موسوعة القواعد الفقهية

المَبحَثُ الثَّانيَ عَشَرَ: العَلاقةُ بَينَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ والفُروقِ الفِقهيَّةِ


عِلمُ الفُروقِ الفِقهيَّةِ: هو الفَنُّ الذي يُذكَرُ فيه الفَرقُ بَينَ النَّظائِرِ المُتَّحِدةِ تَصويرًا ومَعنًى، المُختَلِفةِ حُكمًا وعِلَّةً [132] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 7). .
وقد عَدَّ الزَّركَشيُّ عِلمَ الفُروقِ نَوعًا مِن أنواعِ الفِقهِ، فقال: (اعلَمْ أنَّ الفِقهَ أنواعٌ: ... والثَّاني: مَعرِفةُ الجَمعِ والفَرقِ، وعليه جُلُّ مُناظَراتِ السَّلَفِ حَتَّى قال بَعضُهم: الفِقهُ فرقٌ وجَمعٌ) [133] ((المنثور)) (1/69). . كما ضَمَّنَه ابنُ نُجَيمٍ كِتابَه (الأشباهُ والنَّظائِرُ) حَيثُ جَعَلَه مُشتَمِلًا على سَبعةِ فُنونٍ، الثَّالِثُ مِنها: "مَعرِفةُ الجَمعِ والفَرقِ " [134] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 15). . والمُرادُ بمَعرِفةِ الجَمعِ والفَرقِ: مَعرِفةُ ما يَجتَمِعُ مَعَ آخَرَ في حُكمٍ فأكثَرَ ويَفتَرِقُ مِنه في حُكمٍ آخَرَ فأكثَرَ، كالذِّمِّيِّ والمُسلِمِ، بأنَّهما يَجتَمِعانِ في أحكامٍ ويَفتَرِقانِ في أحكامٍ [135] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/38). .
قال القَرافيُّ: (ذِكرُ الفَرقِ وسيلةٌ لتَحصيلِهِما، وإن وقَعَ السُّؤالُ عَنِ الفَرقِ بَينَ القاعِدَتَينِ فالمَقصودُ تَحقيقُهما، ويَكونُ تَحقيقُهما بالسُّؤالِ عَنِ الفَرقِ بَينَهما أولى مِن تَحقيقِهما بغَيرِ ذلك) [136] ((الفروق)) (1/3). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (حَيثُ جاءَتِ الشَّريعةُ باختِصاصِ بَعضِ الأحكامِ بحُكمٍ يُفارِقُ به نَظائِرَه، فلا بُدَّ أن يَختَصَّ ذلك النَّوعُ بوصفٍ يوجِبُ اختِصاصَه بالحُكمِ، ويَمنَعُ مُساواتَه لغَيرِه. لكِنَّ الوصفَ الذي اختَصَّ به ذلك النَّوعُ قد يَظهَرُ لبَعضِ النَّاسِ) [137] ((إعلام الموقعين)) (2/234). .
والمُتابِعُ لنَشأةِ عِلمِ الفُروقِ الفِقهيَّةِ يَجِدُ التَّلازُمَ بَينَه وبَينَ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ؛ فقد نَشَأ عِلمُ الفُروقِ الفِقهيَّةِ مُقارِنًا أو مُقارِبًا لنُشوءِ القَواعِدِ والضَّوابِطِ الفِقهيَّةِ؛ إذ كما يَنظُرُ العالِمُ إلى الفُروعِ التي تَتَشابَه في أحكامِها، فإنَّه يَنقدِحُ عِندَه ذلك فيما يُفارِقُ غَيرَه مِنَ الأحكامِ، فحينَ نَشِطَت حَرَكةُ التَّدوينِ في الفِقهِ، وظَهَرَتِ المَباحِثُ المُفرَدةُ ذاتُ المَوضوعِ الواحِدِ، واتَّجَهَ العُلَماءُ إلى التَّأصيلِ واستِنباطِ القَواعِدِ، كانَتِ الظُّروفُ مُهَيَّأةً للتَّدوينِ في الفُروقِ [138] يُنظر: ((الفروق الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 61، 66)، ويَتَّضِحُ هذا المَنهَجُ في بَيانِ القَرافيِّ لمَنهَجِه في تَصنيفِ كِتابِه (الفُروقُ) فقد قال: (جَعَلتُ مَبادِئَ المَباحِثِ في القَواعِدِ بذِكرِ الفُروقِ والسُّؤالِ عَنها بَينَ فرعَينِ أو قاعِدَتَينِ، فإن وقَعَ السُّؤالُ عَنِ الفَرقِ بَينَ الفَرعَينِ فبَيانُه بذِكرِ قاعِدةٍ أو قاعِدَتَينِ يَحصُلُ بهما الفَرقُ، وهما المَقصودَتانِ، وذِكرُ الفَرقِ وسيلةٌ لتَحصيلِهما. وإن وقَعَ السُّؤالُ عَنِ الفَرقِ بَينَ القاعِدَتَينِ فالمَقصودُ تَحقيقُهما، ويَكونُ تَحقيقُهما بالسُّؤالِ عَنِ الفَرقِ بَينَهما أولى مِن تَحقيقِهما بغَيرِ ذلك؛ فإنَّ ضَمَّ القاعِدةِ إلى ما يُشاكِلُها في الظَّاهرِ ويُضادُّها في الباطِنِ أَولى؛ لأنَّ الضِّدَّ يُظهِرُ حَسَنةَ الضِّدِّ، وبِضِدِّها تَتَمَيَّزُ الأشياءُ... وعَوائِدُ الفُضَلاءِ وضعُ كُتُبِ الفُروقِ بَينَ الفُروعِ، وهذا في الفُروقِ بَينَ القَواعِدِ وتَلخيصِها). ((الفروق)) (3 - 4). .
وهذا النَّمَطُ مِنَ الكُتُبِ لم يَكُنْ تَأليفًا خاصًّا بالفُروقِ، وإنَّما هو مُؤَلَّفاتٌ في الأشباهِ والنَّظائِرِ، أيِ الكُتُبُ الجامِعةُ لفُنونٍ مُتَعَدِّدةٍ، تَرتَبِطُ فيما بَينَها برِباطٍ مُعَيَّنٍ. وفي مِثلِ هذه الكُتُبِ تَرِدُ الفُروقُ على صورٍ مُتَعَدِّدةٍ، تارةً بذِكرِ القَواعِدِ أوِ الضَّوابِطِ، أوِ المَسائِلِ، وما يُستَثنى مِنها، وتارةً بإدخالِ طائِفةٍ مِن فُروقِ المَسائِلِ تَحتَ عَناوينِ الفُروقِ، أوِ النَّظائِرِ، وتارةً بطُرُقٍ أُخرى غَيرِ ذلك [139] يُنظر: ((الفروق الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 113). .
وقد بَرَزَت هذه المَنهَجيَّةُ في ذِكرِ الفُروقِ الفِقهيَّةِ في ضِمنِ الكُتُبِ المُؤَلَّفةِ في القَواعِدِ، أوِ الأشباهِ والنَّظائِرِ، حَيثُ تُذكَرُ الفُروقُ بَعدَ ذِكرِ القَواعِدِ أوِ الضَّوابِطِ، ثُمَّ ذِكرِ ما يُستَثنى مِنَ الدُّخولِ في تلك القَواعِدِ، فالأساسُ هو ذِكرُ القاعِدةِ، أوِ الضَّابِطِ الفِقهيِّ، ثُمَّ ذِكرُ الجُزئيَّاتِ المُستَثناةِ مِن ذلك، وهذا الاتِّجاهُ مَوجودٌ في كُتُبِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ بوجهٍ عامٍّ [140] يُنظر: ((الفروق الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 76، 106). .
وتَتَّفِقُ الفُروقُ الفِقهيَّةُ مَعَ القَواعِدِ مِن حَيثُ إنَّ كُلًّا مِنهما يَتَعَلَّقُ بالفُروعِ الفِقهيَّةِ، إلَّا أنَّ الهَدَفَ مِن عِلمِ الفُروقِ الفِقهيَّةِ مَعرِفةُ أوجُهِ التَّوافُقِ بَينَ هذه الفُروعِ أوِ التَّفريقِ بَينَها بسَبَبِ الدَّليلِ أوِ العِلَّةِ. بخِلافِ القَواعِدِ الفِقهيَّةِ؛ فإنَّها تُرَكِّزُ على ضَبطِ الفُروعِ المُتَشابِهةِ ووضعِها تَحتَ حُكمٍ واحِدٍ، فهيَ جامِعةٌ لشَتاتِ النَّظائِرِ المُتَشابِهةِ تَحتَ مَعنًى واحِدٍ [141] يُنظر: ((الفروق الفقهية عند الإمام اين قيم الجوزية)) للأفغاني (1/187). .
وتَكمُنُ أهَمِّيَّةُ الفَرقِ حينَ يَكونُ مُؤَثِّرًا في الحُكمِ، قال ابنُ القَيِّمِ: (فهَكَذا تَكونُ الفُروقُ المُؤَثِّرةُ في الأحكامِ لا الفُروقُ المَذهَبيَّةُ التي إنَّما تُفيدُ ضابِطَ المَذهَبِ) [142] ((بدائع الفوائد)) (4/1535). .
وتَتَّضِحُ عَلاقةُ التَّلازُمِ بَينَهما مِن أنَّ الماهِرَ به يَقِفُ على حَقائِقِ الفِقهِ ومَدارِكِه وأسرارِه، فلا تَشتَبِهُ عليه المَسائِلُ الفِقهيَّةُ، وهيَ ذاتُها ثَمَرةُ العِلمِ بالقَواعِدِ الفِقهيَّةِ، كما يَظهَرُ ذلك مِن قَولِ أبي محمَّدٍ الجُوَينيِّ: (إنَّ مَسائِلَ الشَّرعِ رُبَّما تَتَشابَهُ صورُها، وتَختَلِفُ أحكامُها؛ لعِلَلٍ أوجَبَتِ اختِلافَ الأحكامِ، ولا يَستَغني أهلُ التَّحقيقِ عَنِ الاطِّلاعِ على تلك العِلَلِ التي أوجَبَتِ افتِراقَ ما افتَرَقَ مِنها، واجتِماعَ ما اجتَمَعَ منها) [143] ((الجمع والفرق)) (1/37). . وأيضًا قَولُ السُّيوطيِّ: (اعلَمْ أنَّ فنَّ الأشباهِ والنَّظائِرِ فنٌّ عَظيمٌ، به يُطَّلَعُ على حَقائِقِ الفِقهِ ومَدارِكِه، ومَآخِذِه وأسرارِه، ويَتَمَهَّرُ في فهمِه واستِحضارِه، ويَقتَدِرُ على الإلحاقِ والتَّخريجِ، ومَعرِفةِ أحكامِ المَسائِلِ التي ليسَت بمَسطورةٍ، والحَوادِثِ والوقائِعِ التي لا تَنقَضي على مَمَرِّ الزَّمانِ؛ ولِهذا قال بَعضُ أصحابِنا: الفِقهُ مَعرِفةُ النَّظائِرِ) [144] ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 6). .
ومِن هنا تَظهَرُ أهَمِّيَّةُ هذا العِلمِ؛ حَيثُ إنَّه يوقِفُ المُتَعَلِّمَ على أسرارِ الفُروقِ بَينَ أحكامِ المَسائِلِ الفِقهيَّةِ المُتَشابِهةِ، بمَعرِفَتِه الفُروقَ بَينَ القَواعِدِ والضَّوابِطِ التي بُنيَت عليها هذه المَسائِلُ. وبِذلك يُجَنَّبُ المُتَعَلِّمُ الخَلطَ بَينَ المَسائِلِ، والوُقوعَ في الالتِباسِ والخَطَأِ في الأحكامِ؛ بسَبَبِ جَمعِه مِن بَينِ مَسائِلَ يَظُنُّ أنَّها في ضِمنِ قاعِدةٍ أو ضابِطٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أنَّها مُتَنَوِّعةُ القَواعِدِ والضَّوابِطِ [145] يُنظر: ((الفروق الفقهية)) ليعقوب الباحسين (ص: 124). ويُنظر في فوائد علم الفروق: ((الفروق)) للسامري (ص: 115)، ((مطالع الدقائق)) للإسنوي (2/7). .

انظر أيضا: