موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ:


الصِّحَّةُ نِعمةٌ عَظيمةٌ مِن أعظمِ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نِعمَتانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ)) [1] أخرجه البخاري (6412). ، وهيَ مِمَّا سَيُسألُ العَبدُ عنه يَومَ القيامةِ؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أوَّلَ ما يُسألُ عنه يَومَ القيامةِ -يَعني العَبدَ مِنَ النَّعيمِ- أن يُقالَ له: ألم نُصِحَّ لك جِسمَك، ونَرويك مِنَ الماءِ البارِدِ)) [2] أخرجه الترمذي (3358) واللَّفظُ له، وابن حبان (7364)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (62). صَحَّحه ابنُ حبان، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/406)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3358)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (7364)، وصَحَّحَ إسناده الحاكِم في ((المستدرك)) (7407). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (لمَّا كانتِ الصِّحَّةُ والعافيةُ مِن أجَلِّ نِعَمِ اللهِ على عَبدِه، وأجزَلِ عَطاياه، وأوفَرِ مِنَحِه، بَل العافيةُ المُطلَقةُ أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاقِ، فحَقيقٌ لمَن رُزِقَ حَظًّا مِنَ التَّوفيقِ مُراعاتُها وحِفظُها وحِمايَتُها عَمَّا يُضادُّها) [3] ((زاد المعاد)) (4/ 196). .
وقال القاسِميُّ: (صِحَّةُ الجِسمِ مِن أعظَمِ النِّعَمِ التي يَتَمَتَّعُ بها المَرءُ في هذه الحَياةِ، فيَجِبُ عليه أن يُراعيَها بما يَحفَظُها ويباعِدَها مِن ضَعفِها وانحِلالِها مُراعاةً أكيدةً، فلا يُسمَحُ له بالتَّقصيرِ فيها بوَجهٍ ما، ومَن ذا الذي يُحصي فوائِدَ العافيةِ، وهيَ التي بها قِوامُ الإنسانِ ووُجودُه؟! ومَن ذا الذي لا يَرغَبُ في النَّجاةِ مِنَ الأمراضِ العائِقةِ عن كُلِّ عَمَلٍ دينيٍّ ودُنيَويٍّ؟!
والعَقلُ أكبَرُ مُرشِدٍ إلى أنَّ مَن يَعتَني بجَودةِ طَعامِه وشَرابِه، ونَظافةِ جَسَدِه ولباسِه، ومَسكَنِه وانتِقاءِ الهَواءِ، واجتِنابِ ما يُنهِكُ القُوى: أقرَبُ إلى الصِّحَّةِ والعافيةِ مِمَّن يُهمِلُ ذلك.
نَعَم، يَندُرُ وُجودُ مَن يَنالُ تَمامَ الصِّحَّةِ مِن جَميعِ الوُجوهِ ولا يُدرِكُه المَرَضُ، ولكِنَّ هذا لا يَمنَعُ مِنَ الاهتِمامِ بالوسائِطِ المُقَرَّرةِ لحِفظِ الصِّحَّةِ، وتَرقيَتِها إلى أعلى ما تَصِلُ إليه يَدُ الإمكانِ) [4] ((جوامع الآداب)) (ص: 74، 75). .
وقد رَغَّبَ الشَّرعُ الشَّريفُ في القوَّةِ، والمُحافَظةِ على الصِّحَّةِ، وما أكثَرَ الأحاديثَ التي ورَدَت في سُؤالِ اللهِ العافيةَ!
قال ابنُ مُفلِحٍ: (اعلَمْ أنَّ في الصِّحَّةِ والعافيةِ عنِ النَّبيِّ ما ليسَ في غَيرِهما... فالعافيةُ مِن أجَلِّ نِعَمِ اللهِ على عَبدِه؛ فيَتَعَيَّنُ مُراعاتُها وحِفظُها، واعلَمْ أنَّ طَريقَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كُلِّ شَيءٍ أكمَلُ الطُّرُقِ [5] قال ابنُ القَيِّمِ: (مَن تَأمَّل هَديَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجَدَه أفضَلَ هَديٍ يُمكِنُ حِفظُ الصِّحَّةِ به؛ فإنَّ حِفظَها مَوقوفٌ على حُسنِ تَدبيرِ المَطعَمِ والمَشرَبِ، والمَلبَسِ والمَسكَنِ، والهَواءِ والنَّومِ، واليَقَظةِ والحَرَكةِ والسُّكونِ، والمَنكَحِ والاستِفراغِ والاحتِباسِ، فإذا حَصَلت هذه على الوَجهِ المُعتَدِلِ الموافِقِ المُلائِمِ للبَدَنِ والبَلدِ والسِّنِّ والعادةِ، كان أقرَبَ إلى دَوامِ الصِّحَّةِ أو غَلبَتِها إلى انقِضاءِ الأجَلِ). ((زادَ المَعاد)) (4/ 196). ، وحالَه أكمَلُ الأحوالِ) [6] ((الآداب الشرعية)) (2/ 367، 368). .
وقد قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60] .
وعن أبي هُرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المؤمِنُ القَويُّ خَيرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ من المؤمِنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خَيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعُك، واستَعِنْ باللهِ، ولا تَعجِزْ)) [7] أخرجه مسلم (2664). .
وقد وُصِف أنبياءُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ورُسُلُه بالقوَّةِ، فقال تعالى عن نَبيِّه موسى عليه السَّلامُ: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 23 - 26] .
وقال عن نبيِّه داودَ عليه السَّلامُ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ [ص: 17] ، قال ابنُ عَطيَّةَ: (واذكُرْ داودَ ذا الأيدِ في الدِّينِ والشَّرعِ، والصَّدعِ به، فتَأسَّ به وتَأيَّدْ كَما تَأيَّدَ. والأيْدُ: القوَّةُ، وهيَ في داودَ مُتَضَمِّنةٌ قوَّةَ البَدَنِ وقوَّتَه على الطَّاعةِ) [8] ((المحرر الوجيز)) (4/ 496). ، ويُؤخَذُ مِن هذا (أنَّ اللَّهَ تعالى يَمدَحُ ويُحِبُّ القوَّةَ في طاعَتِه -قوَّةَ القَلبِ والبَدَنِ- فإنَّه يَحصُلُ مِنها مِن آثارِ الطَّاعةِ وحُسنِها وكَثرَتِها ما لا يَحصُلُ مَعَ الوهنِ وعَدَمِ القوَّةِ، وأنَّ العَبدَ يَنبَغي له تَعاطي أسبابِها، وعَدَمُ الرُّكونِ إلى الكَسَلِ والبطالةِ المُخِلَّةِ بالقوى، المُضعِفةِ للنَّفسِ) [9] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 713). .
وقال سُبحانَه: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251] .
وقال عنه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يَومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقى)) [10] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما قال: ((بَلغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنِّي أسرُدُ الصَّومَ، وأُصَلِّي اللَّيلَ، فإمَّا أرسَل إليَّ وإمَّا لَقِيتُه، فقال: ألم أُخبَرْ أنَّكَ تَصومُ ولا تُفطِرُ، وتُصَلِّي؟ فصُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ؛ فإنَّ لعَينِكَ عليكَ حَظًّا، وإنَّ لنَفسِكَ وأهلِكَ عليكَ حَظًّا، قال: إنِّي لأقوى لذلك، قال: فصُمْ صيامَ داودَ عليه السَّلامُ، قال: وكَيف؟ قال: كان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يَومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقى، قال: مَن لي بهذه يا نَبيَّ اللهِ؟ -قال عَطاءٌ: لا أدري كَيف ذَكَرَ صيامَ الأبَدِ- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا صامَ مَن صامَ الأبَدَ مَرَّتَينِ)). أخرجه البخاري (1977) واللَّفظُ له، ومسلم (1159). .
وكَما أنَّ بالصِّحَّةِ والعافيةِ يُستَعانُ على أمرِ الدِّينِ، فكَذا بهما تَطيبُ الدُّنيا.
عن سَعيدِ بنِ أبي عَروبةَ، قال: (حَجَّ الحَجَّاجُ فنَزَل بَعضَ المياهِ ودَعا بالغَداءِ، فقال لحاجِبِه: انظُرْ مَن يَتَغَدَّى مَعي وأَسألُه عن بَعضِ الأمرِ، فنَظَر الحاجِبُ فإذا هو بأعرابيٍّ بَينَ شَملتَينِ مِن شَعرٍ، نائِمٍ، فضَرَبَه برِجلِه وقال: ائتِ الأميرَ، فأتاه، فقال له الحَجَّاجُ: اغسِلْ يَدَك وتَغَدَّ مَعي، قال: إنَّه دَعاني مَن هو خَيرٌ مِنك فأجَبتُه، فقال له الحَجَّاجُ: مَنِ الذي دَعاك؟ قال: اللهُ تعالى دَعاني إلى الصَّومِ فصُمتُ، قال: في هذا اليَومِ الحارِّ؟! قال: نَعَم، صُمتُ ليَومٍ أحَرَّ مِنه، قال: فأفطِرْ وتَصومُ غَدًا، قال: إن ضَمِنتَ لي البَقاءَ إلى غَدٍ، قال: ليسَ ذاكَ إليَّ، قال: فكَيف تَسألُني عاجِلًا بآجِلٍ لا تَقدِرُ عليه؟! قال: إنَّه طَعامٌ طَيِّبٌ، قال: إنَّك لم تُطَيِّبْه ولا الخَبَّازُ، ولكِن طيَّبَتْه العافيةُ) [11] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 395)، ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (2/ 493). .
ولو لم يَكُنْ في حِفظِ الصِّحَّةِ إلَّا الاستِغناءُ عنِ النَّاسِ وعَدَمُ سُؤالِهم شَيئًا لكَفى.
عن أبي مُسلِمٍ الخَولانيِّ، قال: حَدَّثَني الحَبيبُ الأمينُ -أمَّا هو فحَبيبٌ إليَّ، وأمَّا هو عِندي فأمينٌ- عَوفُ بنُ مالِكٍ الأشجَعيُّ، قال: ((كُنَّا عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِسعةً أو ثَمانيةً أو سَبعةً، فقال: ألَا تُبايِعونَ رَسولَ اللهِ؟ وكُنَّا حَديثَ عَهدٍ ببَيعةٍ، فقُلنا: قد بايَعناك يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قال: ألَا تُبايِعونَ رَسولَ اللهِ؟ فقُلنا: قد بايَعناك يا رَسولَ اللهِ، ثُمَّ قال: ألَا تُبايِعونَ رَسولَ اللهِ؟ قال: فبَسَطنا أيديَنا، وقُلنا: قد بايَعناك يا رَسولَ اللهِ، فعَلَامَ نُبايِعُك؟ قال: على أن تَعبُدوا اللَّهَ ولا تُشرِكوا به شَيئًا، والصَّلواتِ الخَمسِ، وتُطيعوا -وأسَرَّ كَلمةً خَفيَّةً- ولا تَسألوا النَّاسَ شَيئًا، فلقد رَأيتُ بَعضَ أولئِكَ النَّفرِ يَسقُطُ سَوطُ أحَدِهم، فما يَسألُ أحَدًا يُناوِلُه إيَّاهـ)) [12] أخرجه مسلم (1043). .
ثُمَّ إنَّ البَدَنَ مَطيَّةٌ، والمَطيَّةُ إذا لم يُهتَمَّ بها لم تَصِلْ براكِبِها إلى المَنزِلِ، فلا بُدَّ مِنَ الرِّفقِ بها والاعتِناءِ ليَصِلَ بها إلى المَقصودِ، فليَأخُذْ ما يُصلِحُها وليَترُكْ ما يُؤذيها مِنَ الشِّبَعِ والإفراطِ في تَناوُلِ الشَّهَواتِ؛ فإنَّ ذلك يُؤذي البَدَنَ والدِّينَ [13] ينظر: ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 76، 96، 219)، ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 136، 190). .
وفيما يلي ذكرُ أهمِّ الآدابِ المتعلِّقَةِ بحِفظِ الصِّحةِ:

انظر أيضا: