موسوعة التفسير

سورةُ الطُّورِ
الآيات (1-8)

ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

وَالطُّورِ: أي: الجَبَلِ الَّذي كَلَّم اللهُ عليه موسى عليه السَّلامُ. وقيل: هو اسمٌ لكُلِّ جَبَلٍ، وأصلُ (طور): يدُلُّ على الامتِدادِ في شَيءٍ مِن مكانٍ أو زمانٍ .
مَسْطُورٍ: أي: مَكتوبٍ مَحفوظٍ، وأصْلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ .
رَقٍّ: الرَّقُّ: الَّذي يُكتَبُ فيه، قيل: هو الوَرقُ، وقيل: هو ما كان مِن الجِلدِ، وقيل: كلُّ ما يُكتَبُ فيه مِن صحيفةٍ وغيرِها. والرِّقَّةُ متى كانت في جِسمٍ تُضادُّها الصَّفاقةُ، نحو: ثوبٌ رَقِيقٌ وصفيقٌ، ومتى كانت في نفْسٍ تُضادُّها الجَفوةُ والقسوةُ .
مَنْشُورٍ: أي: مَبْسوطٍ، ونَشَرَ الثَّوبَ، والصَّحِيفةَ، والسَّحَابَ، والنِّعْمَةَ، والحَدِيثَ: بَسَطَهَا، وأصْلُ (نشر): يدُلُّ على فتْحِ شَيءٍ وتَشعُّبِه .
الْمَسْجُورِ: أي: المَملوءِ؛ يُقالُ: سَجَرَ الإناءَ: إذا مَلأَءَه. وقيل: المُوقَدُ المُحمَى، بمَنزلةِ التَّنُّورِ المسجورِ، وأصلُ (سجر): يدُلُّ على المَلْءِ والإيقادِ .

المعنى الإجمالي:

يُقسِمُ اللهُ تعالى في هذه الآياتِ الكَريمةِ بجَبَلِ طُورِ سَيناءَ الَّذي كلَّم اللهُ عليه موسى عليه السَّلامُ، وبالكِتابِ المُسطَّرِ المَكتوبِ الكائِنِ في وَرَقٍ مَبسوطٍ غيرِ مَطْويٍّ، وبالبَيتِ المَعمورِ بالملائِكةِ في السَّماءِ، وبالسَّماءِ الَّتي رفَع اللهُ بُنيانَها وجعَلَها سَقفًا للأرضِ، وبالبَحرِ المسجورِ؛ على أنَّ عذابَه تعالى واقِعٌ ونازِلٌ بمَن يَستحِقُّه، ما لَه مِن دافعٍ يَدفَعُه عن أهلِه.

تفسير الآيات:

وَالطُّورِ (1).
أي: أُقسِمُ بجَبَلِ طُورِ سَيناءَ الَّذي كلَّم اللهُ عليه موسى عليه السَّلامُ .
كما قال الله تعالى عن موسى عليه السَّلامُ: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] .
وقال سُبحانَه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا [القصص: 46] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَطُورِ سِينِينَ [التين: 2] .
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2).
أي: وأُقسِمُ بكِتابٍ مُسطَّرٍ مَكتوبٍ .
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3).
أي: والكِتابِ المَسطورِ في وَرَقٍ مَبسوطٍ غيرِ مَطْويٍّ .
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4).
أي: وأُقسِمُ بالبيتِ المعمورِ بالملائِكةِ في السَّماءِ .
عن مالكِ بنِ صَعْصَعةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديثِ الإسراءِ: ((... ثمَّ رُفِعَ ليَ البَيتُ المعمورُ، فقُلتُ: يا جِبريلُ، ما هذا؟ قال: هذا البَيتُ المعمورُ يَدخُلُه كُلَّ يَومٍ سَبعونَ ألْفَ مَلَكٍ، إذا خَرَجوا منه لم يَعودوا فيه آخِرَ ما عليه م!)) .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديثِ الإسراءِ: ((... ففُتِحَ لنا فإذا أنا بإبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُسنِدًا ظَهْرَه إلى البَيتِ المَعمورِ، وإذا هو يَدخُلُه كُلَّ يومٍ سَبعونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يعودونَ إليه !)) .
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5).
أي: وأُقسِمُ بالسَّماءِ الَّتي رفَع اللهُ بُنْيانَها، وجعَلَها سَقفًا للأرضِ مِن جميعِ جَوانِبِها .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] .
وقال سُبحانَه: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء: 32] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا [الرحمن: 7].
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6).
أي: وأُقسِمُ بالبَحرِ المسجورِ .
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7).
أي: أُقسِمُ بتلك الأشياءِ على أنَّ عذابَ ربِّك -يا محمَّدُ- لَواقِعٌ ونازِلٌ حَتمًا بمَن يَستحِقُّه .
كما قال تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات: 5، 6].
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [المرسلات: 7].
مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8).
أي: ما لِذلك العَذابِ مِن دافعٍ يَدفَعُه عن أهلِه، فيُنقِذُهم منه !
كما قال الله تبارك وتعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج: 1، 2].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ في وَصفِ الكتابِ بأنَّه مَسطورٌ تحقيقٌ لكَونِه مَكتوبًا مَفروغًا منه ، وذلك على القولِ بأنَّ المرادَ به القرآنُ.
2- في قَولِه تعالى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ في وَصفِ الكتابِ بأنَّه مَنشورٌ إيذانٌ بالاعتِناءِ به، وأنَّه بأيدي الملائكةِ مَنشورٌ غيرُ مَهجورٍ ، وذلك على القولِ بأنَّ المرادَ به القرآنُ.
3- قال اللهُ تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ لَمَّا كان سُبحانَه عَظيمَ الإكرامِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أضاف العَذابَ إلى صِفةِ الإحسانِ والتَّربيةِ الخاصَّةِ به .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ القسَمُ بهذِه الأمورِ؛ للتَّأكيدِ وتَحقيقِ الوَعيدِ، وتَخصيصُ هذهِ الأُمورِ بالإقسامِ بها؛ لأنَّها أُمورٌ عِظامٌ تُنبِئُ عنْ عِظَمِ قُدْرةِ اللهِ تعالَى، وكَمالِ عِلْمهِ وحِكمتِه الدَّالَّةِ عَلى إحاطتِه تعالَى بتَفاصيلِ أعمالِ العِبادِ وضبْطِها، الشَّاهدةِ بصِدْقِ أخْبارِه الَّتي مِن جُمْلتِها الجُملةُ المُقسَمُ عَليها . وقيل: مُناسَبةُ الأُمورِ المُقسَمِ بها للمُقسَمِ عليه: أنَّ هذه الأشياءَ المُقسَمَ بها مِن شُؤونِ بَعثةِ مُوسى عليه السَّلامُ إلى فِرعونَ -بِناءً على أنَّ الكِتابَ هو التَّوراةُ، والبحرَ هو الأحمرُ-، وكان هَلاكُ فِرعونَ ومَن معَه مِن جَرَّاءِ تَكذيبِهم مُوسى عليه السَّلامُ .
- والطُّورُ: الجبَلُ باللُّغةِ السُّريانيَّةِ، وغُلِّبَ عَلَمًا على طُورِ سَيناءَ الَّذي ناجَى فيه مُوسى عليه السَّلامُ، وأُنزِلَ عليه فيه الألواحُ المُشتمِلةُ على أُصولِ شَريعةِ التَّوراةِ؛ فالقسَمُ به باعتِبارِ شَرَفِه بنُزولِ كَلامِ اللهِ فيه، ونُزولِ الألواحِ على مُوسى، وفي ذِكرِ الطُّورِ إشارةٌ إلى تلك الألواحِ؛ لأنَّها اشتُهِرَتْ بذلك الجَبَلِ، والقسَمُ بالطُّورِ تَوطئةٌ للقسَمِ بالتَّوراةِ الَّتي أُنزِلَ أوَّلُها على مُوسى في جبَلِ الطُّورِ ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وتَنكيرُ (كِتابٍ) و(رَقٍّ)؛ للتَّعظيمِ والتَّفخيمِ، والإشْعارِ بأنَّهما لَيسَا مِن المُتعارَفِ فيما بيْنَ النَّاسِ .
- وإجراءُ الوصْفينِ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ على الكِتابِ؛ لتَمْييزِه بأنَّه كِتابٌ مُشرَّفٌ، مُرادٌ بَقاؤُه، مأْمورٌ بقِراءتِه؛ إذ المَسطورُ هو المكتوبُ، أي: أقسَمَ بحالِ نَشْرِه لقِراءتِه، وهي أشرَفُ أحوالِه؛ لأنَّها حالةُ حُصولِ الاهتِداءِ به للقارِئِ والسَّامعِ .
- ومُناسَبةُ القَسَمِ بالتَّوراةِ -وذلِك على القَولِ بأنَّها المقصودةُ بلفظِ (كِتابٍ)- أنَّها الكِتابُ الموجودُ الَّذي فيه ذِكْرُ الجَزاءِ وإبطالِ الشِّرْكِ، وللإشارةِ إلى أنَّ القرآنَ الَّذي أنْكَروا أنَّه مِن عِندِ اللهِ ليس بِدْعًا؛ فقد نَزَلَت قبْلَه التَّوراةُ؛ وذلك لأنَّ المُقسَمَ عليه وُقوعُ العَذابِ بهم، وإنَّما هو جَزاءٌ على تَكذيبِهم القُرآنَ ومَن جاء به؛ بدَليلِ قَولِه بعْدَ ذِكْرِ العذابِ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور: 11، 12].
- والبيتُ المَعمورُ هنا هو الكَعْبةُ -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-، ووَصْفُه بالمَعمورِ؛ لأنَّه لا يَخلو مِن طائفٍ به، وعُمرانُ الكَعبةِ هو عُمرانُها بالطَّائفينَ .
- ومُناسَبةُ القسَمِ بالبَيتِ المَعمورِ الَّذي هو الكعبةُ: سَبْقُ القَسَمِ بكِتابِ التَّوراةِ، فعُقِّبَ ذلك بالقسَمِ بمَواطنِ نُزولِ القُرآنِ؛ فإنَّ ما نزَلَ به مِن القُرآنِ أُنزِلَ بمكَّةَ وما حَوْلَها، مِثلُ جَبلِ حِراءَ، وكان نُزولُه شَريعةً ناسِخةً لشَريعةِ التَّوراةِ، على أنَّ الوحْيَ كان يَنزِلُ حوْلَ الكَعبةِ؛ فيكونُ تَوسيطُ القسَمِ بالكعْبةِ في أثناءِ ما أُقسِمَ به مِن شُؤونِ شَريعةِ مُوسى عليه السَّلامُ إدماجًا . وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السَّقْفُ المرفوعُ هو السَّماءُ، ومُناسَبةُ القسَمِ بها أنَّها مَصدرُ الوحْيِ كلِّه؛ التَّوراةِ والقُرآنِ، وتَسميةُ السَّماءِ على طَريقةِ التَّشبيهِ البَليغِ .
- والمَسجورُ: مَشتقٌّ مِن السَّجْرِ، وهو الملْءُ والإمدادُ؛ فهو صِفةٌ كاشفةٌ قُصِدَ منها التَّذكيرُ بحالِ خلْقِ اللهِ إيَّاهُ مَملوءًا ماءً دونَ أنْ تَملَأَه أَوديةٌ أو سُيولٌ -وذلك علَى قولٍ-. أو هي للاحتِرازِ عن إرادةِ الوادي؛ إذ الوادي يَنقُصُ، فلا يَبْقى على مَلْئِه، وذلك دالٌّ على عِظَمِ القُدْرةِ، أو أنَّ وصْفَه بالمَسجورِ؛ للإيماءِ إلى الحالةِ الَّتي كان بها هَلاكُ فِرعَونَ بعْدَ أنْ فرَقَ اللهُ البحرَ لِمُوسى وبني إسرائيلَ، ثمَّ أسجَرَهُ، أي: أفاضَهُ على فِرعونَ ومَلَئِه . وذلك على أنَّ المرادَ به البحرُ الأحمرُ.
2- قولُه تعالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ تَحقيقُ وُقوعِ عَذابِ اللهِ يومَ القِيامةِ إثباتٌ للبَعثِ بطَريقِ الكِنايةِ القريبةِ، وتَهديدٌ للمُشرِكين بطَريقِ الكِنايةِ التَّعريضيَّةِ .
- وقوله:إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ جوابُ القَسَمِ .
- وفي إضافةِ العذابِ لقولِه: رَبِّكَ لَطيفةٌ؛ إذ هو المالِكُ والنَّاظِرُ في مَصلَحةِ العبْدِ؛ فبالإضافةِ إلى الرَّبِّ وإضافتِه لِكافِ الخِطابِ أمانٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ العذابَ لَواقِعٌ هو بمَن كذَّبَه ، وأيضًا أضاف الصِّفةَ إلى ضَميرِه؛ إيذانًا بأنَّه سُبحانَه يُرِي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أُمَّتِه ما يَسُرُّه .
- وقولُه: لَوَاقِعٌ فيه إشارةٌ إلى الشِّدَّةِ، وهو أدَلُّ عليها مِن (لَكائنٌ)، كأنَّه مُهيَّأٌ في مَكانٍ مُرتفِعٍ، فيَقَعُ على مَن حلَّ به .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ لَوَاقِعٌ، وتَقديرُه: على المكذِّبين، أو بالمكذِّبين، كما دلَّ عليه قولُه بعْدُ: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطور: 11]، أي: المكذِّبين بك، بقَرينةِ إضافةِ (ربّ) إلى ضَميرِ المُخاطَبِ المُشعِرِ بأنَّه مُعذِّبُهم؛ لأنَّه ربُّك وهم كذَّبوك، فقد كذَّبوا رِسالةَ الرَّبِّ .
- وقد تَضمَّنَ قولُه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ إثباتَ البَعثِ بعْدَ كَونِ الكلامِ وَعيدًا لهم على إنكارِ البعثِ، وإنكارِهم أنْ يَكونوا مُعذَّبينَ .
- وفي قولِه: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ زِيدَتْ (مِن) في النَّفْيِ؛ لتَحقيقِ عُمومِ النَّفْيِ وشُمولِه، أي: نفْيِ جِنسِ الدَّافعِ .