موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: الحَرامُ لا يُفسِدُ الحَلالَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ: "الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ" [207] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/215)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (1/115). . ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ "ليسَ لحَرامٍ حُرمةٌ في الحَلالِ" [208] ((المدونة)) لمالك (2/ 197). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
رَبَطَ الشَّرعُ أفعالًا بأفعالٍ، ورَتَّبَ عليها أحكامًا مُختَلفةً؛ فالشَّيءُ قد يَكونُ مُباحًا ثُمَّ يَنقَلبُ حَرامًا بسَبَبِ وُقوعِ فِعلٍ، كَما في الجَمعِ بَينَ الأُختَينِ، تَكونُ كُلٌّ مِنهما حَلالًا للشَّخصِ، وبمُجَرَّدِ أن يَنكِحَ إحداهما تَحرُمُ عليه الأُخرى، فيَنقَلبُ الحَلالُ حَرامًا بسَبَبِ فِعلٍ حَدَثَ، وهذا الفِعلُ هنا هو النِّكاحُ، وهو فِعلٌ مَشروعٌ في أصلِه. والأصلُ أنَّ الأشياءَ التي أباحَها الشَّرعُ لا تَحرُمُ بسَبَبِ فِعلٍ حَرامٍ، وإن كانت قد تَحرُمُ بسَبَبِ فِعلٍ حَلَالٍ، كَما في المِثالِ السَّابقِ، فلا يَجوزُ أن يُقاسَ الحَرامُ بالحَلالِ، أي أنَّ النَّصَّ لمَّا كان وارِدًا في تَأثيرِ الحَلالِ في تَحريمِ الحَلالِ كان الحُكمُ مَقصورًا عليه، ولم يَكُنِ الحَرامُ مُلحَقًا به؛ لأنَّ حُكمَ الحَرامِ مُخالِفٌ لحُكمِ الحَلالِ، وهذا هو مَعنى أنَّ الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ، وتُعتَبَرُ هذه القاعِدةُ مُكملةً لقاعِدةِ (الباطِلُ لا حُكمَ لهـ) [209] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/215، 217)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (1/115). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومِن ذلك:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اشتَرى مِن يَهوديٍّ طَعامًا إلى أجَلٍ ورَهَنه دِرعًا له مِن حَديدٍ )) [210] أخرجه البخاري (2509)، ومسلم (1603) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اليَهودَ يَتَعامَلونَ بالرِّبا والبُيوعِ المُحَرَّمةِ، ولعَلَّ أكثَرَ أموالِهم مِنها، ومَعَ ذلك عامَلهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معاملةً حَلالًا بالشِّراءِ مِنهم. فالمالُ الحَرامُ لم يُحَرِّمِ المُعامَلةَ الحَلالَ [211] يُنظر: ((معلمة زايد)) (8/382). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وفي الحَديثِ جَوازُ مُعامَلةِ الكُفَّارِ فيما لمَ يَتَحَقَّقْ تَحريمُ عَينِ المُتَعامَلِ فيه، وعَدَمُ الاعتِبارِ بفسادِ مُعتَقَدِهم ومُعامَلاتِهم فيما بَينَهم، واستُنبِطَ مِنه جَوازُ مُعامَلةِ مَن أكثَرُ مالِه حَرامٌ) [212] ((فتح الباري)) (5/ 141). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو أنَّ إنسانًا زنا بامرَأةٍ فلا تَحرُمُ عليه أُصولُها وفُروعُها عِندَ الشَّافِعيَّةِ؛ لأنَّ الحَرامَ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ [213] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/215)، ((بحر المذهب)) للروياني (9/212)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/262). وخالف الحَنَفيَّةُ والحَنابلةُ، وقالوا: يَحرُمُ عليه أُصولُها وفُروعُها. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/204)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (5/164). .
2- نِكاحُ امرَأةٍ خامِسةٍ بَعدَ زَوجاتِه الأربَعِ لا يُحَرِّمُ نِكاحَ الأربَعِ قَبلَها. وذلك استنادًا للقاعِدةِ، فارتِكابُ الحَرامِ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ الذي كان قَبلَه [214] يُنظر: ((شرح سنن ابن ماجهـ)) للسيوطي وغيره (ص: 145). .
3- نِكاحُ الأُختِ الأُخرى لا يُحَرِّمُ الأُختَ الأولى؛ وذلك لأنَّ ارتِكابَ الحَرامِ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ الذي كان قَبلَه [215] يُنظر: ((شرح سنن ابن ماجهـ)) للسيوطي وغيره (ص: 145). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ أنَّه يُعطى أحيانًا للحَلالِ حُكمُ الحَرامِ تغليبًا، ومِن ذلك:
1- إذا أصابَ صَيدًا وغاب ثُمَّ وجَدَه مَيِّتًا وليسَ فيه أثَرُ غَيرِ سَهمِه، فهذا مُحَرَّمٌ على قَولٍ، وقيل بالحِلِّ [216] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/ 118). .
2- الزِّنا ببنتِ المَرأةِ يُحَرِّمُ أُمَّها [217] يُنظر: ((شرح سنن ابن ماجهـ) للسيوطي وغيره (ص: 145). .

انظر أيضا: