موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ التَّاسِعُ: غالِبُ الرَّأيِ يَجوزُ تَحكيمُه فيما لا يُمكِنُ مَعرِفةُ حَقيقَتِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "غالبُ الرَّأيِ يَجوزُ تَحكيمُه فيما لا يُمكِنُ مَعرِفةُ حَقيقَتِه" [965] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 292)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 94). ، وبصيغةِ: "غالبُ الرَّأي يُقامُ مَقامُ الحَقيقةِ فيما لا طَريقَ إلى مَعرِفةِ حَقيقَتِه" [966] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/49). ، وبصيغةِ: "ما لا يُمكِنُ الوُقوفُ فيه على الحَقيقةِ يَجِبُ العَمَلُ فيه بغالِبِ الرَّأيِ" [967] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1789). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
العِلمُ ضَربانِ: عِلمُ يَقينٍ، وعِلمُ غالِبِ الرَّأيِ. والعَمَلُ بكُلِّ واحِدٍ مِنهما جائِزٌ في أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا؛ فما لا يُمكِنُ الوُقوفُ فيه على الحَقيقةِ يَجِبُ العَمَلُ فيه بغالِبِ الرَّأيِ.
وطَريقُ العَمَلِ بغالِبِ الرَّأيِ هو التَّحَرِّي، فإنَّ التَّحَرِّيَ عِبارةٌ عن طَلَبِ الشَّيءِ عِندَ تَعَذُّرِ الوُقوفِ على حَقيقَتِه. والتَّحَرِّي غَيرُ الشَّكِّ والظَّنِّ؛ فالشَّكُّ أن يَستَويَ طَرَفُ العِلمِ بالشَّيءِ والجَهلِ به، والظَّنُّ أن يَتَرَجَّحَ أحَدُهما بغَيرِ دَليلٍ، والتَّحَرِّي أن يَتَرَجَّحَ أحَدُهما بغالِبِ الرَّأيِ. والمُرادُ بما لا يُمكِنُ مَعرِفةُ حَقيقَتِه: أنَّ العَمَلَ بغالِبِ الرَّأيِ إنَّما يَكونُ في حالةِ الضَّرورةِ، أمَّا إذا أمكَنَ العَمَلُ بحَقيقةِ الأمرِ فهو أَولى [968] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 272، 465)، ((المبسوط)) (10/185) ((شرح السير الكبير)) (ص: 1789) كلاهما للسرخسي، ((عمدة القاري)) للعيني (2/250)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 220). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ غالبَ الرَّأيِ كاليَقينِ، فيَجوزُ تَحكيمُه فيما لا يُمكِنُ مَعرِفةُ حَقيقَتِه؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والقَواعِدُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن وابِصةَ بنِ مَعبَدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أُريدُ ألَّا أدَعَ شَيئًا منَ البِرِّ والإثمِ إلَّا سَألتُه عنه... فقال: يا وابِصةُ أُخبِرُكَ ما جِئتَ تَسألُني عنه، أو تَسألُني؟ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، فأخبِرْني، قال: جِئتَ تَسألُني عنِ البِرِّ والإثمِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فجَمَعَ أصابِعَه الثَّلاثَ، فجَعَلَ يَنكُتُ بها في صَدري، ويَقولُ: يا وابِصةُ، استَفتِ نَفسَكَ، البِرُّ ما اطمَأنَّ إلَيه القَلبُ، واطمَأنَّت إلَيه النَّفسُ، والإثمُ ما حاكَ في القَلبِ، وتَرَدَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاكَ النَّاسُ وأفتَوكَ )) [969] أخرجه أحمد (18001) واللفظ له، والدارمي (2533) مختصرًا، وأبو يعلى (1586) باختلافٍ يسيرٍ. حَسَّنه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (1734)، وحَسَّن إسنادَه المُنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/ 23). وذهب إلى تَحسينِه النوويُّ في ((الأذكار)) (504)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/ 284). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ واضِحةٌ على التَّحَرِّي بغالِبِ الرَّأيِ؛ حَيثُ أرشَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى استِفتاءِ قَلبِه للوُصولِ إلى العَمَلِ بغالِبِ ظَنِّه [970] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/186). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
- يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الحُكمُ للغالبِ).
- ويُستَدَلُّ لها بقاعِدةِ (غالِبُ الرَّأيِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما بُنيَ أمرُه على الاحتياطِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا شَكَّ في طُلوعِ الفجرِ هَل طَلعَ أم لا؟ يَنبَغي أن يَدَعَ التَّسَحُّرَ؛ لأنَّه رُبَّما طَلعَ الفجرُ فيَفسُدُ صَومُه، وإن كان أكثَرُ رَأيِه أنَّ الفجرَ لم يَطلُعْ فيَنبَغي أن يَدَعَ الأكلَ أيضًا، لكِن لو تَسحَّر لا يَلزَمُه القَضاءُ؛ لأنَّ بَقاءَ اللَّيلِ أصلٌ، وهو ثابتٌ بغالبِ الرَّأيِ، وإنَّما الشَّكُّ والاحتِمالُ في طُلوعِ الفَجرِ، فلا يَجِبُ القَضاءُ بالشَّكِّ والاحتِمالِ، ولو أنَّ أكثَرَ رَأيِه أنَّ الفجرَ طالِعٌ فأكَل، فإنَّه يَلزَمُه القَضاءُ؛ لأنَّ غالِبَ الرَّأيِ دَليلٌ واجِبٌ العَمَلُ به [971] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (1/366). .
2- الجَمَلُ الصَّؤولُ إذا أخَذَه رَجُلٌ فمَنعَه مِنَ الصِّيالِ، وهو يَخافُ إن خَلَّى سَبيلَه أن يَعودَ لمِثلِ ذلك، فلا بَأسَ بأن يَقتُلَه ويَغرَمَه لصاحِبِه، كَما في حالِ صِيالِه؛ وهذا لأنَّ ما يُتَوهَّمُ مِنه قد ظَهَرَ أثَرُه فيما مَضى، فيَتَأيَّدُ هذا الظَّنُّ بذلك الظَّاهرِ، ويُجعَلُ كالقائِمِ في الحالِ؛ لأنَّ في تَركِه خَوفَ الهَلاكِ على المُسلمينَ، باعتِبارِ غالِبِ الرَّأيِ، وفيما لا يُمكِنُ الوُقوفُ على حَقيقَتِه يُبنى الحُكمُ فيه على غالِبِ الرَّأيِ [972] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1435). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ التي لا يُعمَلُ فيها بغالِبِ الرَّأيِ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا اختَلطَتِ الشَّاةُ المَذبوحةُ بالمَيتةِ، فإن كان الحَرامُ غالبًا فليسَ له أن يَتَحَرَّى عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ، وإذا كان الغالبُ هو الحَرامَ كان الكُلُّ حَرامًا في وُجوبِ الاجتِنابِ عنها في حالةِ الاختيارِ، وهذا لأنَّه لو تَناول شَيئًا مِنها إنَّما يَتَناولُ بغالِبِ الرَّأيِ، وجَوازُ العَمَلِ بغالِبِ الرَّأيِ للضَّرورةِ، ولا ضَرورةَ في حالةِ الاختيارِ، بخِلافِ ما إذا كان الغالبُ الحَلالُ؛ فإنَّ حِلَّ التَّناوُلِ هناكَ ليسَ بغالِبِ الرَّأيِ [973] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/197). .
2- إذا اختَلطَ مَوتى المُسلمينَ بمَوتى الكُفَّارِ، فإن كان الغالِبُ مَوتى الكُفَّارِ لا يُصَلَّى على أحَدٍ مِنهم إلَّا مَن يُعلَمُ أنَّه مُسلمٌ بالعَلامةِ؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ، والغَلَبةُ للكُفَّارِ هنا، وإن كانا مُتَساويَينِ فكذلك الجَوابُ؛ لأنَّ الصَّلاةَ على الكافِرِ لا تَجوزُ بحالٍ، قال اللهُ تعالى: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا [التوبة: 84] ، ويَجوزُ تَركُ الصَّلاةِ على بَعضِ المُسلمينَ، كأهلِ البَغيِ وقُطَّاعِ الطَّريقِ، فعِندَ المُساواةِ يَغلِبُ ما هو الأوجَبُ، وهو الامتِناعُ عنِ الصَّلاةِ على الكُفَّارِ، ولا يَجوزُ المَصيرُ إلى التَّحَرِّي هنا؛ لأنَّ العَمَلَ بغالِبِ الرَّأيِ في مَوضِعِ الضَّرورةِ، ولا تَتَحَقَّقُ الضَّرورةُ هنا [974] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/198). .

انظر أيضا: