موسوعة الآداب الشرعية

سادِسًا: الأهليَّةُ والتَّمَكُّنُ في البابِ الذي يُناظِرُ فيه

يَنبَغي أن يَتَوفَّرَ العِلمُ فيمَن يَقومُ بالمُناظَرةِ، وأن يَكونَ مُتَمَكِّنًا في البابِ الذي يُناظِرُ فيه [2495] يُنظر: ((الرد على المخالف من أصول الإسلام)) لبكر أبو زيد (ص: 57)، ((فقه الرد على المخالف)) لخالد السبت (ص: 167). ومِن ذلك (أنَّه لا بُدَّ للمُناظِرِ أن يَعرِفَ مَذهَبَ مُخالفِه ومُناظِرِه قَبلَ مُناظَرَتِه، وشُبَهَه التي يَتَعَلَّقُ بها؛ حَتَّى يَعرِفَ كَيفيَّةَ الانفِكاكِ عَنها ونَقضِها ورَدِّها إمَّا مِن جِهةِ الثُّبوتِ أو مِن جِهةِ الدَّلالةِ، وذلك أنَّ هذه الشُّبهةَ إذا فاجَأته في مَجلسِ المُناظَرةِ فإنَّ الانفِكاكَ عَنها قد لا يَكونُ كَما لَوِ استَعَدَّ لَها مِن قَبلُ، كما أنَّ مَعرِفةَ هذه الشُّبهةِ مِن قَبلُ أدعى لسُكونِ المُناظِرِ وهدوئِه واعتِدالِ مِزاجِه الذي يَحصُلُ مَعَه كَمالُ الرَّأيِ). ((أصول الجدل والمناظرة)) لحمد العثمان (ص: 524). .
الدَّليلُ على ذلك:
1- قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] .
2- قال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 66] .
قال القُرطُبيُّ: (في الآيةِ دَليلٌ على المَنعِ مِنَ الجِدالِ لمَن لا عِلمَ له، والحَظرِ على مَن لا تَحقيقَ عِندَهـ) [2496] ((تفسير القرطبي)) (4/ 108). .
فوائِدُ:
- ذُكِرَ أنَّ رَجُلًا مِن أصحاب مُحَمَّدِ بن سحنونٍ دَخَلَ بمِصرَ حَمَّامًا عليه رَجُلٌ يَهوديٌّ، فتَناظَرَ مَعَه الرَّجُلُ فغَلَبَه اليَهوديُّ لقِلَّةِ مَعرِفةِ الرَّجُلِ. فلَمَّا حَجَّ مُحَمَّدُ بنُ سحنونٍ صَحِبَه الرَّجُلُ، فلَمَّا دَخَلَ مِصرَ قال له: امضِ بنا -أصلَحَكَ اللهُ- إلى الحَمَّامِ الذي عليه اليَهوديُّ. فلَمَّا دَنا خُروجُ مُحَمَّدٍ سَبَقَه الرَّجُلُ، وأنشَبَ المُناظَرةَ مَعَ اليَهوديِّ، حَتَّى حانَتِ الصَّلاةُ. فصَلَّى مُحَمَّدٌ الظُّهرَ ثُمَّ رَجَعَ مَعَه إلى المُناظَرةِ حَتَّى كانتِ العَصرُ، فصَلَّاها. ثُمَّ كذلك العِشاءُ، ثُمَّ إلى العِشاءِ الآخِرةِ، ثُمَّ إلى الفجرِ، وقدِ اجتَمَعَ النَّاسُ وشاعَ الخَبَرُ بمِصرَ، الفقيهُ المَغرِبيُّ يُناظِرُ اليَهوديَّ، فلَمَّا كانت صَلاةُ الفجرِ انقَطَعَ اليَهوديُّ، وتَبَيَّنَ له الحَقُّ وأسلَمَ. فكَبَّرَ النَّاسُ وعَلَت أصواتُهم، فخَرَجَ مُحَمَّدٌ وهو يَمسَحُ العَرَقَ عَن وجهِه، وقال لصاحِبِه: لا جَزاكَ اللهُ خَيرًا. كادَ أن يَجريَ على يَدَيكَ فِتنةٌ عَظيمةٌ. تُناظِرُ يَهوديًّا وأنتَ بضَعفٍ، فإن ظَهَرَ عليكَ اليَهوديُّ لضَعفِكَ، افتَتَنَ مَن قدَّرَ اللهُ فِتنَتَه، أو كما قال [2497] ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك)) (4/ 215). .
- وقال الخَطيبُ البَغداديُّ: (ويَحفظُ لسانَه مِن إطلاقِه بما لا يَعلَمُه، ومِن مُناظَرَتِه فيما لا يَفهَمُه؛ فإنَّه رُبَّما أخرَجَه ذلك إلى الخَجَلِ والانقِطاعِ، فكان فيه نَقصُه وسُقوطُ مَنزِلَتِه عِندَ مَن كان يَنظُرُ إليه بعَينِ العِلمِ والفضلِ) [2498] ((الفقيه والمتفقهـ)) (2/ 59). .
- وقال ابنُ تيميَّةَ: (وقد يَنهَونَ عَنِ المُجادَلةِ والمُناظَرةِ، إذا كان المُناظِرُ ضَعيفَ العِلمِ بالحُجَّةِ وجَوابِ الشُّبهةِ، فيُخافُ عليه أن يُفسِدَه ذلك المُضِلُّ، كما يُنهى الضَّعيفُ في المُقاتَلةِ أن يُقاتِلَ عِلجًا قَويًّا مِن عُلوجِ الكُفَّارِ؛ فإنَّ ذلك يَضُرُّه، ويَضُرُّ المُسلمينَ بلا مَنفعةٍ) [2499] ((درء تعارض العقل والنقل)) (7/ 173). .

انظر أيضا: