موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّالثُ: إذا بَطَل الشَّيءُ بَطَل ما في ضِمنِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "إذا بَطَل الشَّيءُ بَطَل ما في ضِمنِه" [224] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 338)، ((درر الحكام)) لعلى حيدر (1/54). ، وتُعرَفُ أيضًا بـ"إذا لم يَثبُتْ ما هو الأصلُ لا يَثبُتُ ما في ضِمنِه" [225] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (17/37). ، و"إذا بَطَل المُتَضَمِّنُ -بالكَسرِ- بَطَل المُتَضَمَّنُ -بالفتحِ" [226] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 338). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الشَّيءُ الذي ثَبَتَ ضِمنًا لشَيءٍ -سَواءٌ كان تَصَرُّفًا أو عَقدًا- إذا بَطَل مُتضَمِّنُه فإنَّه يَبطُلُ ولا يَبقى له الحُكمُ، سَواءٌ كان المُتَضَمِّنُ جُزءًا مِنَ المُتَضَمَّنِ أو لازِمًا له أو مُرَتَّبًا عليه ترَتُّبَ المُسَبَّبِ على السَّبَبِ، فإنَّه إذا فسَدَ المُتَضَمِّنُ فسَدَ ما تَضمَّنه، ولا يَصِحُّ البناءُ على ما بَطَل، وهذه القاعِدةُ تُعتَبرُ تَطبيقًا للقاعِدةِ الأُمِّ: (الباطِلُ لا حُكمَ لهـ) [227] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (2/91)، ((البناية)) للعيني (9/246)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 338)، ((درر الحكام)) لعلى حيدر (1/54)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 342). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والمَعقولِ.
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هرَيرةَ وزَيدِ بنِ خالدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ أعرابيًّا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، اقضِ بَينَنا بكِتابِ اللهِ، فقامَ خَصمُه فقال: صَدَقَ، اقضِ بَينَنا بكِتابِ اللهِ، فقال الأعرابيُّ: إنَّ ابني كان عَسيفًا [228] أي: أجيرًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 206). على هذا، فزَنى بامرَأتِه، فقالوا لي: على ابنِك الرَّجمُ، ففدَيتُ ابني مِنه بمِائةٍ مِنَ الغَنَمِ ووليدةٍ، ثُمَّ سَألتُ أهلَ العِلمِ، فقالوا: إنَّما على ابنِك جَلدُ مِائةٍ وتَغريبُ عامٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لأقضيَنَّ بَينَكُما بكِتابِ اللهِ: أمَّا الوليدةُ والغَنَمُ فرَدٌّ عليك، وعلى ابنِك جَلدُ مِائةٍ وتَغريبُ عامٍ... )) [229] أخرجه البخاري (2695، 2696) واللفظ له، ومسلم (1697، 1698). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الصُّلحَ لمَّا كان باطِلًا أبطَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما تضَمَّنه مِنَ العِوَضِ، وهو الغَنَمُ هنا، وأمَر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإعادَتِها [230] يُنظر: ((المتواري على تراجم أبواب البخاري)) لابن المنير (ص: 311)، ((العدة)) لابن العطار (3/1453)، ((رياض الأفهام)) للخمي (5/204)، ((الكوكب الدراري)) للكرماني (12/7). .
2- مِنَ المَعقولِ:
وهو أنَّ ما في ضِمنِ الشَّيءِ تابعٌ ولازِمٌ له، فإذا بَطَل الشَّيءُ بَطَل ما هو مِن تَوابعِه ولوازِمِه؛ إذ لا يَثبُتُ التَّابعُ مِن حَيثُ هو تابعٌ مَعَ انتِفاءِ مَتبوعِه [231] يُنظر: ((المفصل)) للباحسين (ص: 528- 529). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو قال الموصي: الوصيَّةُ التي أوصَيتُ بها لفُلانٍ هيَ لعَمرِو بنِ فُلانٍ، وعَمرٌو حَيٌّ يَومَ قال الموصي هذه المَقالةَ، كان ذلك رُجوعًا عن وصيَّتِه الأولى؛ لأنَّ الوصيَّةَ لعَمرٍو وقَعَت صحيحةً؛ لأنَّه كان حَيًّا وقتَ كَلامِ الوصيَّةِ، فيَصِحُّ النَّقلُ إليه، فصَحَّ الرُّجوعُ، ولو كان عَمرٌو مَيِّتًا يَومَ كَلامِ الوصيَّةِ لم تَصِحَّ الوصيَّةُ؛ لأنَّ المَيِّتَ ليسَ بمَحَلٍّ للوصيَّةِ، فلم يَصِحَّ إيجابُ الوصيَّةِ له، فلم يَثبُتْ ما في ضِمنِه، وهو الرُّجوعُ [232] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/380). .
2- إذا اشتَرى شَيئًا مِمَّن أُكرِهَ على البَيعِ، وتَصَرَّف فيه المُشتَري تَصَرُّفًا يَقبَلُ النَّقضَ، ثُمَّ زال الإكراهُ، فالبائِعُ له نَقضُ تَصَرُّفاتِ المُشتَري [233] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 274). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
ذَكَرَ بَعضُ العُلماءِ صورًا مُستَثناةً مِن هذه القاعِدةِ؛ مِنها:
1- إذا تَصالحَ الشَّفيعُ [234] الشُّفعة هيَ: انتِزاعُ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/232). والمُشتَري ببَدَلٍ مَعلومٍ على حَقِّ الشُّفعةِ، فالصُّلحُ غَيرُ صحيحٍ، ولكِن لا يَسقُطُ حَقُّ الشَّفيعِ في الشُّفعةِ، فهنا مَعَ بُطلانِ الصُّلحِ لم يَبطُلْ إسقاطُ الشُّفعةِ الذي هو مِن ضِمنِ الصُّلحِ، كَما تَقتَضي القاعِدةُ [235] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 339)، ((درر الحكام)) لعلى حيدر (1/55). .
2- الوكيلُ إذا تَعَدَّى فإنَّ وَكالتَه لا تَنفسِخُ، بَل تَزولُ أمانَتُه ويَصيرُ ضامِنًا؛ ولهذا لو باعَ بدونِ ثَمَنِ المِثلِ صَحَّ، وضَمِنَ النَّقصَ؛ لأنَّ الوَكالةَ إذنٌ في التَّصَرُّفِ مَعَ ائتِمانٍ، فإذا زال أحَدُهما لم يَزُلِ الآخَرُ [236] يُنظر: ((القواعد)) لابن رجب (1/299). ويُنظر أيضًا: ((المنثور)) للزركشي (3/15). .

انظر أيضا: