ثالثًا: الاعتدالُ في تَناوُلِ الطَّعامِ والشَّرابِ
ينبغي الاعتدالُ في تَناوُلِ الطَّعامِ والشَّرابِ
[17] قال ابنُ الجَوزيِّ: (نَحنُ لا نَأمُرُ بالشِّبَعِ، إنَّما ننهى عن جوعٍ يُضعِفُ القوَّةَ ويُؤذي البَدَنَ، وإذا ضَعُف البَدَنُ قَلَّت العِبادةُ). ((تلبيس إبليس)) (ص: 194). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:أ-مِنَ الكِتابِقال تعالى:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] .
هذه الآيةُ الكَريمةُ تُرشِدُ إلى ما عَلَّمَنا اللهُ إيَّاه مِنَ الطِّبِّ، وما أرشَدَنا إليه مِنَ الحِكمةِ، وهَدانا إليه مِمَّا تَصِحُّ به أبدانُنا، وتَقوى به أجسامُنا، وتَطيبُ به مَعيشَتُنا، وتَهنَأُ به حَياتُنا، مِن عَدَمِ الإفراطِ في الأكلِ والشُّربِ، والإسرافِ فيهما؛ لأنَّ كَثرةَ الأكلِ والشُّربِ تُفسِدُ المَعِدةَ وتُطفِئُ نارَها، وتُضعِفُ الجِسمَ، وتُكثرُ الرِّياحَ في البَطنِ، وتُضَيِّقُ النَّفَسَ، وبذلك يَضعُفُ الفِكرُ، ويَخمُدُ الذِّهنُ، ويَنحَطُّ الإدراكُ، وإذا حُجِبَ القَلبُ عنِ الإدراكِ، ومُنِعَ الذِّهنُ عنِ الحَرَكةِ في الأفكارِ خَسِرَ صاحِبُه بابًا كَبيرًا مِنَ العِباداتِ؛ فلهذه المَضارِّ نَهى الشَّارِعُ الحَكيمُ عنِ الإفراطِ في الأكلِ والشُّربِ، والإسرافِ فيهما.
ولم يَقِفْ عِندَ هذا الحَدِّ مِنَ النَّهيِ، بَل أخَذَ يَتَوعَّدُ ويُهَدِّدُ مَن خالف أمرَ اللهِ تعالى فأسرَف فيهما، فقال:
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] ، وناهيك ببُغضِ اللَّهِ تعالى وعَدَمِ رِضاه؛ فإنَّه داعيةُ الهَلاكِ، وسَبَبُ كُلِّ المَصائِبِ.
وأيُّ عاقِلٍ يَجرُؤُ على أن يُغضِبَ اللَّهَ تعالى مُقابِلَ أن يُرضيَ نَفسَه باتِّباعِها في شَهوةٍ هيَ سَبَبُ هَلاكِه، وداعيةُ أسقامِه وآلامِه؟!
فالحَذَرَ الحَذَرَ مِن شَراهةِ النَّفسِ، وتَمَكُّنِها مِن شَهوتِها المُفرِطةِ في الأطعِمةِ والأشرِبةِ؛ مُحافظةً على صِحَّةِ الإنسانِ، وحَذَرًا مِن أن يَكونَ قَتيلَ بِطنَتِه.
وقد قال بَعضُ الحُكَماءِ: البِطنةُ تُذهِبُ الفِطنةَ، وتَجلِبُ الدَّاءَ العُضالَ. وقال آخَرُ: راحةُ الجِسمِ في قِلَّةِ الطَّعامِ، وراحةُ اللِّسانِ في قِلَّةِ الكَلامِ، وراحةُ الرُّوحِ في قِلَّةِ المَنامِ، وراحةُ القَلبِ في قِلَّةِ الانتِقامِ، وراحةُ العَقلِ في قِلَّةِ الأوهامِ
[18] قال ابنُ القَيِّمِ: (قال بَعضُ المُتَقدِّمينَ مِن أئِمَّةِ الطِّبِّ: مَن أرادَ عافيةَ الجِسم فليُقَلِّلْ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ، ومَن أرادَ عافيةَ القَلبِ فليَترُكِ الآثامَ. وقال ثابتُ بنُ قُرَّةَ: راحةُ الجِسمِ في قِلَّةِ الطَّعامِ، وراحةُ الرُّوحِ في قِلَّةِ الآثامِ، وراحةُ اللِّسانِ في قِلَّةِ الكَلامِ). ((زاد المعاد)) (4/ 186). .
ومِنَ الأمثالِ: أقلِلْ طَعامَك تَحمَدْ مَنامَك.
فيَجِبُ إذًا على كُلِّ عاقِلٍ أن يَقتَصِرَ في تَناوُلِ الأطعِمةِ والأشرِبةِ على قَدرِ ما يَلزَمُ لجِسمِه مِنَ الصِّحَّةِ التي بها القيامُ بما كُلِّف به مِنَ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ
[19] ينظر: ((الآداب الإسلامية)) لعلي فكري (ص: 233-235). .
قال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (مِنِ اعتِداءِ حُدودِ اللهِ في الأكلِ والشَّرابِ: الإسرافُ فيها، فإنَّه قال:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] ، فمَن جَعَل شَهوةَ بَطنِه أكبَرَ هَمِّه فهو مِنَ المُسرِفينَ، ومَن بالغَ في الشِّبَعِ وعَرَّضَ مَعِدَتَه وأمعاءَه للتُّخَمِ فهو مِنَ المُسرِفينَ، ومَن أنفقَ في ذلك أكثَرَ مِن طاقَتِه، وعَرَّض نَفسَه لذُلِّ الدَّينِ، أو أكَل أموالَ النَّاسِ بالباطِلِ، فهو مِنَ المُسرِفينَ، وما كان المُسرِفُ مِنَ المُتَّقينَ)
[20] ((تفسير القرآن الحكيم)) (7/ 25). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن المِقدامِ بنِ مَعديكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه:
((ما مَلأ آدَميٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطنٍ؛ بحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكلاتٌ يُقِمنَ صُلبَه، فإن كان لا مَحالةَ فثُلُثٌ لطَعامِه، وثُلُثٌ لشَرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِهـ)) [21] أخرجه الترمذي (2380) واللفظ له، وابن ماجه (3349)، وأحمد (17186) من حديثِ المِقدامِ بنِ مَعديكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (5236)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2380)، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ، وحَسَّنه البَغوي في ((شرح السنة)) (7/293)، وابن باز في ((التعليقات البازية)) (554). .
(يَدعو الحَديثُ إلى ذَمِّ الشِّبَعِ
[22] ورَدَ في بَعضِ الأحاديثِ ما يَدُلُّ على جَوازِ الشِّبَعِ، وفي بَعضِها الزَّجرُ عنه، قال ابنُ حَجَرٍ: (يُمكِنُ الجَمعُ بأن يُحمَلَ الزَّجرُ على مَن يَتَّخِذُ الشِّبَعَ عادةً؛ لِما يَتَرَتَّبُ على ذلك مِنَ الكَسَلِ عنِ العِبادةِ وغَيرِها، ويُحمَلُ الجَوازُ على مَن وقَعَ له ذلك نادِرًا، ولا سيَّما بَعدَ شِدَّةِ جوعٍ، واستِبعادِ حُصولِ شَيءٍ بَعدَه عن قُربٍ). ((فتح الباري)) (11/ 289). والإسرافِ في تَناوُلِ الطَّعامِ والشَّرابِ، وقد نَهى القُرآنُ عن ذلك بقَولِه:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] .
وإنَّما كان مَلءُ البَطنِ شَرًّا؛ لِما فيه مِنَ المَفاسِدِ الدِّينيَّةِ والدُّنيَويَّةِ، فالشِّبَعُ يورِثُ البَلادةَ، ويَعوقُ الذِّهنَ عنِ التَّفكيرِ الصَّحيحِ، وهو مَدعاةٌ للكَسَلِ والنَّومِ الكَثيرِ، ومَن نامَ كَثيرًا قَتل وقتَه الذي هو رَأسُ مالِه في الحَياةِ العَمَليَّةِ، فيَخسَرُ كَثيرًا مِن مَصالحِه الدِّينيَّةِ والدُّنيَويَّةِ، وكَم مِن أكلةٍ كانت عاقِبَتَها الكِظَّةُ (البِطنةُ)، وجَلبَت مِنَ الأضرارِ والأمراضِ ما لا قِبَلَ للإنسانِ به.
ومِن وصايا لُقمانَ لابنِه: "يا بُنَيَّ إذا امتلأتِ المَعِدةُ نامَتِ الفِكرةُ، وخَرَسَتِ الحِكمةُ، ورَقدَتِ الأعضاءُ عنِ العِبادةِ"
[23] ينظر: ((محاضرات الأدباء)) للراغب (1/ 728)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 82، 84)، ((آداب الأكل)) للأقفهسي (ص: 25). ، وليسَ كذلك الحالُ في الإقلالِ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ؛ فالقَلبُ صافٍ، والقَريحةُ مُتَّقِدةٌ، والبَصيرةُ نافِذةٌ، والشَّهوةُ مَغلوبةٌ، والنَّفسُ مَقهورةٌ.
وقد أرشَدَنا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المِقدارِ المُناسِبِ في الطَّعامِ، وهو ما يُقيمُ الحَياةَ، ويَحفظُ الصِّحَّةَ، ويُمَكِّنُ الإنسانَ مِنَ القيامِ بواجِبِه، وإن كان لا بُدَّ مُكثِرًا جَعَل الطَّعامَ والشَّرابَ ثُلثَيِ المَعِدةِ، وتَرَكَ ثُلُثَها الباقيَ خاليًا حتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ التَّنَفُّسِ بسُهولةٍ.
فمِحورُ الحَديثِ مَدحُ الاقتِصادِ في الطَّعامِ والشَّرابِ، وذَمُّ الإسرافِ فيهما، وهو ما يَطلُبُه الطِّبُّ، ويَقومُ به نِظامُ العَمَلِ، وتَتَوفَّرُ به للإنسانِ مَصالحُه الدِّينيَّةُ والدُّنيَويَّةُ)
[24] يُنظر: ((الأدب النبوي)) للخولي (ص: 209) .
2-عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كُلوا وتَصَدَّقوا والبَسوا في غَيرِ إسرافٍ ولا مَخيلةٍ)) [25] أخرجه الترمذي (2819)، والنسائي (2559) واللفظ له، وابن ماجه (3605). صَحَّحه الصَّنعاني في ((سبل السلام)) (4/272)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2819)، وحَسَّنه الترمذي، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (32)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (7390). .
3- عن نافِعٍ، قال: كان ابنُ عُمَرَ لا يَأكُلُ حتَّى يُؤتى بمِسكينٍ يَأكُلُ مَعَه، فأدخَلتُ رَجُلًا يَأكُلُ مَعَه، فأكَل كَثيرًا، فقال: يا نافِعُ، لا تُدخِلْ هذا علَيَّ، سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((المُؤمِنُ يَأكُلُ في مِعًى [26] المِعى: مُفرَدُ الأمعاءِ، وهيَ المَصارينُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 537). واحِدٍ، والكافِرُ يَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ)) [27] أخرجه البخاري (5393) واللفظ له، ومسلم (2060). .
4- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَجُلًا كان يَأكُلُ أكلًا كَثيرًا فأسلَمَ، فكان يَأكُلُ أكلًا قَليلًا، فذُكِر ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ المُؤمِنَ يَأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرَ يَأكُلُ في سَبعةِ أمعاءٍ)) [28] أخرجه البخاري (5397). .
قال الخَطَّابيُّ: (يَعني أنَّ المُؤمِنَ يَأكُلُ بُلغةً وقوتًا عِندَ الحاجةِ، والكافِرُ يَأكُلُ شَهوةً وحِرصًا للَّذَّةِ، وجَريًا على ذَميمِ العادةِ)
[29] ((أعلام الحديث)) (3/ 2047). وينظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (2/ 306)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/ 348)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 419)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 538). .
وفي رِوايةٍ:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضافه ضَيفٌ وهو كافِرٌ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشاةٍ فحُلِبَت، فشَرِبَ حِلابَها، ثُمَّ أُخرى فشَرِبَه، ثُمَّ أُخرى فشَرِبَه، حتَّى شِرَب حِلابَ سَبعِ شياهٍ، ثُمَّ إنَّه أصبَحَ فأسلَمَ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشاةٍ، فشَرِبَ حِلابَها، ثُمَّ أمَرَ بأُخرى، فلم يَستَتِمَّها! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المُؤمِنُ يَشرَبُ في مِعًى واحِدٍ، والكافِرُ يَشرَبُ في سَبعةِ أمعاءٍ)) [30] أخرجها مسلم (2063). .
ج- مِنَ الآثارِ:قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (كُلْ ما شِئتَ والبَسْ ما شِئتَ، ما أخطَأَتْك خَلَّتانِ: سَرَفٌ أو مَخِيلةٌ).
[31] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبل حَديث (5783) واللَّفظُ له، وأخرجه مَوصولًا ابنُ أبي شَيبةَ (25375)، وأبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) (2/274). صَحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((هداية الرواة)) (4306).