الفَرعُ الأوَّلُ: الأصلُ أنَّ للحالةِ مِنَ الدَّلالةِ كَما للمَقالةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الأصلُ أنَّ للحالةِ مِنَ الدَّلالةِ كَما للمَقالةِ"
[17] يُنظر: ((أصول الكرخي)) (ص: 81). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.ما يُحيطُ بالمَسألةِ مِن ظُروفٍ ومُلابَساتٍ يَكونُ له تَأثيرٌ في الحُكمِ كَما يُؤَثِّرُ التَّصريحُ باللَّفظِ، فيما سيقَت فيه الحالُ دونَ غَيرِه، فإذا أحاطَ بالأمرِ مُلابَساتٌ وقَرائِنُ ودَلالةُ حالٍ، فإنَّها تَأخُذُ حُكمَ التَّصريحِ وتُنزَّلُ مَنزِلتَه في بناءِ الحُكمِ الشَّرعيِّ عليها، في إطارِ المَعنى الذي سيقَت لأجلِه الدَّلالةُ، وتَقومُ حينَئِذٍ مَقامَ إظهارِ النِّيَّةِ في بَيانِ مَقصودِ المُتَكَلِّمِ ومُرادِه، فالشَّارِعُ لم يُلغِ القَرائِنَ والأماراتِ ودَلالاتِ الأحوالِ، بَل مَنِ استَقرَأ الشَّرعَ في مَصادِرِه ومَوارِدِه وجَدَه شاهدًا لها بالاعتِبارِ، مُرَتِّبًا عليها الأحكامَ
[18] يُنظر: ((أصول الكرخي)) (ص: 81)، ((الفصول)) للجصاص (1/50)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (1/27)، ((الدر المختار)) للحصكفي ومعه ((رد المحتار)) لابن عابدين (1/363)، ((دلالة الحال وتأثيرها في أحكام المعاملات المالية)) لعمر محمود (ص: 18، 22). .
ووجهُ اندِراجِ هذه القاعِدةِ تَحتَ قاعِدةِ: (إذا سيقَ الكَلامُ لمَعنًى فلا يُستَدَلُّ به في غَيرِهـ) أنَّه كَما لا يُحتَجُّ بالمَقالِ والتَّصريحِ في غَيرِ ما سيقَ له، فكذلك الحالُ، والدَّلالةُ يُقتَصَرُ فيها على المَعنى الذي سيقَت له دونَ غَيرِه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ، ومِن ذلك:
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الأيِّمُ أحَقُّ بنَفسِها مِن وليِّها، والبِكرُ تُستَأذَنُ في نَفسِها، إذنُها صُماتُها)) [19] أخرجه مسلم (1421). .
وَجهُ الدَّلالةِ:لمَّا كان الغالِبُ مِن حالِ الأبكارِ أن لا يُبدينَ إرادةَ النِّكاحِ مِن أنفُسِهنَّ؛ حَياءً وأنَفةً، وكان هذا أمرًا مفهومًا، أنزَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَمتَها مَنزِلةَ صَريحِ الإذنِ
[20] يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (3/744)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (7/2279). . ولا يُؤخَذُ مِن صُماتِها أحكامًا أُخرى سِوى الرِّضا؛ لأنَّ هذه الحالَ هنا سيقَت لأجلِ بَيانِ هذا المَعنى والحاجةِ إليه، فلا يُتَوسَّعُ فيه.
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((كانت امرأتانِ معهما ابناهما، جاء الذِّئبُ فذهب بابنِ إحداهما، فقالت صاحِبَتُها: إنَّما ذهَب بابنِك، وقالت الأُخرى: إنَّما ذهَب بابنِك، فتحاكَمَتا إلى داودَ، فقضى به للكُبرى، فخرجَتَا على سُلَيمانَ بنِ داودَ، فأخبَرَتاه، فقال: ائتوني بالسِّكينِ أشُقَّه بَيْنَهما، فقالت الصُّغرى: لا تفعَلْ يرحمُك اللهُ، هو ابنُها، فقضى به للصُّغرى )) [21] أخرجه البخاري (3427) واللفظ له، ومسلم (1720). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ نَبيَّ اللهِ سُليمانَ جَعَل شَفقَتَها عليه شُبهةً مَعَ دَعواها، فقَضى به للصُّغرى لِما رَأى مِن إشفاقِها، بخِلافِ الكُبرى؛ إذ لو كان ولَدَها لأشفقَت عليه، فجَعَل للحالِ تَأثيرًا في الحُكمِ
[22] يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (5/580)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/71). . وقد أخَذَ سُليمانُ عليه السَّلامُ مِن دَلالةِ الحالِ والقَرينةِ أنَّه ابنُ الصُّغرى، لكِن لا يُمكِنُ أن يُؤخَذَ مِنها أيضًا أحكامٌ أُخرى يُثبتُها بها، كَأن يُرَتِّبَ عليها قَطعَ يَدِها بالسَّرِقةِ، أو تَطليقَها مِن زَوجِها، أو غَيرَ ذلك.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو نَهَتِ البكرُ الأبَ عن قَبضِ صَداقِها، لم يَكُنْ له أن يَقبِضَ، ولكِنَّه عِندَ عَدَمِ النَّهيِ له أن يَقبضَ؛ لوُجودِ الإذنِ دَلالةً؛ فإنَّ الظَّاهرَ أنَّ البكرَ تَستَحي مِن قَبضِ صَداقِها، وأنَّ الأبَ هو الذي يَقبضُ؛ لتَجهيزِها بذلك مَعَ مالِ نَفسِه إلى بَيتِ زَوجِها، فكان له أن يَقبِضَ لهذا
[23] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/3). .
2- مَن أودَعَ رجلًا مالًا فدَفعَه إلى أحَدِ أبنائِه فهَلكَ عِندَه، لم يَضمَنْ، وإن لم يُصَرِّحْ له المودِعُ بالإذنِ بالدَّفعِ إلى غَيرِه؛ لأنَّه لمَّا أودَعَه مَعَ عِلمِه بأنَّه لا يُمكِنُه أن يَحفَظَه بيَدِه آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، كان ذلك إذنًا مِنه على اعتِبارِ أنَّه سَيَحفظُه له كَما يَحفظُ مالَ نَفسِه، وهو يَحفَظُ مالَ نَفسِه تارةً بيَدِه، وتارةً بيَدِ أولادِه؛ فكان ذلك كالإذنِ به صريحًا
[24] يُنظر: ((أصول الكرخي)) (ص: 81). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.قَيدٌ:العَمَلُ بالدَّلالةِ مُقَيَّدٌ بعَدَمِ التَّصريحِ بخِلافِها، فإذا صَرَّحَ المُتَكَلِّمُ بما يُعارِضُ دَلالةَ الحالِ، فلا يُعمَلُ حينَئِذٍ بها؛ لأنَّ التَّصريحَ أقوى مِنَ الدَّلالةِ، وهذا القَيدُ هو المُعَبَّرُ عنه بقاعِدةِ (لا عِبرةَ بالدَّلالةِ في مُقابَلةِ التَّصريحِ)
[25] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/23). .