موسوعة التفسير

سورةُ الطُّورِ
الآيات (9-16)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

تَمُورُ: أي: تَدورُ، وتتحَرَّكُ، وتَضطَرِبُ بما فيها، وأصلُ (مور): يدُلُّ على ترَدُّدٍ [45] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 423)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/284)، ((البسيط)) للواحدي (20/482). .
خَوْضٍ: أي: تَكذيبٍ، وتَخبُّطٍ في الأباطيلِ، والخَوضُ: الشُّروعُ في الماءِ والمرورُ فيه، ويُطلَقُ على الدُّخولِ في الأمرِ بالقَولِ، وأكثَرُ ما وردَ في القُرآنِ وردَ فيما يُذَمُّ الشُّروعُ فيه، وأصلُ (خوض): يدُلُّ على توسُّطِ شَيءٍ ودُخولٍ [46] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/229)، ((البسيط)) للواحدي (20/483)، ((المفردات)) للراغب (ص: 302)، ((تفسير ابن عطية)) (5/187)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/42). .
يُدَعُّونَ: أي: يُدفَعونَ بشِدَّةٍ، والدَّعُّ في اللُّغةِ: الدَّفعُ في قَسوةٍ وعُنفٍ، وأصلُ (دعع): يدُلُّ على دَفعٍ [47] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 423)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/257)، ((البسيط)) للواحدي (20/484). .
اصْلَوْهَا: أي: ادخُلوها، وذُوقوا حَرَّها، وأصلُ الصَّليِ: الإيقادُ بالنَّارِ، وأصلُ (صلى) هنا: النَّارُ وما أشبَهَها مِن الحمَّى [48] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/472)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 110)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 350). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ عذابَه يَقَعُ يَومَ تتحَرَّكُ السَّماءُ وتَضطَرِبُ، وتَذهَبُ الجِبالُ وتَزولُ عن أماكِنِها، فتَصيرُ هَباءً، وذلك كائِنٌ يومَ القيامةِ؛ فعَذابٌ وهَلاكٌ في ذلك اليَومِ للمُكَذِّبينَ الَّذين هم مُنغَمِسونَ في الباطِلِ، غافِلونَ عن الآخِرةِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى حالَهم يومَ القيامةِ، فيقولُ: يَومَ يُدفَعُونَ إلى نارِ جَهنَّم دَفعًا شَديدًا، ويُقالُ لهم: هذه هي النَّارُ الَّتي كُنتُم في الدُّنيا تُكذِّبونَ بها، أهذا الَّذي تَرَونَه مِن عذابِها الآنَ سِحرٌ لا حقيقةَ له، أم أنتم لا تُبصِرونَه بأعيُنِكم؟! ادخُلوا النَّارَ وذُوقُوا حَرَّها، فسَواءٌ عليكم الصَّبرُ والجَزَعُ؛ لن يَنفَعَكم شَيءٌ، إنَّما تُعذَّبونَ في النَّارِ بسَبَبِ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ.

تفسير الآيات:

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالَى أنَّ العذابَ واقِعٌ؛ بَيَّن متَى يَقَعُ العَذابُ، فقال [49] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/119). :
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9).
أي: يومَ [50] قال السمين: (يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه «واقع»، أي: يقَعُ في ذلك اليومِ؛ وعلى هذا فتكونُ الجملةُ المَنفيَّةُ مُعترِضةً بيْنَ العامِلِ ومَعمولِه. ويجوزُ أن يكونَ العامِلُ فيه دَافِعٍ [الطور: 8]، قاله الحوفيُّ وأبو البقاءِ، ومنَعَه مكِّيٌّ). ((الدر المصون)) (10/64، 65). ويُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) لأبي البقاء (2/1183)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/690)، ((تفسير الشوكاني)) (5/114). ممَّن اختار أنَّ يَوْمَ متعَلِّقٌ بقَولِه تعالى في الآيةِ السَّابِقةِ: لَوَاقِعٌ [الطور: 7]، أي: إنَّ عذابَ رَبِّك لَواقِعٌ يومَ القيامةِ حينَ تمورُ السَّماءُ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، ومكِّيُّ بن أبي طالب، وابنُ عطية، والقرطبيُّ، والبِقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/571)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/61)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/690)، ((تفسير ابن عطية)) (5/187)، ((تفسير القرطبي)) (17/63)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/9)، ((تفسير الشوكاني)) (5/114). وقيل: يجوزُ أن يكونَ العامِلُ مَحذوفًا، تقديرُه: اذكُرْ. يُنظر: ((تفسير ابن عجيبة)) (5/486)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/41). تتحَرَّكُ السَّماءُ وتَضطَرِبُ، وتَذهَبُ وتَجيءُ، وذلك كائِنٌ يومَ القِيامةِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/571)، ((الوسيط)) للواحدي (4/185)، ((تفسير القرطبي)) (17/63)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/341)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 270)، ((تفسير ابن كثير)) (7/430، 431)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/9)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814). قال ابنُ القيِّم: (المَورُ: قد فُسِّر بالحَرَكةِ، وفُسِّر بالدَّوَرانِ، وفُسِّرَ بالتَّمَوُّجِ والاضطِرابِ، والتَّحقيقُ: أنَّه حركةٌ في تمَوُّجٍ وتكَفُّؤٍ، وذَهابٍ ومَجيءٍ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 270). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قَلَّ أن يُعبَّرَ عن لفظٍ واحدٍ بلَفظٍ واحدٍ يؤدِّي جميعَ معناه، بل يكونُ فيه تقريبٌ لِمعناه، وهذا مِن أسبابِ إعجازِ القُرآنِ، فإذا قال القائِلُ: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا إنَّ المورَ هو الحَرَكةُ، كان تقريبًا؛ إذ المَورُ حَرَكةٌ خَفيفةٌ سريعةٌ). ((مجموع الفتاوى)) (13/341). !
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10).
أي: وتَذهَبُ الجِبالُ وتَزولُ عن أماكِنِها، فتَصيرُ هَباءً [52] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/574)، ((الوسيط)) للواحدي (4/185)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/9، 10)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814). !
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ [الكهف: 47] .
وقال سُبحانَه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107] .
وقال جَلَّ شأنُه: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] .
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حَقَّق العذابَ وبَيَّن يَومَه؛ بَيَّن أهلَه بقَولِه مُسَبَّبًا عن ذلك [53] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/10). :
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11).
أي: فعَذابٌ وهَلاكٌ شَديدٌ في ذلك اليَومِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ [54] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/483)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/42). ذكَرَ ابنُ جريرٍ أنَّ الوَيلَ: هو الوادي الَّذي يَسيلُ مِن قَيحٍ وصَديدٍ في جَهنَّمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/574). وتقدَّم قولُ الراغبِ أنَّ مَن قال: وَيْلٌ: وادٍ في جَهنَّمَ، فإنَّه لم يُرِدْ أنَّ وَيْلًا في اللُّغةِ هو موضوعٌ لهذا، وإنَّما أراد: مَن قال اللهُ تعالى ذلك فيه فقد استحَقَّ مَقَرًّا من النَّارِ، وثَبَت ذلك له. وقال السعدي: (الوَيلُ: كَلِمةٌ جامِعةٌ لكُلِّ عُقوبةٍ وحُزنٍ، وعَذابٍ وخَوفٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 814). وممَّن اختار أنَّ الوَيلَ كَلِمةٌ تُقالُ للهالِكِ: الزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنين، والقرطبيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/62)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/294)، ((تفسير القرطبي)) (17/64). قال ابن عثيمين: (وَيلٌ: كَلِمةُ وَعيدٍ وتهديدٍ، وإن كان قد رُوِيَ أنَّها وادٍ في جهنَّمَ، لكِنَّ الصَّوابَ أنَّها كَلِمةُ تهديدٍ ووعيدٍ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 181). وقال الشنقيطي: (الأظهرُ أنَّ لفظةَ «وَيْلٌ» كلمةُ عَذابٍ وهلاكٍ، وأنَّها مَصدرٌ لا فِعلَ له مِن لَفظِه، وأنَّ المسَوِّغَ للابتِداءِ بها -مع أنَّها نَكِرةٌ- كَونُها في مَعرِضِ الدُّعاءِ عليهم بالهَلاكِ). ((أضواء البيان)) (7/190). !
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان التَّكذيبُ قد يكونُ في محَلِّه؛ بَيَّن أنَّ المرادَ تكذيبُ ما محَلُّه الصِّدقُ، فقال [55] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/10). :
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12).
أي: الَّذين هم في الدُّنيا مُنغَمِسونَ في الباطِلِ، فيَتخَبَّطونَ فيه بأقوالِهم وأفعالِهم، غافِلونَ عن الآخِرةِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/574)، ((الوسيط)) للواحدي (4/185)، ((تفسير القرطبي)) (17/64)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 431)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/10)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/42). قال ابن عطيَّةَ: (الخَوضُ: التَّخَبُّطُ في الأباطيلِ، يُشَبَّهُ بخَوضِ الماءِ، ومنه قَولُه تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا [الأنعام: 68] ). ((تفسير ابن عطية)) (5/187). .
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: 68] .
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا صَوَّر تكذيبَهم بأشنَعِ صُورةٍ؛ بَيَّن وَيْلَهم ببَيانِ ظَرْفِه وما يُفعَلُ فيه [57] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/10). ، فقال:
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13).
أي: يَومَ يُدفَعُونَ إلى نارِ جَهنَّم دَفعًا شَديدًا عَنيفًا [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/574)، ((تفسير القرطبي)) (17/64)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/10)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/43)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/452). قال السَّمينُ: (قولُه: يَوْمَ يُدَعُّونَ: يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفًا لـ «يُقالُ» المقدَّرةِ مع قَولِه: هَذِهِ النَّارُ، أي: يُقالُ لهم هذه النَّارُ يومَ يُدَعُّونَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدَلًا مِنْ قولِه يَوْمَ تَمُورُ أو مِنْ يَوْمَئِذٍ قَبْلَه). ((الدر المصون)) (10/67). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/43)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/453). !
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14).
أي: ويُقالُ لهم: هذه هي النَّارُ الَّتي كُنتُم في الدُّنيا تُكذِّبونَ بها، ولا تُصدِّقونَ الرُّسُلَ الَّذين أخبَرَوكم بها [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/576)، ((تفسير القرطبي)) (17/64)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
كما قال تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] .
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15).
أي: أهذا الَّذي تَرَونَه الآنَ سِحرٌ لا حقيقةَ له، أم أنتم لا تُبصِرونَه بأعيُنِكم [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/577)، ((تفسير القرطبي)) (17/64)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 271)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/11)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). قال البقاعي: (أي: هل تَستطيعونَ أن تقولوا: إنَّكم لا تُبصِرونَ المُخبَرَ عنه، كما كنتُم تقولونَ في الخبَرِ كَذِبًا وفُجورًا؟!). ((نظم الدرر)) (19/11). ؟!
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16).
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ.
أي: ادخُلوا النَّارَ وذُوقُوا حَرَّها، فسَواءٌ عليكم الصَّبرُ والجَزَعُ؛ فإنَّكم لن تَنتَفِعوا في جميعِ الأحوالِ بالصَّبرِ ولا بالجَزَعِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/577)، ((تفسير القرطبي)) (17/64)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/44)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/453). !
قال تعالى حاكيًا عن أهلِ النَّارِ قَولَهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم: 21] .
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّما تُعذَّبونَ في النَّارِ بسَبَبِ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ؛ فالأمرُ جارٍ عليكم بالعَدلِ، ولم يَظلِمْكم اللهُ شَيئًا [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/577)، ((الوسيط)) للواحدي (4/185)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 271)، ((تفسير ابن كثير)) (7/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 814). !
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 21 - 30] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا حِكمةٌ في الإيذانِ والإعلامِ بأنْ لا عَودَ إلى الدُّنيا؛ وذلك لأنَّ الأرضَ والجِبالَ والسَّماءَ والنُّجومَ كُلَّها لعِمارةِ الدُّنيا، والانتِفاعِ لبني آدَمَ بها، فإنْ لم يتَّفِقْ لهم عَودٌ لم يَبْقَ فيها نَفعٌ؛ فأعدَمَها اللهُ تعالى [63] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/202). .
2- في قَولِه تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إيذانٌ بأمانِ أهلِ الإيمانِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا قال: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور: 7] لم يُبَيِّنْ مُوقِعَه بمَنْ، فلَمَّا قال: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ؛ عُلِمَ المخصوصُ به، وهو المكَذِّبُ [64] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/203). .
3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أنَّه اجتمَع عليهم أمْرانِ مُوجِبانِ للباطِلِ: الخَوضُ، واللَّعِبُ، فهم بحيثُ لا يكادُ يقَعُ لهم قَولٌ ولا فِعلٌ في مَوضِعِه؛ فلا يُؤسَّسُ على بيانٍ أو حُجَّةٍ [65] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/10). .
4- قال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا لَمَّا كانت علومُهم التي هي خوضٌ بالباطلِ، وأعمالُهم- مُستَلزِمةً لدَفعِ الحَقِّ بعُنفٍ وقَهرٍ، أُدخِلوا جَهنَّمَ وهم يُدَعُّونَ إليها دَعًّا، أي: يُدفَعُ في أقفِيَتِهم وأكتافِهم دَفعًا بعدَ دَفعٍ [66] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 271). !
5- في قَولِه تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أنَّ هؤلاءِ المكذِّبِينَ الكافِرينَ يُحضَرونَ إلى العَذابِ قَسْرًا وقَهرًا، يعني: يُدفَعونَ بعُنفٍ وشِدَّةٍ. والعياذُ باللهِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الروم)) (ص: 85). !
6- في قَولِه تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ بيانُ عَدَمِ الخَلاصِ، وانتِفاءِ المَناصِ؛ فإنَّ مَن لا يَصبِرُ فإنَّه يَدفَعُ الشَّيءَ عن نَفْسِه؛ إمَّا بأن يَدفَعَ المُعَذِّبَ فيَمنَعَه، وإمَّا بأن يُغضِبَه فيَقتُلَه ويُريحَه، ولا شَيءَ مِن ذلك يُفيدُ في عذابِ الآخِرةِ؛ فإنَّ مَن لا يَغلِبُ المُعَذِّبَ فيَدفَعُه، ولا يتخَلَّصُ بالإعدامِ؛ فإنَّه لا يُقضَى عليه فيَموتَ، فإذَنِ الصَّبرُ كعَدَمِه؛ لأنَّ مَن يَصبِرُ يدومُ فيه، ومَن لا يَصبِرُ يَدومُ فيه [68] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/205). .
7- في قَولِه تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ بيانُ ما يَتفاوَتُ به عَذابُ الآخِرةِ عن عَذابِ الدُّنيا؛ فإنَّ المُعَذَّبَ في الدُّنيا إنْ صَبَر رُبَّما انتَفَع بالصَّبرِ؛ إمَّا بالجَزاءِ في الآخِرةِ، وإمَّا بالحَمدِ في الدُّنيا؛ فيُقالُ له: ما أشجَعَه! وما أقوى قَلْبَه! وإنْ جَزِعَ يُذَمُّ فيُقالُ: يَجزَعُ كالصِّبيانِ والنِّسوانِ! وأمَّا في الآخِرةِ فلا مَدْحَ ولا ثوابَ على الصَّبرِ [69] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/205). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا يَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا بقولِه: لَوَاقِعٌ [الذاريات: 6]، على أنَّه ظرْفٌ له، مُبيِّنٌ لكَيفيَّةِ الوُقوعِ، مُنبِئٌ عن كَمالِ هَولِه وفَظاعتِه؛ فيَكونَ قولُه: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطور: 11] تَفريعًا على الجُملةِ كلِّها، ويَكونَ العَذابُ عَذابَ الآخرةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الكلامُ قد تمَّ عندَ قولِه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور: 7]؛ فيَكونَ يَوْمَ مُتعلِّقًا بالكَونِ الَّذي بيْنَ المُبتدَأِ والخبَرِ في قولِه: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، وقُدِّمَ الظَّرْفُ على عامِلِه للاهتِمامِ، فلمَّا قُدِّمَ الظَّرْفُ اكتسَبَ معْنى الشَّرطيَّةِ، وهو استِعمالٌ مُتَّبعٌ في الظُّروفِ والمَجروراتِ الَّتي تُقدَّمُ على عَوامِلِها؛ فلذلك قُرِنَت الجُملةُ بعْدَه بالفاءِ على تَقديرِ: إنْ حلَّ ذلك اليَومُ فوَيلٌ للمكذِّبينَ، وقولُه: يَوْمَئِذٍ على هذا الوجْهِ أُرِيدَ به التَّأكيدُ للظَّرفِ، فحصَلَ تَحقيقُ الخبَرِ بطَريقينِ: طَريقِ المُجازاةِ، وطَريقِ التَّأكيدِ في قولِه: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا الآيةَ، تَصريحًا بيَومِ البَعثِ بعْدَ أنْ أُشِيرَ إليه تَضمُّنًا بقولِه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ؛ فحصَلَ بذلك تأْكيدُه أيضًا [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/147)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/41). .
- وتأْكيدُ فِعلَيْ تَمُورُ و(تَسِيرُ) بمَصْدرَيْ مَوْرًا وسَيْرًا؛ لرفْعِ احتِمالِ المجازِ، أي: هو مَورٌ حَقيقيٌّ، وتَنقُّلٌ حَقيقيٌّ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/42). . أو للإيذانِ بغَرابتِهما وخُروجِهما عن الحُدودِ المَعهودةِ، أي: مَورًا عَجيبًا، وسَيرًا بَديعًا، لا يُدْرَكُ كُنْهُهما [72] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/147). .
2- قولُه تعالَى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
- قولُه: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: فويلٌ يَومَئذٍ للَّذين يُكذِّبون الآنَ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ لِلْمُكَذِّبِينَ؛ لعِلْمِه مِن المَقامِ، أي: الَّذين يُكذِّبون بما جاءَهُم به الرَّسولُ مِن تَوحيدِ اللهِ والبَعثِ والجَزاءِ والقُرآنِ؛ فاسمُ الفاعلِ في زمَنِ الحالِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/42). .
- وحرْفُ (في) في قولِه: فِي خَوْضٍ للظَّرفيَّةِ، أفادَ المُلابَسةَ الشَّديدةَ، كمُلابَسةِ الظَّرْفِ للمَظروفِ، أي: الَّذين تَمكَّنَ منهم الخَوضُ حتَّى كأنَّه أحاطَ بهم [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/42). .
3- قولُه تعالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الدَّعُّ هو الدَّفعُ العَنيفُ، وذلك إهانةٌ لهم، وغِلْظةٌ عليهم، أي: يومَ يُساقُون إلى نارِ جهنَّمَ سَوقًا بدَفْعٍ، وفيه تَمثيلُ حالِهم بأنَّهم خائِفون مُتقَهْقِرون، فتَدفَعُهم الملائكةُ المُوكَّلون بإزْجائِهم إلى النَّارِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
- وتأْكيدُ يُدَعُّونَ بـ دَعًّا؛ لِيُوصَلَ إلى إفادةِ تَعظيمِه بتَنْكيرِه [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
4- قولُه تعالَى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ، وتَقديرُه: يُقالُ لهم، أو مَقولًا لهم [77] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/409)، ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
- والإشارةُ بـ هَذِهِ -الَّذي هو للمُشارِ إليه القَريبِ المُؤنَّثِ- تُومِئُ إلى أنَّهم بَلَغوها وهمْ على شَفاها. والمَقصودُ بالإشارةِ التَّوطئةُ لِمَا سيَرِدُ بعْدَها مِن قولِه: الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ إلى لَا تُبْصِرُونَ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
- والمَوصولُ وَصِلتُه في قولِه: الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ؛ لتَنبيهِ المُخاطَبينَ على فَسادِ رأْيِهم؛ إذ كذَّبوا بالحَشْرِ والعِقابِ؛ فرَأَوا ذلك عِيانًا [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
5- قولُه تعالَى: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ فُرِّعَ على قولِه: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ؛ تنبيهًا على ضَلالِهم في الدُّنيا؛ إذ كانوا حِينَ يَسمَعون الإنذارَ بيَومِ البَعثِ والجزاءِ، يَقولون: هذا سِحرٌ، وإذا عُرِضَ عليهم القرآنُ قالوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] ؛ فلِلمُناسَبةِ بيْنَ ما في صِلةِ المَوصولِ مِن مَعنى التَّوقيفِ على خَطَئِهم وبيْنَ التَّهكُّمِ عليهم بما كانوا يَقولونه، دخَلَت فاءُ التَّفريعِ، وهو مِن جُملةِ ما يُقالُ لهم، المَحكيِّ بالقولِ المقدَّرِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
- قولُه: أَفَسِحْرٌ هَذَا هذه الفاءُ تَقْتضي مَعطوفًا عليه، وهو مُقدَّرٌ دلَّ عليه مَضمونُ قولِه: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور: 14]، فدخَلَت الهمزةُ بيْنَ المَعطوفينِ لمَزيدٍ مِن التَّقريعِ والتَّهكُّمِ؛ فإنَّه لَمَّا قِيل: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ، عُقِّب بقولِه: أَفَسِحْرٌ هَذَا؛ يعْني: هذا المِصداقُ أيضًا سِحرٌ؟! أي: كُنتم تَقولون للقُرآنِ الَّذي أنذَرَكم هذه النَّارَ: هذا سِحرٌ، فتَقولون: سِحرٌ هذا أيضًا! فالمُشارُ إليه بـ هَذَا النَّارُ، وذُكِّر لأنَّه في تأْويلِ المِصداقِ، أو الخبَرُ مُذكَّرٌ. وقُدِّم الخبَرُ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ تَتْميمًا للتَّقريعِ. أو قُدِّم الخبَرُ؛ لأنَّه المَقصودُ بالإِنكارِ والتَّوبيخِ [81] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/409)، ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/45)، ((تفسير أبي السعود)) (8/147). .
- و(أَمْ) في قولِه: أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ مُنقطِعةٌ، أي: بلْ أنتُم عُمْيٌ عن المُخبَرِ عنه، وهذا تَقريعٌ وتَهكُّمٌ. والاستِفهامُ الَّذي تَقْتضيهِ (أَمْ) بعْدَها مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ والتَّهكُّمِ، والتَّقديرُ: بلْ أأنْتُم لا تُبصِرون. أو تكونُ (أمْ) مُعادِلةً؛ فالمعْنى: هلْ في المَرئيِّ شَكٌّ، أمْ هلْ في بصَرِكم خَلَلٌ؟ أي: لا واحدَ منهما ثابتٌ [82] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/409)، ((تفسير الرازي)) (28/205)، ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/46)، ((تفسير أبي السعود)) (8/147)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/43). .
- وأيضًا جِيءَ بالمسنَدِ إليه مُخبَرًا عنه بخَبرٍ فِعليٍّ مَنْفيٍّ لَا تُبْصِرُونَ؛ لإفادةِ تَقوِّي الحُكْمِ؛ فلذلك لم يقلْ: (أمْ لا تُبصِرون)؛ لأنَّه لا يُفِيدُ تَقوِّيًا، ولا (أمْ لا تُبصِرون أنتُم)؛ لأنَّ مَجيءَ الضَّميرِ المُنفصِلِ بعْدَ الضَّميرِ المتَّصلِ يُفِيدُ تَقريرَ المُسنَدِ إليه المَحكومِ عليه، بخِلافِ تَقديمِ المُسنَدِ إليه؛ فإنَّه يُفِيدُ تأْكيدَ الحُكْمِ وتَقويتَه، وهو أشدُّ تَوكيدًا، وكلُّ ذلك في طَريقةِ التَّهكُّمِ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). .
6- قولُه تعالَى: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَمَّا قِيلَ لهم: إنَّ هذه هي النَّارُ، وُقِفوا بعْدَ ذلك على الجِهتينِ اللَّتينِ يُمكِنُ دُخولُ الشَّكِّ في أنَّها النارُ؛ وهي: إمَّا أنْ يكونَ ثَمَّ سِحْرٌ يُلَبِّسُ ذاتَ المَرْئيِّ، وإمَّا أنْ يكونَ في نَظَرِ الناظِرِ اختِلالٌ، فأمَرَهم بصَلْيِها على جِهةِ التَّقريعِ، ثمَّ قِيلَ لهم على قَطْعِ رَجائِهم: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ، أي: ادْخُلوها على أيِّ وجْهٍ شِئتُم مِن الصَّبْرِ وعَدَمِه؛ فإنَّه لا مَحيصَ لكمْ عنها، فعَذابُكم حَتْمٌ، فسَواءٌ صَبْرُكم وجَزَعُكم، لا بُدَّ مِن جَزاءِ أعْمالِكم [84] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/187)، ((تفسير أبي حيان)) (9/569). .
- وقولُه: اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا استِئنافٌ بمَنزِلةِ النَّتيجةِ المُترقَّبةِ مِن التَّوبيخِ والتَّغليظِ السَّابقَينِ، أي: ادْخُلوها فاصْطَلوا بِنارِها [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). .
- والأمْرُ في اصْلَوْهَا إمَّا مُكنًّى به عن الدُّخولِ؛ لأنَّ الدُّخولَ لها يَستلزِمُ الاحتِراقَ بنارِها، وإمَّا مُستعمَلٌ في التَّنكيلِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). .
- وفُرِّعَ على اصْلَوْهَا أمْرٌ للتَّسويةِ بيْنَ صَبْرِهم على حَرِّها وبيْن عدَمِ الصَّبْرِ، وهو الجزَعُ؛ لأنَّ كِلَيهما لا يُخفِّفانِ عنهم شيئًا مِن العَذابِ؛ فإنَّهم يَقولونَ: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم: 21] ؛ لأنَّ جُرْمَهم عظيمٌ لا مَطْمعَ في تَخفيفِ جَزائِه [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). .
- وقولُه: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ خبرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: سواءٌ عليكم الأمْرانِ: الصَّبْرُ وعَدَمُه، أو ذلك سَواءٌ عليكمْ. وهي جُملةٌ مُؤكِّدةٌ لجُملةِ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا؛ فلذلك فُصِلَت عنها، ولمْ تُعطَفْ عليها [88] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/409)، ((تفسير أبي حيان)) (9/569)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). .
- وجُملةُ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعليلٌ للاسْتِواءِ في جُملةِ اصْلَوْهَا؛ وعليه فجُملتَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ مُعترِضتانِ بيْن جُملةِ اصْلَوْهَا والجُملةِ الواقعةِ تَعليلًا لها [89] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير أبي السعود)) (8/147)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/44). .
- وعُلِّلَ استواءُ الصَّبْرِ وعَدَمِه بقَولِه: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؛ لأنَّ الصَّبْرَ إنَّما يكونُ له مَزيَّةٌ على الجَزَعِ لنَفْعِه في العاقِبةِ بأنْ يُجازَى عليه الصَّابرُ جَزاءَ الخَيرِ، فأمَّا الصَّبرُ على العذابِ الَّذي هو الجزاءُ ولا عاقبةَ له ولا مَنفعةَ، فلا مَزيَّةَ له على الجَزَعِ [90] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/409)، ((تفسير البيضاوي)) (5/153)، ((تفسير أبي حيان)) (9/569)، ((تفسير أبي السعود)) (8/147، 148). .
- والحَصْرُ المُستفادُ مِن كَلمةِ (إنَّما) قصْرُ قلْبٍ [91] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، بتَنزِيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ مَن يَعتقِدُ أنَّ ما لَقُوه مِن العذابِ ظُلْمٌ لم يَستوجِبوا مِثلَ ذلك؛ مِن شِدَّةِ ما ظهَرَ عليهم مِن الفزَعِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/45). .
- وعُدِّيَ تُجْزَوْنَ إلى مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بدونِ الباءِ، خِلافًا لقولِه بعْدَه: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 19]؛ لِيَشملَ القصْرُ مَفعولَ الفِعلِ المَقصورِ، أي: تُجْزَون مِثلَ عمَلِكم لا أكثَرَ منه، فيَنْتفي الظُّلمُ عن مِقدارِ الجَزاءِ كما انْتَفى الظُّلمُ عن أصْلِه، ولهذه الخُصوصيَّةِ لم يُعلَّقْ مَعمولُ الفِعلِ بالباءِ؛ إذ جُعِلَ بمَنزلةِ نفْسِ الفِعلِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/45). .