المَبحَثُ الثَّالثُ: قاعِدةُ الأصلِ اختِلافُ حُكمِ التَّعريضِ والتَّصريحِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلت هذه القاعِدةُ بصيغةِ: "الأصلُ اختِلافُ حُكمِ التَّعريضِ والتَّصريحِ"
[38] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/132). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.التَّعريضُ بالشَّيءِ هو التَّعبيرُ عنه بما يَحتَمِلُه ويَحتَمِلُ غَيرَه، وهذا التَّعريضُ يَختَلفُ في الحُكمِ عنِ التَّصريحِ؛ فالأثَرُ المُتَرَتِّبُ عنهما مُختَلِفٌ، فالأصلُ أن لا يَتَنَزَّلَ التَّعريضُ مَنزِلةَ التَّصريحِ بالحُكمِ، فلا يَكونُ التَّعريضُ بعَقدٍ مِنَ العُقودِ مُنشِئًا لهذا العَقدِ، بخِلافِ التَّصريحِ، وليسَ مَعنى هذا أنَّ التَّعريضَ لا يُرَتَّبُ عليه حُكمٌ، بَل قد يَتَرَتَّبُ عليه حُكمٌ، كمَن عَرَّضَ بالقَذفِ، فقد يُعَزِّرُه الإمامُ، لكِنَّه لا يَكونُ كالتَّصريحِ في الحُكمِ
[39] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/129-131)، ((تفسير الإمام الشافعي)) جمع الفران (1/391)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/132)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (15/117)، ((تفسير القرطبي)) (3/188)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/483،482)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 762). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة: 235] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الآيةَ أباحَتِ التَّعريضَ بخِطبةِ المُعتَدَّةِ مِن وفاةِ، والإجماعُ قائِمٌ على حُرمةِ التَّصريحِ بالخِطبةِ؛ فثَبَتَ به التَّفريقُ بَينَ التَّصريحِ والتَّعريضِ
[40] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/129-131)، ((تفسير الطبري)) (5/95)، ((تفسير السمعاني)) (1/239)، ((تفسير القرطبي)) (3/188). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، وُلدَ لي غُلامٌ أسودُ! فقال: هَل لك مِن إبِلٍ؟ قال: نَعَم. قال: ما ألوانُها؟ قال: حُمرٌ. قال: هَل فيها مِن أورَقَ [41] قال النَّوويُّ: (أمَّا الأورَقُ فهو الذي فيه سَوادٌ ليسَ بصافٍ، ومِنه قيلَ للرَّمادِ: أورَقُ، وللحَمامةِ: ورقاءُ، وجَمعُه وُرْقٌ، بضَمِّ الواوِ وإسكانِ الرَّاءِ، كَأحمَرَ وحُمْر). ((شرح مسلم)) (10/133). ؟ قال: نَعَم. قال: فأنَّى ذلك؟ قال: لعَلَّه نَزَعَه عِرقٌ [42] قال النَّوويُّ: (المُرادُ بالعِرْقِ هنا: الأصلُ مِنَ النَّسَبِ؛ تَشبيهًا بعِرقِ الثَّمَرِةِ، ومِنه قَولُهم: فُلانٌ مُعْرِقٌ في النَّسَبِ والحَسَبِ، وفي اللُّؤمِ والكَرَمِ، ومَعنى نَزَعه: أشبَهَه واجتَذَبَه إليه، وأظهَرَ لونَه عليهـ). ((شرح مسلم)) (10/133). . قال: فلعَلَّ ابنَك هذا نَزَعَه عِرقٌ )) [43] أخرجه البخاري (5305) واللَّفظُ له، ومسلم (1500). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الرَّجُلَ عَرَّضَ بنَفيِ وَلَدِه بَينَ يَدَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكَأنَّه يَرمي زَوجَتَه بالزِّنا، ولم يَعتَبرِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك كالتَّصريحِ؛ إذ لوِ اعتَبَرَه لكان مُلاعِنًا، ولفرَّقَ بَينَهما
[44] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/461)، ((شرح النووي على مسلم)) (10/134). .
3- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن نَقَله: الجَصَّاصُ
[45] قال: (لا خِلافَ أنَّ العُقودَ المُقتَضيةَ للجَوابِ لا تَصِحُّ بالتَّعريضِ، وكذلك الإقراراتُ لا تَصِحُّ بالتَّعريضِ، وإن لم تَقتَضِ جَوابًا مِنَ المُقرِّ لهـ). ((أحكام القرآن)) (2/129-131). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- التَّعريضُ بالقَذفِ، كَأن يَقولَ الرَّجُلُ لمَن يُخاطِبُه: "أمَّا أنا فلستُ بزانٍ"، فيُحتَمَلُ أنَّه يَقصِدُ الإشارةَ إلى رَميِ المُخاطَبِ بالزِّنا، فلا يُعَدُّ هذا قَذفًا، ولا يُحَدُّ قائِلُه على ذلك
[46] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/5955)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/131)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (15/117)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/519)، ((شرح النووي على مسلم)) (10/134)، ((المغني)) لابن قدامة (9/89). ، خِلافًا لمالِكٍ
[47] يُنظر: ((المدونة)) لمالك (4/494). .
