موسوعة القواعد الفقهية

تَمهيدٌ: أهَمِّيَّةُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ ومَكانَتُها


تَتَبَوَّأُ القَواعِدُ الفِقهيَّةُ مَنزِلةً كَبيرةً في الفِقهِ الإسلاميِّ؛ إذ هيَ الضَّابِطةُ له، والكاشِفةُ عَن مَراميه ومَقاصِدِه، وبِها تَنسَجِمُ الأحكامُ الشَّرعيَّةُ وتَتَواءَمُ.
وإتقانُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ بابٌ لسَلامةِ الفَقيهِ مِنَ التَّناقُضِ؛ لأنَّها تُمَكِّنُ الفَقيهَ مِن إحكامِ الفُروعِ ومَعرِفةِ أحكامِها.
وذلك لعَظيمِ أهَمِّيَّتِها، وبِها يُطَّلَعُ على حَقائِقِ الفِقهِ ومَدارِكِه [146] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 6). ؛ لذا عَدَّ الزَّركَشيُّ مِن أنواعِ الفِقهِ: مَعرِفةَ الضَّوابِطِ التي تَجمَعُ جُموعًا، والقَواعِدِ التي تَرِدُ إليها أُصولًا وفُروعًا [147] يُنظر: ((المنثور)) (1/ 71). .
قال القَرافيُّ: (ومَن جَعَلَ يُخَرِّجُ الفُروعَ بالمُناسَباتِ الجُزئيَّةِ دونَ القَواعِدِ الكُلِّيَّةِ تَناقَضَت عليه الفُروعُ واختَلَفَت، وتَزَلزَلَت خَواطِرُه فيها واضطَرَبَت، وضاقَت نَفسُه لذلك وقَنَطَت، واحتاجَ إلى حِفظِ الجُزئيَّاتِ التي لا تَتَناهى، وانتَهى العُمُرُ ولَم تَقضِ نَفسُه مِن طَلَبِ مُناها، ومَن ضَبَطَ الفِقهَ بقَواعِدِه استَغنى عَن حِفظِ أكثَرِ الجُزئيَّاتِ لاندِراجِها في الكُلِّيَّاتِ، واتَّحَدَ عِندَه ما تَناقَضَ عِندَ غَيرِهـ) [148] ((الفروق)) (1/ 3). .
ونَقَلَ ابنُ السُّبكيِّ عَن والِدِه قَولَه: (فالفَقيهُ الحاذِقُ يَحتاجُ إلى تَيَقُّنِ القاعِدةِ الكُلِّيَّةِ في كُلِّ بابٍ، ثُمَّ يَنظُرُ نَظَرًا خاصًّا في كُلِّ مَسألةٍ، ولا يَقطَعُ شَوقَه عَن تلك القاعِدةِ حَتَّى يَعلَمَ: هَل تلك المَسألةُ يَجِبُ سَحبُ القاعِدةِ عليها أو تَمتازُ بما ثَبَتَ له تَخصيصُ حُكمٍ -في زيادةٍ أو نَقصٍ- وفي هذا تَتَفاوتُ رُتَبُ الفُقَهاءِ؛ فكَم مِن واحِدٍ مُتَمَسِّكٍ بالقَواعِدِ قَليلِ المُمارَسةِ للفُروعِ ومَآخِذِها يَزِلُّ في أدنى المَسائِلِ! وكَم مِن آخَرَ مُستَكثِرٍ في الفُروعِ ومَدارِكِها قد أفرَغَ جَمامَ ذِهنِه فيها غَفَلَ عَن قاعِدةٍ كُلِّيَّةٍ، فتَخَبَّطَت عليه تلك المَدارِكُ وصارَ حَيرانَ! ومَن وفَّقَه اللهُ بمَزيدٍ مِنَ العِنايةِ جَمَعَ له بَينَ الأمرَينِ؛ فيَرى الأمرَ رَأيَ العَينِ) [149] ((الأشباه والنظائر)) (1/ 308- 309). .
كما تَرجِعُ أهَمِّيَّةُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ أيضًا إلى كَونِها تُعطي صورةً للأهدافِ العامَّةِ للشَّريعةِ ومَقاصِدِها ومَضامينِها، فمَضمونُ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ يُبرِزُ المَقاصِدَ والغاياتِ، مِثلُ "المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسيرَ"، أو "الرُّخَصُ لا تُناطُ بالمَعاصي"، أو "تَصَرُّفُ الإمامِ على الرَّعيَّةِ مَنوطٌ بالمَصلَحةِ"، وغَيرِ ذلك مِنَ الفَوائِدِ والمَنافِعِ التي تَحصُلُ مِن دِراسةِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ [150] يُنظر: ((مقاصد الشريعة الإسلامية)) لابن عاشور (3/ 10- 11)، ((المفصل)) ليعقوب الباحسين (ص: 39)، ((الممتع)) لمسلم الدوسري (ص: 67)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/ 28). .

انظر أيضا: