جاءَتِ الشَّريعةُ بصيانةِ الأعراضِ وعَدَمِ الطَّعنِ فيها، خُصوصًا بَينَ الزَّوجَينِ؛ لِما في ذلك مِن فسادِ عَلاقةِ الزَّواجِ، ومِن ذلك أن يَقذِفَ الرَّجُلُ زَوجَتَه أو يَشُكَّ في أحَدِ أبنائِه أنَّه ليس ابنَه لوُجودِ بَعضِ الاختِلافِ في اللَّونِ أوِ الصِّفاتِ؛ فهذه أُمورٌ لا يُلتَفَتُ لَها في النَّسَبِ، بَل الأولادُ يُنسَبونَ لأبيهم ولا عِبرةَ بألوانِهم؛ فإنَّ الولَدَ للفِراشِ، والشَّارِعُ حَريصٌ على إلحاقِ الأنسابِ ووَصلِها، وعَلى المَرءِ أن يَبتَعِدَ عن مِثلِ هذه الوساوِسِ والشُّكوكِ، وقد جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسوَل اللهِ، وُلدَ لي غُلامٌ أسودُ، أي: استَغرَبَ كَيف جاءَه هذا الغُلامُ الأسودُ، وهو أبيَضُ وزَوجَتُه بَيضاءُ! ومَقصودُ الرَّجُلِ التَّعريضُ بأنَّ الولَدَ ليس ولَدَه، ويُريدُ أن يَنفيَه عنه، ولَكِنَّه لَم يُصَرِّحْ بذلك فلَم يَنفِه بلسانِه. فأرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقَرِّبَ له المَعنى بمِثالٍ ضَربه له، فقال: هَل لَك مِن إبلٍ؟ أي: هَل يوجَدُ مَعَك إبِلٌ تَملِكُها؟ فقال الرَّجُلُ: نَعَم. فقال رَسولُ اللهِ: ما ألوانُها؟ أي: هذه الإبلُ التي مَعَك. فقال الرَّجُلُ: حُمرٌ. جَمعُ أحمَرَ. فقال له رَسولُ اللهِ: هَل فيها مِن أورَقَ؟ أي: هَل هذه الإبِلُ الحُمرُ فيها جَمَلٌ أورَقُ، وهو الذي فيه سَوادٌ، وليس بخالصٍ؟ فقال الرَّجُل: نَعَم، أي: يوجَدُ فيها ذلك. فقال له رَسولُ اللهِ: فأنَّى ذلك؟! أي: مِن أينَ جاءَت هذه الإبِلُ الورقاءُ، وإبِلُك كُلُّها حُمرٌ؟! فقال الرَّجُلُ: لَعَلَّه نَزَعَه عِرقٌ! والمُرادُ بالعِرقِ هنا الأصلُ مِنَ النَّسَبِ تَشبيهًا بعِرقِ الثَّمَرةِ، والمَعنى: جَذَبَه وغَلَبَ عليه لَونُ إحدى الإبِلِ في أصلِ نَسَبِها وأظهَرَ لَونَه عليه فأشبَهَه. فعِندَ ذلك أخبَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَلامٍ مِن نَفسِ كَلامِه عنِ الإبِلِ، فقال له: فلَعَلَّ ابنَك هذا نَزَعَه عِرقٌ! أي: ولَعَلَّ ابنَك هذا الذي هو أسودُ يَكونُ جَذَبَه وغَلَبَ عليه لَونُ أحَدِ أُصولِه التي لا تَعلَمُها مِن ناحيَتِك أو ناحيةِ أُمِّه، فظهَرَ لَونُه عليه فأشبَهَه.
وفي الحَديثِ أنَّ التَّعريضَ بالقَذفِ ليس قَذفًا.
وفيه أنَّ الولَدَ يُلحَقُ بأبَويه، ولَو خالَف لَونُه لَونَهما.
وفيه الاحتياطُ للأنسابِ، وأنَّ مُجَرَّدَ الاحتِمالِ والظَّنِّ لا يَنفي الولَدَ مِن أبيه.
وفيه ضَربُ الأمثالِ، وتَشبيهُ المَجهولِ بالمَعلومِ؛ ليَكونَ أقرَبَ إلى الفهمِ.
وفيه استِعمالُ القياسِ والاعتِبارُ بالأشباهِ.
وفيه حُسنُ تَعليمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُخاطَبَتُه النَّاسَ بما يَعرِفونَ ويَفهَمونَ .