موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ العِشرونَ: العُرفُ الخاصُّ يُؤَثِّرُ كالعُرفِ العامِّ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: " العُرفُ الخاصُّ يُؤَثِّرُ كالعُرفِ العامِّ " [1470] يُنظر: ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (3/367). ، وصيغةِ: "المَعهودُ بالعُرفِ الخاصِّ كالمَعهودِ بالعُرفِ العامِّ" [1471] يُنظر: ((فتح العزيز)) للرافعي (9/69). ، وصيغةِ: "العُرفُ الخاصُّ هَل يُنزَّلُ في التَّأثيرِ مَنزِلةَ العُرفِ العامِّ؟" [1472] يُنظر: ((فتاوى ابن الصلاح)) (1/375)، ((المنثور)) للزركشي (2/394)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/405)، ((القواعد)) للحصني (1/388)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 92). ، وصيغةِ: "العُرفُ الخاصُّ مُعتَبَرٌ" [1473] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 291)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/775)، ((الفقه على المذاهب الأربعة)) للجزيري (2/95). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
العُرفُ العامُّ: هو ما تَعارَفه عامَّةُ أهلِ البلادِ قديمًا أو حَديثًا، سَواءٌ كان فِعليًّا أو قَوليًّا.
والعُرفُ الخاصُّ: هو ما تَعامَل به بَعضُ المُسلمينَ أو فِئةٌ مِنَ النَّاسِ دونَ أُخرى، أو هو اصطِلاحُ طائِفةٍ مَخصوصةٍ على شَيءٍ. ومِن ذلك اصطِلاحُ كُلِّ ذي عِلمٍ على ألفاظٍ خَصُّوها بمَعانٍ مُخالِفةٍ للمَفهومِ اللُّغَويِّ، كاصطِلاحِ الفقيهِ في الجَمعِ والفَرقِ، واصطِلاحِ النَّحويِّ في الرَّفعِ والنَّصبِ والجَرِّ [1474] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/298)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/231). .
والعُرفُ العامُّ يَثبُتُ به حُكمٌ عامٌّ، كَما لو حَلف شَخصٌ فقال: (لا أضَعُ قدَمي في دارِ فُلانٍ) فبما أنَّ مَعنى ذلك في اللُّغةِ (لا أضَعُ رِجلي)، وفي العُرفِ العامِّ (لا أدخُلُ) يَثبُتُ ذلك في حَقِّ العُمومِ.
أمَّا العُرفُ الخاصُّ فإنَّه يَثبُتُ به حُكمٌ خاصٌّ فقَط، كَما إذا كان إعطاءُ أجزاءِ النُّقودِ بَدَلًا عن أصلِ النُّقودِ جائِزًا عُرفًا في بَلدةٍ، فيُحكَمُ بصِحَّةِ إعطاءِ الأجزاءِ في تلك البَلدةِ فقَط، ولا يَجوزُ في غَيرِها.
وكُلٌّ مِنَ العُرفِ الخاصِّ والعامِّ يُشتَرَطُ لاعتِبارِه وتَحكيمِه في المُعامَلاتِ المُطلَقةِ أن يَكونَ في مُحيطِه مُطَّرِدًا أو غالبًا على أعمالِ أهلِه، وشائِعًا بَينَهم شُيوعًا شامِلًا لهم.
ومُفادُ هذه القاعِدةِ أنَّ العُرفَ الخاصَّ مُعتَبَرٌ في مَكانِه، فيُؤَثِّرُ كالعُرفِ العامِّ، فيُعتَبَرُ في حَقِّ أهلِه -فقَط- إذا لم يَلزَمْ مِنه تَركُ النَّصِّ ولا تَخصيصُه، وذلك كَما في الألفاظِ المُتَعارَفةِ في الأيمانِ، والعادةِ الجاريةِ في العُقودِ مِن بَيعٍ وإجارةٍ ونَحوِها، فتُجرى تلك الألفاظُ والعُقودُ في كُلِّ بَلدةٍ على عادةِ أهلِها، ويُرادُ مِنها ذلك المُعتادُ بَينَهم، ويُعامَلونَ -دونَ غَيرِهم- بما يَقتَضيه ذلك مِن صِحَّةٍ وفسادٍ وتَحريمٍ وتَحليلٍ وغَيرِ ذلك، وإن صَرَّحَ الفُقَهاءُ بأنَّ مُقتَضاه خِلافُ ما اقتَضاه العُرفُ؛ لأنَّ المُتَكَلِّمَ إنَّما يَتَكَلَّمُ على عُرفِه وعادَتِه، ويَقصِدُ ذلك بكَلامِه دونَ ما أرادَه الفُقَهاءُ، وإنَّما يُعامَلُ كُلُّ أحَدٍ بما أرادَه [1475] ينظر للمعنى الإجمالي: ((عقود رسم المفتي)) لابن عابدين (ص: 48)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/45)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 296). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّها تَقضي بأنَّ العُرفَ الخاصَّ مُعتَبَرٌ كالعُرفِ العامِّ، فيَكونُ العُرفُ بنَوعَيه (الخاصِّ، والعامِّ) مُؤَثِّرًا؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا حَلف شَخصٌ بأن لا يَأكُلَ خُبزًا، فإنَّه يَحنَثُ بأكلِ الخُبزِ المُتَعارَفِ عِندَ أهلِ بَلدِه. فإذا كانوا لا يَأكُلونَ إلَّا القَمحَ حَنِثَ به بدونِ غَيرِه، فلو أكَل خُبزَ الذُّرةِ أوِ الشَّعيرِ فإنَّه لا يَحنَثُ، وبالعَكسِ إذا كانوا لا يَأكُلونَ القَمحَ؛ فإنَّ العُرفَ الخاصَّ مُعتَبَرٌ في الأيمانِ [1476] يُنظر: ((الفقه على المذاهب الأربعة)) للجزيري (2/95). .
2- يُعتَبَرُ عُرفُ التُّجَّارَ فيما يُعَدُّ عَيبًا يُنقِصُ الثَّمَنَ في البضاعةِ المَبيعةِ، أو لا يُعَدُّ عَيبًا، وعُرفُهم في بَعضِ البلادِ أن يَكونَ ثَمَنُ بَعضِ البَضائِعِ المَبيعةِ بالجُملةِ مُقَسَّطًا إلى عَدَدٍ مَعلومٍ مِنَ الأقساطِ [1477] يُنظر: ((المدخل الفقهي العام)) لمصطفى الزرقا (2/878). .
3- عُرفُ المُحامينَ على أنَّ جُزءًا مِن أُجورِ الدَّعاوى التي يَقبَلونَها يَكونُ مُؤَجَّلًا ومُعَلَّقًا على رِبحِ الدَّعوى، وصَيرورةِ الحُكمِ بها مُبرَمًا، واستِخراجِ وثيقةِ الحُكمِ ووضعِها في دائِرةِ التَّنفيذِ [1478] يُنظر: ((المدخل الفقهي العام)) لمصطفى الزرقا (2/878). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
تَعارُضُ العُرفِ الخاصِّ مَعَ العُرفِ العامِّ:
الضَّابِطُ في تَعارُضِ العُرفِ العامِّ والعُرفِ الخاصِّ: أنَّه إن كان العُرفُ الخاصُّ مَحصورًا لم تُؤَثِّرْ مُعارَضَتُه للعُرفِ العامِّ، وإن كان العُرفُ الخاصُّ غَيرَ مَحصورٍ اعتُبِرَ ونُزِّل مَنزِلةَ العامِّ في الأصَحِّ [1479] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/388)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 95)، ((نشر العرف)) لابن عابدين، مطبوع ضمن رسائله (2/125)، ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (3/190)، ((العادة محكمة)) للباحسين (ص: 40)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/311). .
فمَثَلًا: لو كانت عادةُ امرَأةٍ في الحَيضِ أقَلَّ مِمَّا استُقرِئَ مِن عادةِ النِّساءِ، فهَل الاعتِبارُ بعادَتِها، أم بعادةِ النِّساءِ؟ رُدَّت إلى الغالِبِ مِن عادةِ النِّساءِ؛ لأنَّ العُرفَ الخاصَّ هنا مَحصورٌ فلم تُؤَثِّرْ مُعارَضَتُه للعُرفِ العامِّ، واحتِمالُ عُروضِ دَمِ فَسادٍ أقرَبُ مِنِ انخِراقِ العاداتِ المُستَمِرَّةِ؛ فإنَّ كَونَ المَرأةِ بهذه الصِّفةِ نادِرٌ. وقيل: تُعتَبَرُ عادَتُها [1480] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الوكيل (ص: 209)، ((المنثور)) للزركشي (2/388)، ((القواعد)) للحصني (1/379)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 95)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/311). .
ولوِ اشتَهَرَ في العُرفِ مَثَلًا استِعمالُ لفظِ (الحَرام) في الطَّلاقِ، فهَل يُنَزَّلُ مَنزِلةَ الطَّلاقِ حتَّى يَقَعَ بلا نيَّةٍ؟ فيه خِلافٌ؛ فقيل: نَعَم؛ لغَلبةِ الاستِعمالِ، وحُصولِ التَّفاهُمِ [1481] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الوكيل (ص: 209)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/401)، ((القواعد)) للحصني (1/382). .
واستُثنيَ مِن ذلك عِندَ الشَّافِعيَّةِ بَعضُ الفُروعِ التي يُعمَلُ فيها بتَقديمِ العُرفِ الخاصِّ في مَكانِه؛ مِنها:
1- إذا حَلف لا يَأكُلُ الرُّؤوسَ، وجَرَت عادةُ أهلِ البَلدِ ببَيعِ رُؤوسِ الحيتانِ والصُّيودِ مُنفرِدةً، حَنِثَ بأكلِها هناكَ. وفي غَيرِه مِنَ البلادِ خِلافٌ، والأرجَحُ عِندَ الشَّيخِ أبي حامِدٍ والرُّويانيِّ: عَدَمُ الحِنثِ. وأقواهما عِندَ الرَّافِعيِّ وأقرَبُهما إلى ظاهرِ النَّصِّ: الحِنثُ [1482] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/403)، ((القواعد)) للحصني (1/384). .
2- لو حَلَف لا يَأكُلُ الخُبزَ: فالمَشهورُ أنَّه يَحنَثُ بأكلِ جَميعِ أنواعِ الخُبزِ. وحَكى الغَزاليُّ عنِ الصَّيدَلانيِّ: أنَّه إنَّما يَحنَثُ بخُبزِ الأَرُزِّ بطَبَرِستانَ فقَط؛ لاعتيادِهم أكلَه [1483] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/404)، ((القواعد)) للحصني (1/384). .
قال الحصنيُّ: (هذانِ الفرعانِ على خِلافِ فُروعِ هذه (القاعِدةِ) مِن جِهةِ القَطعِ فيهما باعتِبارِ العُرفِ الخاصِّ بمَوضِعِه بلا خِلافٍ، وجَرَيانِ الخِلافِ في غَيرِ بَلدِ ذلك العُرفِ) [1484] ((القواعد)) (1/385). .

انظر أيضا: