صحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (8137)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2144). .
وفي رِوايةٍ: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ أحَدَكُم لن يَموتَ حتَّى يَستَكمِلَ رِزقَه، فلا تَستَبطِئوا الرِّزقَ واتَّقوا اللَّهَ أيُّها النَّاسُ، وأجمِلوا في الطَّلَبِ، خُذوا ما حَلَّ ودَعُوا ما حَرُمَ)) [179] أخرجها ابنُ أبي عاصم في ((السنة)) (420)، والحاكم (2167) واللفظ له، والبيهقي في ((الآداب)) (777). صحَّحها الألباني على شرط مسلم في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 209)، وصحَّح إسنادَها الحاكم. .
وفي أُخرى: ((لا تَستَبطِئوا الرِّزقَ؛ فإنَّه لم يَكُنْ عَبدٌ ليَموتَ حتَّى يَبلُغَ آخِرَ رِزقٍ هو له، فأجمِلوا في الطَّلَبِ؛ أخْذِ الحَلالِ، وتَركِ الحَرامِ)) [180] أخرجها الحاكم (2166) واللفظ له، والبيهقي (10502)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (7/ 158). صحَّحها على شرط الشيخين: الحاكم، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (2607). .
6-عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَعنةُ اللهِ على الرَّاشي والمُرتَشي)) [181] أخرجه ابن ماجه (2313)، وأحمد (6984). حسنه البغوي في ((شرح السنة)) (5/330)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (11/172)، وقواه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6984)، وذكر ثبوته ابن حجر في ((فتح الباري)) (5/261) وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (2313) .
وفي رِوايةٍ: ((لعَنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّاشيَ والمُرتَشيَ)) [182] أخرجها أبو داود (3580)، والترمذي (1337)، وأحمد (6778). قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (781)، وصحح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (7262)، وقواه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3580) وذهب إلى تصحيحه ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (3/548)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3580) .

انظر أيضا: