أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَعضِ الفِتَنِ التي سَتَقَعُ بَعدَه، ومِن تلك الفِتَنِ تَولِّي الحُكمِ والإمارةِ لأُناسٍ سُفهاءَ وصِبيانٍ ليس عِندَهم مَعرِفةٌ بالحُكمِ، ولمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَريصًا على أصحابِه مُحِبًّا لَهم كان يُحَذِّرُهم مِن تلك الفِتَنِ ويَدعو لَهم أن يُعيذَهمُ اللَّهُ مِنها، ومِن ذلك أنَّه قال لكَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أعاذَك اللَّهُ مِن إمارةِ السُّفَهاءِ، أي: أسألُ اللهَ تعالى أن يَعصِمَك ويَقيَك إمارةَ السُّفهاءِ، جَمعُ سَفيهٍ، والسَّفَهُ: هو الخِفَّةُ والطَّيشُ الذي يَقتَضيه نُقصانُ العَقلِ. فقال كَعبٌ: وما إمارةُ السُّفهاءِ؟ فبَيَّنَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك، فقال: أُمَراءُ يَكونونَ بَعدي، أي: بَعدَ مَوتي، لا يَقتَدونَ بهَدْيي، أي: لا يَمتَثِلونَ ويَعمَلونَ بطَريقَتي، ولا يَستَنُّونَ بسُنَّتي، أي: لا يَسيرونَ على وَفقِ سُنَّتي، فمَن صَدَّقَهم بكَذِبِهم، أي: صَدَّقَهم في كَذِبهم، وأعانَهم على ظُلمِهم، أي: شارَكَهم في الظُّلمِ الذي يَقَعُ مِنهم على النَّاسِ، فأولئك لَيسوا مِنِّي ولَستُ مِنهم، أي: طَريقَتُهم ليست طَريقتي، أو أنا بَريءٌ مِنهم، ولا يَرِدُوا عليَّ حَوضي، أي: لا يَشرَبوا مِن حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والمَعنى: أنَّهم يَكذِبونَ في الكَلامِ، فمَن صَدَّقَهم في كَلامِهم ذلك وقال لَهم: صَدَقتُم؛ تَقَرُّبًا بذلك إليهم، وأعانَهم على ما هم فيه مِن ظُلمٍ، فليس مِنِّي، تَغليظٌ وتَشديدٌ بأنَّه قدِ انقَطَعَت الموالاةُ بَيني وبَينَهم. ومَن لَم يُصَدِّقْهم بكَذِبهم، أي: اتِّقاءً وتَورُّعًا، ولَم يُعِنْهم على ظُلمِهم، فأولئك مِنِّي، أي: مِن أهلِ سُنَّتي ومَحبَّتي، وأنا مِنهم، أي: مُحِبُّهم ومُوالٍ لَهم وستنالهم الشَّفاعةُ. وسيردوا عليَّ حَوضي، أي: أنَّهم سيشربون مِن حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ القيامةِ. ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، الصَّومُ جُنَّةٌ، أي: وِقايةٌ مِنَ النَّارِ، أو مِنَ الشَّهَواتِ المُؤَدِّيةِ إلى النَّارِ، والصَّدَقةُ تُطفِئُ الخَطيئةَ، أي: تُكَفِّرُ الخَطيئةَ، والصَّلاةُ قُربانٌ، أي: قُربةٌ عَظيمةٌ إلى اللهِ تعالى؛ لِما فيها مِنَ الخُشوعِ والرُّكوعِ والسُّجودِ، أو قال: بُرهانٌ، أي: دَليلٌ على صِدقِ إيمانِ صاحِبِها. ثُمَّ قال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، إنَّه لا يَدخُلُ الجَنَّةَ لَحمٌ، أي: صاحِبُ لَحمٍ، نَبَتَ مِن سُحتٍ، أي: مِن حَرامٍ، والسُّحتُ: الحَرامُ الذي لا يَحِلُّ كَسبُه؛ لأنَّه يَسحِتُ البَرَكةَ: أي يُذهِبُها. النَّارُ أَولى به، أي: بذلك اللَّحمِ، ثُمَّ قال له: يا كَعبُ بنَ عُجرةَ، النَّاسُ غاديانِ، أي: قِسمانِ خارِجانِ أوَّلَ النَّهارِ لمَقصِدٍ مِنَ المَقاصِدِ، والغُدُوُّ: هو الذَّهابُ في الصَّباحِ، فإمَّا أن يَكونَ ذلك المَقصِدُ مُؤَدِّيًا إلى الجَنَّةِ أوِ النَّارِ، فمُبتاعٌ، أي: مُشتَرٍ، نَفسَه، فمُعتِقُها، أي: مُخَلِّصُها مِنَ النَّارِ، وبائِعٌ نَفسَه، أي: بالعَمَلِ الذي يَستَحِقُّ به الحِرمانَ مِنَ الجَنَّةِ والدُّخولَ في النَّارِ، فمُوبِقُها، أي: مُهلِكُها بالدُّخولِ في النَّارِ.
وفي الحَديثِ مُعجِزةٌ مِن مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه خُطورةُ إمارةِ السُّفهاءِ.
وفيه دُعاءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه.
وفيه خُطورةُ تَصديقِ الأُمَراءِ الظَّلَمةِ.
وفيه بَيانُ الوعيدِ لمَن أعانَ أميرًا على ظُلمِه.
وفيه فضلُ مَن لَم يَقِفْ مَعَ الأُمَراءِ السُّفهاءِ.
وفيه تَبرِّي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّن أعانَ ظالِمًا على ظُلمِه.
وفيه فَضلُ الابتِعادِ عنِ الأُمَراءِ، واتِّخاذُ الحَذَرِ مِنهم.
وفيه إثباتُ الحَوضِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ القيامةِ.
وفيه تَعليمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه وبَيانُه لَهم فضائِلَ الأعمالِ.
وفيه فضلُ الصَّومِ.
وفيه فَضلُ الصَّدَقةِ.
وفيه فَضلُ الصَّلاةِ.
وفيه خُطورةُ أكلِ الحَرامِ.
وفيه فَضلُ مَن أعتَقَ نَفسَه مِنَ الذُّنوبِ ونَجا.
وفيه خُطورةُ الذُّنوبِ على الإنسانِ؛ لأنَّها تُؤَدِّي إلى هَلاكِه .