موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: السُّؤالُ مُعادٌ في الجَوابِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلت هذه القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "السُّؤالُ مُعادٌ في الجَوابِ" [26] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/214)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 141)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 128). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا ورَدَ جَوابٌ بإحدى أدَواتِ الإجابةِ المُجمَلةِ، كنَعَم وبَلى ولا، بَعدَ سُؤالٍ أو إخبارٍ مُفصَّلٍ، فإنَّ الجَوابَ يُعتَبَرُ مُشتَمِلًا على ما في السُّؤالِ فقَط مِن تَفصيلٍ، وإن لم يَتَكَرَّرْ في الجَوابِ؛ لأنَّ هذه الأدَواتِ لا تُفيدُ بنَفسِها، وإنَّما تَعتَمِدُ على ما قَبلَها، فمَن قال لآخَرَ: بِعتُ هذه بألفٍ، فقال: اشتَرَيتُ، صَحَّ بالألْفِ؛ لأنَّ السُّؤالَ مُعادٌ في الجَوابِ، وكَذا لو سُئِل: هَل قَتَلتَ فُلانًا؟ فقال: نَعَم، كان إقرارًا بالقَتلِ [27] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/272)، ((المنثور)) للزركشي (2/214)، ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 305)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 328)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/384). .
ووجهُ اندِراجِ هذه القاعِدةِ تَحتَ قاعِدةِ (إذا سيقَ الكَلامُ لمَعنًى فلا يُستَدَلُّ به في غَيرِهـ) أنَّ الإجابةَ بـ: نَعَم، لا، بَلى، يُقتَصَرُ بها على ما تَضمَّنه السُّؤالُ دونَ غَيرِه مِنَ المَعاني، فلا يَكونُ حُجَّةً فيها.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ: القُرآنُ والسُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [النحل: 38] .
- وقال اللهُ تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف: 4] .
ووجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيَتَينِ واضِحٌ في أنَّ تَرتيبَ الجَوابِ جاءَ بناءً على السُّؤالِ، وإلَّا لما صَلحَ هذا جَوابًا [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/246)، ((تفسير المراغي)) (8/157). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((شَهِدتُ صَلاةَ الفِطرِ مَعَ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، فكُلُّهم يُصَلِّيها قَبلَ الخُطبةِ، ثُمَّ يَخطُبُ. فنَزَل نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَأنِّي أنظُرُ إليه حينَ يُجَلِّسُ الرِّجالَ بيَدِه، ثُمَّ أقبَلَ يَشُقُّهم، حتَّى جاءَ النِّساءَ ومَعَه بلالٌ. فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا فتَلا هذه الآيةَ حتَّى فرَغَ مِنها. ثُمَّ قال حينَ فرَغَ مِنها: أنتُنَّ على ذلك؟ فقالتِ امرَأةٌ واحِدةٌ لم يُجِبْه غَيرُها مِنهنَّ: نَعَم، يا نَبيَّ اللهِ -لا يُدرى حينَئِذٍ مَن هيَ-، قال: فتَصَدَّقنَ، فبَسَطَ بلالٌ ثَوبَه، ثُمَّ قال: هَلُمَّ، فِدًى لكُنَّ أبي وأُمِّي، فجَعَلنَ يُلقينَ الفَتَخَ [29] قال النَّوويُّ: (اختُلِف في تَفسيرِها؛ ففي صحيحِ البخاريِّ عن عَبدِ الرَّزَّاقِ قال: هيَ الخَواتيمُ العِظامُ، وقال الأصمَعيُّ: هيَ خَواتيمُ لا فُصوصَ لها، وقال ابنُ السِّكِّيتِ: خَواتيمُ تُلبَسُ في أصابعِ اليَدِ، وقال ثَعلبٌ: وقد يَكونُ في أصابعِ الواحِدِ مِنَ الرِّجالِ، وقال ابنُ دُرَيدٍ: وقد يَكونُ لها فُصوصٌ، وتُجمَعُ أيضًا فَتَخاتٌ وأفتاخٌ). ((شرح مسلم)) (6/173). والخَواتِمَ في ثَوبِ بلالٍ)) [30] أخرجه البخاري (4895)، ومسلم (884) واللَّفظُ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَ المَرأةِ "نَعَم" غَيرُ مُستَقِلٍّ بنَفسِه وغَيرُ مُفيدٍ إلَّا بتَكرارِ ما قَبلَه، وقد صَلحَ جَوابًا بنَصِّ الحَديثِ؛ فدَلَّ على أنَّ مَضمونَ السُّؤالِ مُعادٌ في الجَوابِ [31] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (3/293)، ((التوضيح شرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (8/133). .
- وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، قد فرَضَ اللهُ عليكُمُ الحَجَّ فحُجُّوا، فقال رَجُلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فسَكَتَ حتَّى قالها ثَلاثًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو قُلتُ: نَعَم، لوجَبَت ولَما استَطَعتُم )) [32] أخرجه مسلم (1337). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّه لو أجابَ عَلى سُؤالِ السَّائلِ بنَعَم، لوجَبَ الحَجُّ كُلَّ عامٍ؛ فدَلَّ ذلك على هذه القاعِدةِ [33] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (3/447). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو قيل لرَجُلٍ على وَجهِ الاستِخبارِ: أطلَّقتَ زَوجَتَك؟ فقال: نَعَم، كان إقرارًا به، يُؤاخَذُ به في الظَّاهرِ ولو كان كاذِبًا [34] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (3/324)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 141). .
2- إذا قال: لي عِندَك كَذا، فقال: نَعَم، أو قال: ليسَ عليك كَذا، فقال: أجَل، فهو إقرارٌ بما سَأله عنه [35] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 142). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءٌ:
لو قالتِ امرَأةٌ لزَوجِها: طَلِّقْني ثَلاثًا، فقال الزَّوجُ: أنتِ طالِقٌ، فهيَ واحِدةٌ إلَّا أن يَنويَ ثَلاثًا، ولو قال: قد فعَلتُ، طُلِّقَت ثَلاثًا، وكَذا لو قال: قد فعَلتُ ثَلاثًا، وكَذا لو قال: قد طَلَّقتُك [36] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/435). .
قَيدٌ:
ذَكَرَ الزَّركَشيُّ لهذه القاعِدةِ قَيدًا، فقال: (تَنبيهٌ: لهذه القاعِدةِ قَيدٌ، وهو أن لا يُقصَدَ بالجَوابِ الابتِداءُ؛ ولهذا لو قال المُشتَري: لم أقصِدْ بقَولي: "اشتَرَيتُ" جَوابَك، فالظَّاهِرُ -كَما قاله في البَحرِ- القَبولُ. ولو قالت: طَلِّقْني بألفٍ، فقال: طَلَّقتُك، وقال: قَصَدتُ الابتِداءَ دونَ الجَوابِ، قُبِلَ، وكان رَجعيًّا) [37] ((المنثور)) (2/216). .

انظر أيضا: