موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: تَتَغَيَّرُ الأحكامُ الاجتِهاديَّةُ بتَغَيُّرِ العاداتِ والأعرافِ، والأحكامُ المُرَتَّبةُ على العَوائِدِ تَتبَعُ العَوائِدَ وتَتَغَيَّرُ عِندَ تَغَيُّرِها


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعمِلتِ القاعِدةُ بصيَغٍ مُختَلفةٍ، كُلُّها تَدورُ حَولَ هذا المَعنى عِندَ الفُقَهاءِ، ومِن ذلك:
"كُلُّ ما هو في الشَّريعةِ يَتبَعُ العَوائِدَ: يَتَغَيَّرُ الحُكمُ فيه عِندَ تَغَيُّرِ العادةِ إلى ما تَقتَضيه العادةُ المُتَجَدِّدةُ" [1455] يُنظر: ((الإحكام)) للقرافي (ص: 218). ، وصيغةِ: "لا يُنكَرُ تَغَيُّرُ الأحكامِ لتَغَيُّرِ الزَّمانِ" [1456] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/140)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (3/47)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 20)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 227)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 113)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/353). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
المَسائِلُ الفِقهيَّةُ نَوعانِ:
1- أن تَكونَ ثابتةً بصَريحِ النَّصِّ.
2- أن تَكونَ ثابتةً بضَربٍ مِنَ الاجتِهادِ.
وكَثيرٌ مِن أحكامِ المَسائِلِ الاجتِهاديَّةِ يَبنيه المُجتَهدُ على ما كان في عُرفِ زَمانِه، بحَيثُ لو كان في زَمانِ العُرفِ الحادِثِ لقال بخِلافِ ما قاله أوَّلًا؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ في شُروطِ الاجتِهادِ: إنَّه لا بُدَّ فيه مِن مَعرِفةِ عاداتِ النَّاسِ؛ فكَثيرٌ مِنَ الأحكامِ تَختَلِفُ باختِلافِ الزَّمانِ؛ لتَغَيُّرِ عُرفِ أهلِه، أو لحُدوثِ ضَرورةٍ، أو فسادِ أهلِ الزَّمانِ؛ بحَيثُ لو بَقيَ الحُكمُ على ما كان عليه أوَّلًا للزِمَ مِنه المَشَقَّةُ والضَّرَرُ بالنَّاسِ، ويُخالفُ قَواعِدَ الشَّريعةِ المَبنيَّةَ على التَّخفيفِ والتَّيسيرِ ودَفعِ الضَّرَرِ والفسادِ. فالأحكامُ التي تَتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ الأزمانِ هيَ الأحكامُ المُستَنِدةُ على العُرفِ والعادةِ؛ لأنَّه بتَغَيُّرِ الأزمانِ تَتَغَيَّرُ احتياجاتُ النَّاسِ، بخِلافِ الأحكامِ المُستَنِدةِ على الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ التي لم تُبنَ على العُرفِ والعادةِ فإنَّها لا تَتَغَيَّرُ؛ لأنَّ النَّصَّ أقوى مِنَ العُرفِ؛ إذ لا يُحتَمَلُ أن يَكونَ مُستَنِدًا على باطِلٍ، بخِلافِ العُرفِ والعادةِ [1457] يُنظر: ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/74)، ((نشر العرف)) لابن عابدين، مطبوع في رسائله (2/125)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/47)، ((موسوعة الأعمال الكاملة لمحمد الخضر حسين)) (10/2/150)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 227). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العادةَ إذا تَغَيَّرَت وجَبَ تَغَيُّرُ الأحكامِ الاجتِهاديَّةِ المَبنيَّةِ عليها؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، وعَمَلِ الصَّحابةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لو أدرَكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أحدَثَ النِّساءُ لمَنَعَهنَّ كَما مُنِعَت نِساءُ بَني إسرائيلَ )) [1458] أخرجه البخاري (869) واللفظ له، ومسلم (445). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ قَولُها رَضِيَ اللهُ عنها أن لتَغَيُّرِ الأعرافِ أثَرًا في تَغَيُّرِ الأحكامِ؛ فإنَّها قالت ما قالت لمَّا رَأت مِنَ الفُجورِ الموجِبِ لتَغَيُّرِ الأحكامِ؛ وذلك لمَّا رَأتِ النِّساءَ قد أحدَثنَ الزِّينةَ والطِّيبَ ولُبسَ الحُليِّ؛ ولهذا مَنَعَهنَّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه [1459] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (6/296)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/140)، ((كوثر المعاني)) لمحمد الخضر الشنقيطي (6/157). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن نَقَله القَرافيُّ [1460] قال: (إجراءُ الأحكامِ التي مُدرَكُها العَوائِدُ مَعَ تَغَيُّرِ تلك العَوائِدِ: خِلافُ الإجماعِ، وجَهالةٌ في الدِّينِ، بَل كُلُّ ما هو في الشَّريعةِ يَتبَعُ العَوائِدَ: يَتَغَيَّرُ الحُكمُ فيه عِندَ تَغَيُّرِ العادةِ إلى ما تَقتَضيه العادةُ المُتَجَدِّدةُ ... قاعِدةٌ اجتَهَدَ فيها العُلماءُ وأجمَعوا عَليها). ((الإحكام)) (ص: 218). ، وابنُ فرحونَ [1461] قال: (وبهذا القانونِ تُعتَبَرُ جَميعُ الأحكامِ المُتَرَتِّبةِ على العَوائِدِ، وهو تَحقيقٌ مُجمَعٌ عَليه بَينَ العُلماءِ لا اختِلافَ فيه، بَل قد يَقَعُ الخِلافُ في تَحقيقِه، هَل وُجِدَ أم لا؟). ((تبصرة الحكام)) (2/74). .
3- مِنْ عَمَلِ الصَّحابةِ:
ومِن ذلك: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل عن ضالَّةِ الإبِلِ: هَل يَلتَقِطُها مَن يَراها لتَعريفِها ورَدِّها على صاحِبِها مَتَّى ظَهَرَ -كَضالَّةِ الغَنَمِ ونَحوِها مِنَ الأشياءِ الصَّغيرةِ التي يُخشى عليها- فنَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ التِقاطِها؛ لأنَّها لا يُخشى عليها ما يُخشى على غَيرِها مِنَ الضَّياعِ، وأمَر بتَركِها تَرِدُ الماءَ، وتَرعى الكَلأَ حتَّى يَلقاها صاحِبُها [1462] لفظُه: عن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَأله رَجُلٌ عنِ اللُّقَطةِ، فقال: اعرِفْ وِكاءَها -أو قال: وِعاءَها- وعِفاصَها، ثُمَّ عَرِّفْها سَنةً، ثُمَّ استَمتِعْ بها، فإن جاءَ رَبُّها فأدِّها إليه، قال: فضالَّةُ الإبِلِ؟ فغَضِبَ حتَّى احمَرَّت وجنَتاه -أو قال: احمَرَّ وجهُه- فقال: وما لكَ ولها؟! مَعَها سِقاؤُها وحِذاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتَرعى الشَّجَرَ، فذَرها حتَّى يَلقاها رَبُّها، قال: فضالَّةُ الغَنَمِ؟ قال: لكَ، أو لأخيكَ، أو للذِّئبِ. أخرجه البخاري (91) واللَّفظُ له، ومسلم (1722). ، فاستَثنى الإبِلَ مِن حُكمِ التِقاطِ الضَّالَّةِ.
فلمَّا كان عَهدُ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ أمَر بالتِقاطِ ضَوالِّ الإبِلِ وبَيعِها، كَبَقيَّةِ الضَّوالِّ، على خِلافِ ما أمَرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستَثناه، فإذا جاءَ صاحِبُها أُعطِيَ ثَمَنَها؛ وذلك لأنَّ عُثمانَ رَأى أنَّ النَّاسَ قد دَبَّ إليهم فسادُ الأخلاقِ والذِّمَمِ، وامتَدَّت أيديهم إلى الحَرامِ، فهذا التَّدبيرُ أصوَنُ لضالَّة الإبِلِ، وأحفظُ لحَقِّ صاحِبِها؛ خَوفًا مِن أن تَنالَها يَدُ سارِقٍ أو طامِعٍ. فهو بذلك -وإن خالف أمرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الظَّاهرِ- إنَّما هو موافِقٌ لمَقصودِه؛ إذ لو بَقيَ العَمَلُ على موجِبِ ذلك الأمرِ بَعدَ فسادِ الزَّمانِ لآلَ إلى عَكسِ مُرادِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صيانةِ الأموالِ، وكانت نَتيجَتُه ضَرَرًا [1463] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/358). ويُنظر أيضًا: ((موطأ مالك - رواية أبي مصعب الزهري)) (2/ 501). .
رابعًا: مِنَ القَواعِدِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- أجمعَ الفُقَهاءُ على أنَّ المُعامَلاتِ إذا أُطلِقَ فيها الثَّمَنُ يُحمَلُ على غالِبِ النُّقودِ، فإذا كانتِ العادةُ نَقدًا مُعيَّنًا حَمَلنا الإطلاقَ عليه، فإذا انتَقَلتِ العادةُ إلى غَيرِه عَيَّنَّا ما انتَقَلتِ العادةُ إليه، وألغَينا اعتِبارَ النَّقدِ الأوَّلِ؛ لانتِقالِ العادةِ عنه [1464] يُنظر: ((الإحكام)) للقرافي (ص: 219)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/75). .
2- الإطلاقُ في الوصايا والأيمانِ وجَميعِ أبوابِ الفِقهِ المَحمولةِ على العَوائِدِ، إذا تَغَيَّرَتِ العادةُ تَغَيَّرَتِ الأحكامُ في تلك الأبوابِ، وكذلك الدَّعاوى إذا كان القَولُ قَولَ مَنِ ادَّعى شَيئًا لأنَّه العادةُ، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ العادةُ: لم يَبقَ القَولُ قَولَ مُدَّعيه، بَل انعَكَسَ الحالُ فيه، ومِن هذا البابِ ما رُويَ عن مالكٍ: إذا تَنازَعَ الزَّوجانِ في قَبضِ الصَّداقِ بَعدَ الدُّخولِ: أنَّ القَولَ قَولُ الزَّوجِ، مَعَ أنَّ الأصلَ عَدَمُ القَبضِ. ثُمَّ قال القاضي إسماعيلُ الجَهضَميُّ: هذه كانت عادَتَهم بالمَدينةِ: أنَّ الرَّجُلَ لا يَدخُلُ بامرَأتِه حتَّى تَقبضَ جَميعَ صَداقِها، واليَومُ عادَتُهم على خِلافِ ذلك، فالقَولُ قَولُ المَرأةِ مَعَ يَمينِها؛ لأجلِ اختِلافِ العَوائِدِ [1465] يُنظر: ((الإحكام)) للقرافي (ص: 219)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/75). .
3- إفتاءُ الفُقَهاءِ بجَوازِ الاستِئجارِ وأخذِ الأُجرةِ أوِ الرَّاتِبِ على تَعليمِ القُرآنِ ونَحوِه، والقيامِ بالشَّعائِرِ الدِّينيَّةِ، كالإمامةِ والخَطابةِ؛ لتَغَيُّرِ العُرفِ بسَبَبِ انقِطاعِ عَطايا المُعَلِّمينَ التي كانت في الصَّدرِ الأوَّلِ، وانقِطاعِ المُكافآتِ والعَطايا التي كانت تُدفَعُ مِن بَيتِ المالِ للمُشتَغِلينَ بهذه الوظائِفِ. ولوِ اشتَغَل المُعَلِّمونَ بالتَّعليمِ بلا أُجرةٍ يَلزَمُ ضَياعُهم وضَياعُ عِيالِهم، ولوِ اشتَغَلوا بالاكتِسابِ مِن حِرفةٍ وصِناعةٍ يَلزَمُ ضَياعُ القُرآنِ والدِّينِ، فأفتَوا بأخذِ الأُجرةِ على التَّعليمِ، وكَذا على الإمامةِ والأذانِ [1466] يُنظر: ((نشر العرف)) لابن عابدين، مطبوع في رسائله (2/125)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/339). .
4- جَوازُ إحداثِ أحكامٍ تعزيريَّةٍ لقَمعِ أربابِ الجَرائِمِ عِندَ كَثرةِ فسادِ الزَّمانِ. وأوَّلُ مَن فعَله عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رَضِيَ اللهُ عنه؛ فإنَّه قال: يَحدُثُ للنَّاسِ أَقضِيَةٌ بقَدرِ ما أحدَثوا مِنَ الفُجورِ [1467] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 228). .
5- وُجوبُ تَسجيلِ عَقدِ النِّكاحِ لدى المَأذونِ؛ لتَوثيقِه مِنَ القاضي أو نائِبه في المَحكَمةِ، وضَبطِه في السِّجِلَّاتِ؛ لتَغَيُّرِ أعرافِ النَّاسِ وأحوالِهم، وتَطَوُّرِ أساليبِ حَياتِهم، وحِفظًا على الأعراضِ ونَسَبِ الأولادِ، وحُقوقِ الزَّوجَينِ [1468] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/360). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
تَنبيهٌ:
إذا أدَّى اختِلافُ الأعرافِ إلى تَغَيُّرِ بَعضِ الأحكامِ أو إثباتِ أحكامٍ، فلا بُدَّ أن تَكونَ تلك الأحكامُ المَسنونةُ بحالٍ تَشهَدُ لها قَواعِدُ الشَّرعِ بالاعتِبارِ، أو تَكونَ بحالٍ إذا لم تَشهَدْ لها بالاعتِبارِ لا تَشهَدُ عليها بالإبطالِ، كَأن تَكونَ مِنَ المَصالحِ المُرسَلةِ، وهيَ التي لا يَشهَدُ الشَّرعُ باعتِبارِها ولا بإلغائِها، ولوحِظَ فيها جِهةُ مَنفعةٍ؛ فإنَّها يَجوزُ العَمَلُ بها وإن لم يَتَقدَّمْها نَظيرٌ في الشَّرعِ يَشهَدُ باعتِبارِها.
وأمثِلةُ ذلك كَثيرةٌ؛ مِنها ما وقَعَ لأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ في تَوليَتِه عَهدَ الخِلافةِ لعُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، وكَتَركِ الخِلافةِ شورى بَينَ سِتَّةٍ، وكَتَدوينِ الدَّواوينِ، وضَربِ السِّكَّةِ، واتِّخاذِ السُّجونِ، وغَيرُ ذلك كَثيرٌ مِمَّا دَعا إلى سَنِّه تَغَيُّرُ الأحوالِ والأزمانِ، ولم يَتَقدَّمْ فيه أمرٌ مِنَ الشَّرعِ، وليسَ له نَظيرٌ يُلحَقُ به، ولوحِظَ فيه جِهةُ المَصلحةِ [1469] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 228). ويُنظر أيضًا: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (1/139). .

انظر أيضا: