موسوعة التفسير

سورةُ سَبَأٍ
الآيتان (1-2)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يَلِجُ: أي: يَدخُلُ، وأصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيءٍ .
يَعْرُجُ: أي: يَصعَدُ ويَرقَى، وأصلُ (عرج): يدُلُّ على ارتِقاءٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مخبرًا عن نفْسِه الكريمةِ: الحَمدُ لله الَّذي له ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، وله الحَمدُ في الآخِرةِ؛ فهو المحمودُ أبدًا، وهو الحَكيمُ الخبيرُ الَّذي لا تخفى عليه خافيةٌ، ومِن ذلك أنَّه يعلَمُ ما يدخُلُ في الأرضِ ويَغيبُ فيها، وما يَخرُجُ منها، وما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَصعَدُ فيها، وهو الرَّحيمُ بعبادِه، الغفورُ لذُنوبِهم.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1).
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: الحمدُ التَّامُّ كلُّه لله وَحْدَه، الَّذي يَملِكُ جَميعَ ما في السَّمواتِ وجميعَ ما في الأرضِ، وهو خالِقُهما ومُدَبِّرُهما والمتصَرِّفُ فيهما .
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ.
أي: ولله وَحْدَه الحَمدُ في الآخِرةِ، فهو المحمودُ أبدًا .
كما قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70] .
وقال سُبحانَه عن أهلِ الجنَّةِ: وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] .
وقال تبارك وتعالى عنهم أيضًا: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا نِيطَ حَمدُه في الدُّنيا والآخرةِ بما اقتضَى مَرجِعَ التَّصَرُّفاتِ إليه في الدَّارَينِ؛ أعقَبَ ذلك بصِفَتَيِ الحكيمِ الخبيرِ؛ لأنَّ الَّذي أوجَدَ أحوالَ النَّشأتَينِ هو العَظيمُ الحِكمةِ، الخبيرُ بدقائِقِ الأشياءِ وأسرارِها؛ فالحِكمةُ: إتقانُ التَّصَرُّفِ بالإيجادِ وضِدِّه، والخِبرةُ تقتضي العِلمَ بأوائِلِ الأُمورِ وعواقِبِها .
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
أي: وهو الحَكيمُ في أقوالِه وأفعالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، وفي مُلكِه وتدبيرِ خَلْقِه؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به؛ وهو الخبيرُ الَّذي لا تخفَى عليه خافيةٌ، المطَّلِعُ على سرائرِ الأمورِ وخفاياها .
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله سُبحانَه أتْبَعَ ما تقدَّمَ مِن حَمدِه على ما هو أهلُه، ببَسطِ شواهِدِ حِكمتِه وعِلمِه .
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
أي: يَعلَمُ اللهُ كُلَّ ما يَدخُلُ في الأرضِ ويَغيبُ فيها؛ كالمطَرِ، والبُذورِ، والحيواناتِ، والأمواتِ، والكُنوزِ، وغيرِ ذلك؛ ويَعلَمُ كُلَّ ما يَخرُجُ مِن الأرضِ؛ كأنواعِ النَّباتاتِ، والمعادِنِ، والكنوزِ، وغيرِ ذلك، يَعلَمُ عَدَدَه وكيفيَّتَه وصِفاتِه .
وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا.
أي: ويَعلَمُ اللهُ كُلَّ ما يَنزِلُ مِن السَّماءِ؛ كالأمطارِ، والبرَدِ والثُّلوجِ، والصَّواعِقِ، والأرزاقِ، والملائِكةِ؛ ويَعلَمُ كُلَّ ما يَصعَدُ ويَدخُلُ في السَّماءِ؛ كالملائكةِ، والأرواحِ، وأعمالِ العِبادِ .
وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن جُملةِ أحوالِ ما في الأرضِ أعمالُ النَّاسِ وأحوالُهم مِن عقائدَ وسِيَرٍ، وممَّا يَعرُجُ في السَّماءِ العملُ الصَّالحُ والكَلِمُ الطَّيِّبُ؛ أتْبَعَ ذلك بقولِه :
وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
أي: واللهُ هو الرَّحيمُ بعِبادِه، الغفورُ لذُنوبِهم؛ فيَستُرُها عليهم، ويتَجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ إثباتُ حُكمِ اللهِ -سُبحانَه وتعالى- الكَوْنيِّ والشَّرعيِّ، وإثباتُ حِكمتِه المتعلِّقةِ بالكَونِ، والمتعَلِّقةِ بالشَّرعِ، ويَتفرَّعُ على هذه القاعدةِ وُجوبُ التَّسليمِ لِقَضائِه الكَوْنيِّ والشَّرعيِّ؛ بحيثُ لا نُورِدُ أيَّ اعتِراضٍ حتَّى وإن جاء على ما ظاهِرُه خِلافُ الحِكمةِ؛ فإنه يَجِبُ أن نتَّهِمَ عُقولَنا؛ لأنَّه إذا ثبتَ أنَّه عزَّ وجلَّ حَكيمٌ في الحُكمَينِ الكَوْنيِّ والشَّرعيِّ، لَزِمَ مِن ذلك التَّسليمُ للقَضاءِ الكَونيِّ والشَّرعيِّ؛ لأنَّه صادِرٌ عن حِكمةٍ، لكنَّ هذه الحِكمةَ قد تخفَى علينا ، فينبغي للمؤمنِ أن يَعلَمَ أنَّ الله سبحانه مالكٌ حكيمٌ لا يعبَثُ، وهذا العِلمُ يوجِبُ نفْيَ الاعتِراضِ على القَدَرِ، والتَّسليمُ هو تكليفُ العقلِ لِيُذعِنَ، وهذا أصلٌ إذا فُهِم حصَل منه السَّلامةُ والتَّسليمُ .
2- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ هذا إجمالٌ قُصِدَ منه حثُّ النَّاسِ على طَلَبِ أسبابِ الرَّحمةِ والمَغفِرةِ المرغوبِ فيهما؛ فإنَّ مَن رَغِبَ في تحصيلِ شَيءٍ بحَثَ عن وسائِلِ تحصيلِه، وسعَى إليها .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- سورةُ (سبأٍ) إحدى سُوَرٍ خَمسٍ مُفتَتَحةٍ بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهي كُلُّها مَكِّيَّةٌ، وقد وُضِعَت في ترتيبِ القُرآنِ: في أوَّلِه، ووَسَطِه، والرُّبُعِ الأخيرِ؛ فكانت أرباعُ القُرآنِ مُفتَتَحةً بالحَمدِ لله، كان ذلك بتَوفيقٍ مِن اللهِ، أو توقيفٍ .
2- قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ يُعَلِّمُنا عزَّ وجلَّ كيفَ نحمَدُه، وكيف نُثْني عليه؛ وهو أهلٌ لأنْ يَمدحَ نفْسَه عزَّ وجلَّ، ويُثْنيَ عليها، وهو في غِنًى عن كَونِه يُظْهِرُ لنا مِن صِفاتِ الكمال ما يُظهِرُ، ولكنْ هذا مِن أجْلِ مصلحتِنا .
3- قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فقَرَن بيْنَ المُلْكِ والحَمدِ على عاداتِه تعالى في كلامِه؛ فإنَّ اقترانَ أحَدِهما بالآخَرِ له كَمالٌ زائدٌ على الكَمالِ بكُلِّ واحدٍ منهما؛ فله كمالٌ مِن مُلكِه، وكمالٌ مِن حَمدِه، وكمالٌ مِن اقتِرانِ أحَدِهما بالآخَرِ؛ فإنَّ المُلْكَ بلا حمدٍ يَستلزِمُ نَقصًا، والحَمدَ بلا مُلكٍ يَستلزِمُ عَجزًا، والحمدَ مع المُلكِ غايةُ الكمالِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ قَصْرُ الحَمدِ على نَفْسِه تعالى في الآخرةِ أحَقُّ؛ لأنَّ التَّصَرُّفاتِ يومَئذٍ مَقصورةٌ عليه، لا يلتَبِسُ فيها تصَرُّفُ غيرِه بتصَرُّفِه .
5- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ اقترنتِ الحكمةُ بالخبرةِ -والحكمةُ دائمًا يَقْرِنُها اللهُ عزَّ وجلَّ بالعِزَّةِ وبالعلمِ-؛ وهنا قُرِنَتْ بالعِلمِ الَّذي تتضَمَّنُه الخبرةُ، وإنَّما يَقْرِنُها اللهُ عزَّ وجلَّ بذلك؛ ليَتبيَّنَ أنَّ حكمتَه سُبحانَه وتعالى مَبنيَّةٌ على عِلْمِه، وأنَّه إذا تراءَى لأحدٍ أنَّ هذا الشَّيءَ ليس بحكمةٍ؛ فذلك لِنُقصانِ عِلْمِه، وإلَّا لو كان عندَه عِلمٌ وفَهمٌ لعرَف أنَّ الحكمةَ فيما شَرَعَه اللهُ عزَّ وجلَّ وفيما قَدَّرَه .
6- قال تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، فعَقَّب الحَمدَ والمُلكَ باسمِ الحكيمِ الخبيرِ الدَّالَّينِ على كَمالِ الإرادةِ، وأنَّها لا تتعلَّقُ بمُرادٍ إلَّا لحِكمةٍ بالغةٍ، وعلى كَمالِ العِلمِ، وأنَّه كما يتعلَّقُ بظواهِرِ المعلوماتِ، فهو متعلِّقٌ ببواطِنِها الَّتي لا تُدرَكُ إلَّا بخِبْرةٍ؛ فنِسبةُ الحِكمةِ إلى الإرادةِ كنِسبةِ الِخبرةِ إلى العِلمِ؛ فالمرادُ ظاهِرٌ والحِكمةُ باطِنةٌ، والعِلمُ ظاهِرٌ والخِبرةُ باطِنةٌ؛ فكمالُ الإرادةِ أن تكونَ واقِعةً على وَجهِ الحِكمةِ، وكَمالُ العِلمِ أن يكونَ كاشِفًا عن الخِبرةِ؛ فالخِبرةُ باطِنُ العِلمِ وكَمالُه، والحِكمةُ باطِنُ الإرادةِ وكمالُها .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
- افتُتِحَتِ السُّورةُ بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وفي هذا التَّحميدِ بَراعةُ استِهلالٍ، وللتَّنبيهِ على أنَّ السُّورةَ تَتضمَّنُ مِن دَلائلِ تَفرُّدِه بالإلهيَّةِ واتِّصافِه بصِفاتِ العَظَمةِ ما يَقْتضي إنشاءَ الحمْدِ له، والإخبارَ باختِصاصِه به؛ فجُملةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ هنا يَجوزُ أنْ تكونَ إخبارًا بأنَّ جِنسَ الحمْدِ مُستحَقٌّ للهِ تعالى؛ فتكونَ اللَّامُ في قولِه: لِلَّهِ لامَ المِلْكِ. ويجوزُ أنْ تكونَ إنشاءَ ثَناءٍ على اللهِ على وَجهِ تَعليمِ النَّاسِ أنْ يَخُصُّوه بالحمْدِ؛ فتَكونَ اللَّامُ للتَّبيينِ؛ لأنَّ معنى الكلامِ: أحمَدُ اللهَ .
- والتَّعبيرُ بالجُملةِ الاسميَّةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفِيدُ الاستمرارَ والثُّبوتَ .
- قولُه: الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ اقتضاءُ صِلةِ المَوصولِ أنَّ ما في السَّمواتِ والأرضِ مِلكٌ للهِ تعالى يَجعَلُ هذه الصِّلةَ صالحةً لِتَكونَ عِلَّةً لإنشاءِ الثَّناءِ عليه؛ لأنَّ مِلْكَه لِمَا في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِلكٌ حَقيقيٌّ؛ لأنَّ سَببَه إيجادُ تلك المَمْلوكاتِ، وذلك الإيجادُ عمَلٌ جَميلٌ يَستحِقُّ صاحبُه الحمْدَ، وأيضًا هو يَتضمَّنُ نِعَمًا جمَّةً، وهي أيضًا تَقْتضي حمْدَ المُنعِمِ. وفي هذه الصِّلةِ تَعريضٌ بكُفرانِ المشركينَ الَّذين حَمِدوا أشياءَ ليس لها في هذه العوالِمِ أدْنى تَأثيرٍ، ولا لها بما تَحْتوي عليه أدْنى شُعورٍ، ونَسُوا حمْدَ مالِكِها ومالكِ سائرِ ما في السَّمواتِ والأرضِ .
- قولُه: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ لَمَّا كانتْ نِعمةُ الآخرةِ مُخبَرًا بها، غيرَ مَرئيَّةٍ لنا في الدُّنيا؛ ذَكَرها لِيُقاسَ نِعَمُها بنِعَمِ الدُّنيا قِياسَ الغائبِ على الشَّاهدِ، وإنِ اختَلَفا في الفَضيلةِ والدَّيمومةِ .
- وجُملةُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ عَطْفٌ على الصِّلةِ، أي: والَّذي له الحمْدُ في الآخِرةِ، وهذا إنباءٌ بأنَّه مالكُ الأمْرِ كلِّه في الآخِرةِ. وتَقديمُ المَجرورِ؛ لإفادةِ الحَصرِ والاختصاصِ، أي: لا حمْدَ في الآخِرةِ إلَّا له؛ فلا تَتوجَّهُ النُّفوسُ إلى حمْدِ غيرِه؛ لأنَّ النَّاسَ يومَئذٍ في عالَمِ الحقِّ، فلا تَلتبِسُ عليهم الصُّورُ .
- قولُه: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ فيه إطلاقُ الحمْدِ عن ذِكرِ ما يُشعِرُ بالمَحمودِ عليه؛ لِيَعُمَّ النِّعَمَ الأُخرويَّةَ، كما في قولِه تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ [الزمر: 74] ، وما يكونُ ذَريعةً إلى نَيلِها مِن النِّعمِ الدُّنيويَّةِ، كما في قولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف: 43] .
- وخُصَّ الحمدُ في الآخرةِ -معَ أنَّه محمودٌ في الدُّنيا والآخرةِ؛ كما قال اللهُ سُبحانَه وتعالى في آيةٍ ثانيةٍ: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ [القصص: 70] - لأنَّ ظهورَ حمْدِه في الآخرةِ أبيَنُ وأوضَحُ؛ فإنَّ في الدُّنيا مَن يُنكِرُ حمْدَ اللهِ سُبحانَه وتعالى ويَكفُرُ به، لكنْ في الآخرةِ لا يمكنُ لأحدٍ إلَّا أنْ يحمَدَ اللهَ عزَّ وجلَّ .
- قولُه: الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ القرْنُ بيْنَ الصِّفتينِ هنا؛ لأنَّ كلَّ واحِدةٍ تَدُلُّ على معنًى أصليٍّ ومعنًى لُزوميٍّ، وهما مُختلفانِ؛ فالمعنى الأصليُّ للحَكيمِ: أنَّه مُتقِنُ التَّصرُّفِ والصُّنْعِ؛ لأنَّ الحكيمَ مُشتقٌّ مِن الإحكامِ، وهو الإتقانُ، وهو يَستلزِمُ العِلمَ بحَقائقِ الأشياءِ على ما هي عليه، والخبيرُ: هو العليمُ ببواطنِ الأشياءِ وظَواهرِها بالأَولى بحيث لا يَفوتُه شَيءٌ منها، وهو يَستلزِمُ التَّمكُّنَ مِن تَصريفِها؛ ففي التَّتميمِ بهَذينِ الوَصفينِ إيماءٌ إلى أنَّ المقصودَ مِن الجُملةِ قبْلَه استِحماقُ الَّذين أقْبَلوا في شُؤونِهم على آلهةٍ باطلةٍ .
2- قَولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
- قولُه: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ... تَفصيلٌ لِبَعضِ ما يُحِيطُ به عِلْمُه تعالى مِن الأُمورِ الَّتي نِيطَتْ بها مَصالِحُهم الدُّنيويَّةُ والدِّينيَّةُ ، ومِن الأساليبِ البلاغيَّةِ الإجمالُ ثمَّ التَّفصيلُ، وفائدةُ هذه الطَّريقةِ البلاغيَّةِ هي: أنَّ الشَّيءَ إذا جاء مُجْمَلًا تَشَوَّفَتِ النُّفوسُ إلى تفصيلِه؛ فجاء التَّفصيلُ واردًا على نفوسٍ تتطلَّعُ إليه، فإذا وردَ التَّفصيلُ إلى نفوسٍ تتطلَّعُ إليه كان أوقَعَ في النَّفْسِ، وأرسَخَ في القلبِ .
- وخُصَّ بالذِّكرِ في مُتعلَّقِ العِلمِ ما يَلِجُ وما يَخرُجُ مِن الأرضِ دونَ ما يَدِبُّ على سَطْحِها، وما يَنزِلُ وما يَعرُجُ إلى السَّماءِ دونَ ما يَجُولُ في أرجائِها؛ لأنَّ ما ذُكِرَ لا يَخْلو عن أنْ يكونَ دابًّا وجائلًا فيهما، والَّذي يَعلَمُ ما يَلِجُ في الأرضِ وما يَخرُجُ منها، يَعلَمُ ما يَدِبُّ عليها وما يَزحَفُ فوقَها، والَّذي يَعلَمُ ما يَنزِلُ مِن السَّماءِ وما يَعرُجُ، يَعلَمُ ما في الأجواءِ والفضاءِ مِن الكائناتِ المرئيَّةِ وغيرِها، ويَعلَمُ سَيْرَ الكواكبِ ونِظامَها. وكَلِمَتا (يَلِج) (ويَخرُجُ) أوضَحُ ما يُعبَّرُ به عن أحوالِ جَميعِ الموجوداتِ الأرضيَّةِ بالنِّسبةِ إلى اتِّصالِها بالأرضِ، وكَلِمَتا (يَنزِلُ) (ويَعرُج) أوضَحُ ما يُعبَّرُ به عن أحوالِ المَوجوداتِ السَّماويَّةِ بالنِّسبةِ إلى اتِّصالِها بالسَّماءِ، مِن كَلِماتِ اللُّغةِ الَّتي تَدُلُّ على المعاني المَوضوعةِ للدَّلالةِ عليها دَلالةً مُطابقيَّةً على الحقيقةِ دونَ الكِنايةِ؛ ولذلك لم يَعطِفِ السَّماءَ على الأرضِ في الآيةِ، فلمْ يَقُلْ: يَعلَمُ ما يَلِجُ في الأرضِ والسَّماءِ، وما يَخرُجُ منْهما، ولم يَكتَفِ بإحْدى الجُملتينِ عن الأُخرى .
- وقال: وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، ولم يقُلْ: (يَعرُجُ إليها)؛ إشارةً إلى قَبولِ الأعمالِ الصَّالحةِ، ومَرتبةِ النُّفوسِ الزَّكيَّةِ؛ وهذا لأنَّ كَلِمةَ (إلى) للغايةِ، فلو قال: (وما يَعرُجُ إليها)، لفُهِمَ الوقوفُ عندَ السَّمواتِ. فقال: وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا؛ لِيُفهَمَ نُفوذُها فيها، وصعودُها منها؛ ولهذا قال في الكَلِمِ الطَّيِّبِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] ؛ لأنَّ الله هو المنتهَى، ولا مرتبةَ فوقَ الوصولِ إليه، وأمَّا السَّماءُ فهي دنيا، وفوقَها المنتهَى ، فقال: (فيها)، ولم يقُلْ: (إليها)؛ لنستفيدَ فائدتينِ: الفائدةُ الأُولَى: العروجُ، أي: الصُّعودُ. الفائدةُ الثانيةُ: الدُّخولُ؛ لأنَّ (في) يُناسِبُها مِن الأفعالِ الدُّخولُ، أمَّا (عَرَج) و(يَعرُجُ) فالَّذي يُناسِبُها (إلى)، لكِنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ عدَلَ عن قَولِه: (يَعرُجُ إليها) إلى قَولِه: يَعْرُجُ فِيهَا؛ ليُفيدَ الصُّعودَ والدُّخولَ، أي: الأشياءُ لا تَصِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا وتَقِفُ، بل تَعرُجُ في السَّماءِ الدُّنيا حتَّى تَصِلَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، فضُمِّنَ «يعرُجُ» معنى «يدخُلُ» .
- قَولُه: وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ فيه تَعريضٌ بالمشركينَ أنْ يَتوبوا عن الشِّركِ، فيُغفَر لهم ما قدَّموهُ .
- وقَولُه: الرَّحِيمُ الْغَفُورُ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، فالأكثرُ في القرآنِ تقديمُ اسمِه «الغفورِ» على اسمِه «الرَّحيمِ»، أمَّا هنا فقدَّم الرَّحيمَ على الغفورِ في هذا السِّياقِ؛ لِمَا يكونُ في السَّماءِ والأرضِ مِن المصالحِ والمنافعِ، والمصالحُ والمنافعُ مِن آثارِ الرَّحمةِ، ودفْعُ المصائبِ مِن آثارِ المغفرةِ؛ لأنَّ المغفرةَ: مَحْوُ الذَّنبِ الَّذي تَزولُ فيه المكروهاتُ، والرَّحمةُ: حصولُ الخَيرِ .
وأيضًا فالرَّحمةُ هنا مُتقدِّمةٌ على المغفرةِ؛ إمَّا بالفَضلِ والكَمالِ، وإمَّا بالطَّبعِ؛ لأنَّها مُنتَظِمةٌ بذِكرِ أوصافِ الخَلقِ مِن المكَلَّفينَ وغَيرِهم مِن الحيوانِ، فالرَّحمةُ تَشمَلُهم، والمغفرةُ تخُصُّهم، والعمومُ بالطَّبعِ قبْلَ الخُصوصِ .
وأيضًا قدَّم الرَّحِيمُ في هذا الموضِعِ؛ لتقَدُّمِ صِفةِ العِلمِ، فحَسُنَ ذِكرُ الرَّحيمِ بعدَه؛ لِيَقترِنَ به فيطابِقَ قَولَه: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [غافر: 7] ، ثمَّ خَتَم الآيةَ بذِكرِ صِفةِ المغفرةِ؛ لتضَمُّنِها دَفْعَ الشَّرِّ، وتضَمُّنِ ما قبْلَها جَلْبَ الخَيرِ، ولَمَّا كان دفْعُ الشَّرِّ مُقدَّمًا على جَلبِ الخيرِ قُدِّم اسمُ الغَفورِ على الرَّحيمِ حيث وقَعَ، ولَمَّا كان في هذا الموضِعِ تعارُضٌ يقتضي تقديمَ اسمِه الرَّحيم؛ لأجْلِ ما قبْلَه، قُدِّم على الغَفورِ .
وقيل: قدَّم صِفةَ الرَّحمةِ؛ ليُعلَمَ أنَّ رحمتَه سبَقَتْ غضَبَه، ولأنَّه في سياقِ الحَمدِ، فناسَبَ تقديمَ الوَصفِ النَّاظِرِ إلى التَّكميلِ على الوَصفِ النَّافي للنَّقصِ .