2- الإقراراتُ لا تَثبُتُ بالتَّعريضِ وتَثبُتُ بالتَّصريحِ
[48] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/129-131). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.لمَّا كانت صيغةُ القاعِدةِ بلفظِ "الأصلُ اختِلافُ حُكمِ التَّعريضِ والتَّصريحِ" دَلَّ على أنَّ هناكَ صورًا تَخرُجُ عن هذا الأصلِ لاعتِباراتٍ تَضَمَّنَتها قَواعِدُ تَداوَلها أهلُ العِلمِ، ومِن ذلك:
1- "الثَّابتُ بالدَّلالةِ كالثَّابتِ بالصَّريحِ" [49] يُنظر: ((الكافي شرح البزدوي)) للسغناقي (3/1471)، ((العناية)) للبابرتي (6/256)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (1/336)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/123،122)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 682)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (6/203). .فمِن مَقاصِدِ الألفاظِ والعِباراتِ الدَّلالةُ على إرادةِ المُكَلَّفِ وقَصدِه؛ فالمَرءُ إنَّما يُعَبِّرُ عن إرادَتِه بلفظٍ يَستَخدِمُه، وبناءً على ذلك يَثبُتُ الحُكمُ الشَّرعيُّ الذي يَدُلُّ عليه اللَّفظُ، إلَّا أنَّ الدَّلالةَ مِن حالِ الإنسانِ أو إشارَتِه أوِ العُرفِ المُنتَشِرِ قد تَدُلُّ على إرادَتِه وقَصدِه، كَما يَدُلُّ عليه صَريحُ لَفظِه، وحينَئِذٍ يَثبُتُ بهذه الدَّلالةِ ما يَثبُتُ بصَريحِ اللَّفظِ بدونِ تَفريقٍ، فكَما تُعرَفُ نيَّتُه وقَصدُه بصَريحِ لفظِه تُعرَفُ أيضًا بدَلالةِ حالِه، فإذا وُجِدَ ما يَدُلُّ على إرادةِ المُكَلَّفِ اعتُبِرَ كالتَّصريحِ مِنه في إفادةِ الحُكمِ
[50] يُنظر: ((الكافي شرح البزدوي)) للسغناقي (3/1471)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/222)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/161)، ((حاشية الشلبي على تبيين الحقائق)) (6/202). .
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك:
إذا اشتَرى رَجُلٌ سِلعةً، كسَيَّارةٍ مثلًا، ووَجَدَ بها عيبًا، فله رَدُّها بالعَيبِ، إلَّا أن يوجَدَ مِنه ما يَدُلُّ على الرِّضا مِن تَصَرُّفٍ في المَبيعِ كَتَصَرُّفاتِ المُلَّاكِ بَعدَ عِلمِه بالعَيبِ؛ لأنَّه دَليلٌ على الرِّضا، وهذه الدَّلالةُ مُنَزَّلةٌ مَنزِلةَ التَّصريحِ
[51] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (7/460)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/291)، ((الذخيرة)) للقرافي (5/103)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/366). .
2- "الإذنُ دَلالةً بمَنزِلةِ الإذنِ إفصاحًا" [52] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/253). . ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ "الإذنُ العُرفيُّ يَقومُ مَقامَ الإذنِ الحَقيقيِّ" [53] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/350). .والإذنُ بفِعلِ شَيءٍ أو تَناوُلِه قد يَكونُ باللَّفظِ، وقد يَكونُ بدَلالةِ الحالِ والعُرفِ، وتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الإذنَ بدَلالةِ الحالِ والعُرفِ ونَحوِهما كالإذنِ بصَريحِ اللَّفظِ في بناءِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ عليه
[54] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/146،145، 160)، ((المغني)) لابن قدامة (4/249، 350)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/190)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 608)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 146)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (12/438). .
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك:
جَوازُ الشُّربِ مِن برَّاداتِ المياهِ المَوضوعةِ على الطُّرُقاتِ، وإن لم يَعلَمِ الشَّارِبُ إذنَ أربابِها في ذلك لفظًا؛ اعتِمادًا على دَلالةِ الحالِ
[55] يُنظر: ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (1/53)، ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 166)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/122). .
ولكِن يُعتَبَرُ الإذنُ دَلالةً كالإذنِ صَراحةً إذا لم يَسبِقْه نَهيٌ صَريحٌ عنِ الفِعلِ، فإن سُبِق فلا اعتِبارَ بالإذنِ دَلالةً، كَما لو دَخَل رَجُلٌ بَيتَ آخَرَ فهو مَأذونٌ دَلالةً بشُربِ الماءِ بالإناءِ المَخصوصِ له. وإذا سَقَطَ مِن يَدِه وهو يَشرَبُ وانكَسَرَ فلا يَلزَمُه الضَّمانُ. ولكِن إذا أخَذَه بيَدِه مَعَ أنَّ صاحِبَ البَيتِ نَهاه بقَولِه: لا تَمَسَّه، فسَقَطَ وانكَسَرَ، يَصيرُ ضامِنًا
[56] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/2)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 146). ، وكَما لو مَنَعَ الرَّجُلُ زَوجتَه مِنَ التَّصَدُّقِ مِن مالِه، وقال: لا تَتَصَدَّقي بشَيءٍ، ولا تَتَبَرَّعي مِن مالي بقَليلٍ ولا كَثيرٍ، لم يَجُزْ لها ذلك؛ لأنَّ المَنعَ الصَّريحَ نَفيٌ للإذنِ العُرفيِّ
[57] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/350). .