موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: الوِقايةُ وعَدَمُ الاختِلاطِ بأصحابِ الأمراضِ المُعديةِ


على المَرءِ سُلوكُ سُبُلِ الوِقايةِ مِنَ الآفاتِ، وعَدَمُ التَّعَرُّضِ لِما يَجلِبُها أو يَزيدُها، ومِن ذلك تَركُ الاختِلاطِ بأصحابِ الأمراضِ المُعديةِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] .
وجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ما كان سببًا للضَّررِ فإنَّه مَنهيٌّ عنه؛ لقولِه تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] [83] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/390). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1-عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((فِرَّ مِنَ المَجذومِ فِرارَك مِنَ الأسَدِ)) [84] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم (5707)، وأخرجه مَوصولًا أحمَد (9722) واللَّفظُ له. صَحَّحه البيهقي في ((السنن الصغير)) (3/65)، والبغوي في ((شرح السنة)) (6/264)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/482)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (7530)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9722). .
2-عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا عَدوى... فقال أعرابيٌّ: يا رَسولَ اللهِ، فما بالُ الإبلِ تَكونُ في الرَّملِ كَأنَّها الظِّباءُ، فيُخالطُها البَعيرُ الأجرَبُ فيُجرِبُها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فمَن أعدى الأوَّلَ؟!)) [85] أخرجه البخاري (5770) واللفظ له، ومسلم (2220). .
وعن أبي سَلَمةَ: سَمِعَ أبا هرَيرةَ بَعدُ يَقولُ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ)) [86] أخرجه البخاري (5771) واللفظ له، ومسلم (2221). .
قال ابنُ الصَّلاحِ: (حَديثُ: «لا عَدوى ولا طِيَرةَ»، مَعَ حَديثِ: «لا يُورِدُ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ»، وحَديثِ: «فِرَّ مِنَ المَجذومِ فِرارَك مِنَ الأسَدِ» وَجهُ الجَمعِ بَينَهما أنَّ هذه الأمراضَ لا تُعدي بطَبعِها، ولكِنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتعالى جَعَل مُخالطةَ المَريضِ بها للصَّحيحِ سَبَبًا لإعدائِه مَرَضَه، ثُمَّ قد يَتَخَلَّفُ ذلك عن سَبَبِه كَما في سائِرِ الأسبابِ؛ ففي الحَديثِ الأوَّلِ نَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يَعتَقِدُه الجاهليُّ مِن أنَّ ذلك يُعدي بطَبعِه؛ ولهذا قال: «فمَن أعدى الأوَّلَ؟»، وفي الثَّاني أعلَمَ بأنَّ اللَّهَ سُبحانَه جَعَل ذلك سَبَبًا لذلك، وحَذَّرَ مِنَ الضَّرَرِ الذي يَغلبُ وُجودُه عِندَ وُجودِه بفِعلِ اللهِ سُبحانَه وتعالى) [87] ((معرفة أنواع علوم الحديث)) (ص: 284، 285). وقال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «لا عَدوى» يُريدُ أنَّ شَيئًا لا يُعدِي شَيئًا حتَّى يَكونَ الضَّرَرُ مِن قِبَلِه، وإنَّما هو تَقديرُ اللهِ جَلَّ وعَزَّ، وسابقُ قَضائِه فيه؛ ولذلك قال: «فمَن أعدى الأوَّلَ؟»، يَقولُ: إنَّ أوَّلَ بَعيرٍ جَرِبَ مِنَ الإبِلِ لم يَكُنْ قَبلَه بَعيرٌ أجرَبُ فيُعديَه، وإنَّما كان أوَّل ما ظَهَرَ الجَرَبُ في أوَّلِ بَعيرٍ مِنها بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، فكذلك ما ظَهَرَ مِنه في سائِرِ الإبِلِ بَعدُ. وأمَّا قَولُه: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» فالمُمرِضُ: الذي مَرِضَت ماشيَتُه، والمُصِحُّ: هو صاحِبُ الصِّحاحِ مِنها، كَما قيل: رَجُلٌ مُضعِفٌ: إذا كانت دَوابُّه ضِعافًا، ومُقْوٍ: إذا كانت أقوياءَ، وليسَ المَعنى في النَّهيِ عن هذا الصَّنيعِ مِن أنَّ المَرضى تُعدي الصِّحاحَ، ولكِنَّ الصِّحاحَ إذا مَرِضَت بإذنِ اللهِ وتَقديرِه وقَعَ في نَفسِ صاحِبِه أنَّ ذلك إنَّما كان مِن قِبَلِ العَدوى، فيَفتِنُه ذلك ويُشَكِّكُه في أمرِه؛ فأُمِرَ باجتِنابِه والمُباعَدةِ عنه لهذا المَعنى). ((معالم السنن)) (4/ 233، 234). ويُنظر: ((معارج القبول)) لحافظ الحكمي (3/ 985). وقال ابنُ القَيِّمِ: (وعِندي في الحَديثَينِ مَسلَكٌ آخَرُ يَتَضَمَّنُ إثباتَ الأسبابِ والحِكَمِ، ونَفيَ ما كانوا عليه مِنَ الشِّركِ واعتِقادِ الباطِلِ، ووُقوعَ النَّفيِ والإثباتِ على وَجهِه؛ فإنَّ القَومَ كانوا يُثبِتونَ العَدوى على مَذهَبِهم مِنَ الشِّركِ الباطِلِ كَما يَقولُه المُنَجِّمونَ مِن تَأثيرِ الكَواكِبِ في هذا العالمِ، وسُعودِها ونُحوسِها، ولو قالوا: إنَّها أسبابٌ أو أجزاءُ أسبابٍ إذا شاءَ اللهُ صَرفَ مُقتَضَياتِها بمَشيئَتِه وإرادَتِه وحِكمَتِه، وإنَّها مُسَخَّرةٌ بأمرِه لِما خُلِقَت له، وإنَّها في ذلك بمَنزِلةِ سائِرِ الأسبابِ التي رَبَطَ بها مُسَبَّباتِها وجَعَل لها أسبابًا أُخَرَ تُعارِضُها وتُمانِعُها، وتَمنَعُ اقتِضاءَها لِما جُعِلَت أسبابًا له، وإنَّها لا تَقضي مُسَبَّباتِها إلَّا بإذنِه ومَشيئَتِه وإرادَتِه، ليسَ لها مِن ذاتِها ضُرٌّ ولا نَفعٌ ولا تَأثيرٌ البَتَّةَ، إنْ هيَ إلَّا خَلقٌ مُسَخَّرٌ مُصرَّفٌ مَربوبٌ لا تَتَحَرَّكُ إلَّا بإذنِ خالِقِها ومَشيئَتِه، وغايَتُها أنَّها جُزءُ سَبَبٍ ليسَت سَبَبًا تامًّا، فسَبَبيَّتُها مِن جِنسِ سَبَبيَّةِ وَطءِ الوالِدِ في حُصولِ الولدِ؛ فإنَّه جُزءٌ واحِدٌ مِن أجزاءٍ كَثيرةٍ مِنَ الأسبابِ التي خَلقَ اللهُ بها الجَنينَ، وكسَبَبيَّةِ شَقِّ الأرضِ وإلقاءِ البَذرِ؛ فإنَّه جُزءٌ يَسيرٌ مِن جُملةِ الأسبابِ التي يُكَوِّنُ اللَّهُ بها النَّباتَ، وهَكَذا جُملةُ أسبابِ العالمِ مِنَ الغِذاءِ والرِّواءِ والعافيةِ والسَّقَمِ وغَيرِ ذلك، وأنَّ اللَّهَ سُبحانَه جَعَل مِن ذلك سَبَبًا ما يَشاءُ، ويُبطِلُ السَّبَبيَّةَ عَمَّا يَشاءُ، ويَخلُقُ مِنَ الأسبابِ المُعارِضةِ له ما يَحولُ بَينَه وبَينَ مُقتَضاه؛ فهم لو أثبَتوا العَدوى على هذا الوَجهِ لَما أُنكِرَ عليهم، كَما أنَّ ذلك ثابتٌ في الدَّاءِ والدَّواءِ، وقد تَداوى النَّبيُّ وأمَرَ بالتَّداوي، وأخبَرَ أنَّه ما أنزَل اللهُ داءً إلَّا أنزَل له دَواءً إلَّا الهَرَمَ، فأعلَمَنا أنَّه خالِقُ أسبابِ الدَّاءِ وأسبابِ الدَّواءِ المُعارِضةِ المُقاوِمةِ لها، وأمَرَنا بدَفعِ تلك الأسبابِ المَكروهةِ بهذه الأسبابِ، وعلى هذا قيامُ مَصالحِ الدَّارَينِ، بَل الخَلقُ والأمرُ مَبنيٌّ على هذه القاعِدةِ؛ فإنَّ تَعطيلَ الأسبابِ وإخراجَها عن أن تَكونَ أسبابًا تَعطيلٌ للشَّرعِ ومَصالحِ الدُّنيا، والاعتِمادُ عليها والرُّكونُ إليها واعتِقادُ أنَّ المُسَبَّباتِ بها وحدَها وأنَّها أسبابٌ تامَّةٌ: شِركٌ بالخالقِ عَزَّ وجَلَّ وجَهلٌ به، وخُروجٌ عن حَقيقةِ التَّوحيدِ، وإثباتُ مُسَبِّبيَّتِها على الوَجهِ الذي خَلقَها اللهُ عليه وجَعَلها له إثباتٌ للخَلقِ والأمرِ، للشَّرعِ والقَدَرِ، للسَّبَبِ والمَشيئةِ، للتَّوحيدِ والحِكمةِ؛ فالشَّارِعُ يُثبِتُ هذا ولا يَنفيه، ويَنفي ما عليه المُشرِكونَ مِنِ اعتِقادِهم في ذلك). ((مفتاح دار السعادة)) (2/ 269). .
3- عن عَمرِو بنِ الشَّريدِ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان في وفدِ ثَقيفٍ رَجُلٌ مَجذومٌ، فأرسَل إليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا قد بايَعناك فارجِعْ)) [88] أخرجه مسلم (2231). .
4- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((غَطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ، وأغلِقوا البابَ، وأطفِئوا السِّراجَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَحُلُّ سِقاءً، ولا يَفتَحُ بابًا، ولا يَكشِفُ إناءً، فإن لم يَجِدْ أحَدُكُم إلَّا أن يَعرُضَ على إنائِه عُودًا ويَذكُرَ اسمَ اللهِ، فليَفعَلْ...)). [89] أخرجه مسلم (2012).
وفي رِوايةٍ: ((غَطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ؛ فإنَّ في السَّنةِ ليلةً يَنزِلُ فيها وباءٌ، لا يَمُرُّ بإناءٍ ليسَ عليه غِطاءٌ، أو سِقاءٍ ليسَ عليه وِكاءٌ، إلَّا نَزَل فيه مِن ذلك الوَباءِ)). [90] أخرجها مسلم (2014).
قال النَّوويُّ: (ذَكَرَ العُلَماءُ للأمرِ بالتَّغطيةِ فوائِدَ، مِنها الفائِدَتانِ اللَّتانِ ورَدَتا في هذه الأحاديثِ، وهما صيانَتُه مِنَ الشَّيطانِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَكشِفُ غِطاءً ولا يَحُلُّ سِقاءً، وصيانَتُه مِنَ الوباءِ الذي يَنزِلُ في ليلةٍ مِنَ السَّنةِ، والفائِدةُ الثَّالثةُ: صيانَتُه مِنَ النَّجاسةِ والمُقَذَّراتِ، والرَّابعةُ: صيانَتُه مِنَ الحَشَراتِ والهَوامِّ؛ فرُبَّما وقَعَ شَيءٌ مِنها فيه فشَرِبَه وهو غافِلٌ، أو في اللَّيلِ فيَتَضَرَّرُ بهـ) [91] ((شرح مسلم)) (13/ 183). .
فائدةٌ:
قال الشَّاطِبيُّ: (المُؤذياتُ والمُؤلِماتُ خَلقَها اللهُ تعالى ابتِلاءً للعِبادِ وتَمحيصًا، وسَلَّطَها عليهم كَيف شاءَ ولِما شاءَ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ، وفُهِم مِن مَجموعِ الشَّريعةِ الإذنُ في دَفعِها على الإطلاقِ رَفعًا للمَشَقَّةِ اللَّاحِقةِ، وحِفظًا على الحُظوظِ التي أذِنَ لهم فيها، بَل أذِنَ في التَّحَرُّزِ مِنها عِندَ تَوقُّعِها وإن لم تَقَعْ، تَكمِلةً لمَقصودِ العَبدِ، وتَوسِعةً عليه، وحِفظًا على تَكميلِ الخُلوصِ في التَّوجُّهِ إليه، والقيامِ بشُكرِ النِّعَمِ.
فمِن ذلك الإذنُ في دَفعِ ألمِ الجوعِ والعَطَشِ، والحَرِّ والبَردِ، وفي التَّداوي عِندَ وُقوعِ الأمراضِ، وفي التَّوقِّي مِن كُلِّ مُؤذٍ، آدَميًّا كان أو غَيرَه، والتَّحَرُّزِ مِنَ المُتَوقَّعاتِ حتَّى يُقدِّمَ العُدَّةَ لها، وهَكَذا سائِرُ ما يَقومُ به عَيشُه في هذه الدَّارِ مِن دَرءِ المَفاسِدِ وجَلبِ المَصالحِ، ثُمَّ رَتَّبَ له مَعَ ذلك دَفعَ المُؤلِماتِ الأُخرَويَّةِ، وجَلبَ مَنافِعِها بالتِزامِ القَوانينِ الشَّرعيَّةِ، كَما رَتَّبَ له ذلك فيما يَتَسَبَّبُ عن أفعالِه، وكَونُ هذا مَأذونًا فيه مَعلومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرورةً) [92] ((الموافقات)) (2/ 260، 261). .

انظر أيضا: