موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّامِنَ عَشَرَ: كُلُّ ما ورَدَ به الشَّرعُ مُطلقًا، ولا ضابطَ له فيه ولا في اللُّغةِ، يُحَكَّمُ فيه العُرفُ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ [1441] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/391)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 98)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/313). .
واستُعمِلت أيضًا بصيغةِ: "كُلُّ ما ورَدَ به الشَّرعُ مُطلقًا فالمَرجِعُ في تَحديدِه إلى العُرفِ والعادةِ" [1442] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) للأصبهاني (4/218). ، وصيغةِ: "ما ورَدَ به الشَّرعُ مُطلقًا إنَّما يُحمَلُ على العُرفِ والعادةِ" [1443] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/10). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما ورَدَ به الشَّرعُ مُطلقًا، ولا بُدَّ مِن تَقديرِه، ولم يَكُنْ له أصلٌ في الشَّرعِ ولا في اللُّغةِ: رُجِع فيه إلى العُرفِ والعادةِ" [1444] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (1/344). ، وصيغةِ: "كُلُّ اسمٍ ليسَ له حَدٌّ في اللُّغةِ ولا في الشَّرعِ فالمَرجِعُ فيه إلى العُرفِ" [1445] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/40). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ كُلَّ ما ورَدَ به الشَّرعُ مُطلقًا، ويُحتاجُ إلى تَقديرِه، فإنَّما يُحمَلُ تَحديدُه على العُرفِ والعادةِ، فإن أُريدَ به ما يُخالفُ العادةَ وجَبَ بَيانُه وإيضاحُه؛ لئَلَّا يَكونَ تَلبيسًا في الشَّريعةِ. وضابطُه: كُلُّ فِعلٍ رُتِّبَ عليه الحُكمُ، ولا ضابِطَ له في الشَّرعِ ولا في اللُّغةِ.
وبَيانُ ذلك أنَّ بَعضَ الأسماءِ والكَلِماتِ حَدَّدَ الشَّرعُ لها مَعنًى ودَلالةً خاصَّةً، وهيَ الألفاظُ الشَّرعيَّةُ أوِ المُصطَلحاتُ الشَّرعيَّةُ، كالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحَجِّ، والإيمانِ، والإسلامِ، والتَّقوى، والكُفرِ، والنِّفاقِ، وهذا ما بَيَّنَه اللهُ ورَسولُه، فيَجِبُ الالتِزامُ بدَلالتِها الشَّرعيَّةِ.
وبَعضُ الألفاظِ والكَلماتِ يَرجِعُ النَّاسُ في دَلالتِها إلى العادةِ والعُرفِ، كالبَيعِ، والنِّكاحِ، والقَبضِ، والدِّرهَمِ، والدِّينارِ، فليسَ لها حَدٌّ في الشَّرعِ، ولا في اللُّغةِ، ويَختَلفُ النَّاسُ في قَدرِها وصِفتِها باختِلافِ عاداتِهم في الزَّمانِ والمَكانِ؛ ولذلك تبقى دَلالتُها بحَسَبِ العُرفِ والعادةِ، ويَرجِعُ في تَحديدِ مَعناها إلى العُرفِ الذي هو عادةُ النَّاسِ في قَولٍ أو فِعلٍ [1446] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/10)، ((المنثور)) للزركشي (2/391)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/452)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/314). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ ما أطلقَه الشَّرعُ ولم يَجعَلْ له ضابطًا، ولا ضابطَ له في اللُّغةِ: فيَجِبُ فيه تَحكيمُ عُرفِ النَّاسِ وعادَتِهم؛ لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الوَزنُ وَزنُ أهلِ مَكَّةَ، والمِكيالُ مِكيالُ أهلِ المَدينةِ )) [1447] أخرجه أبو داود (3340) واللفظ له، والنسائي (2520). صححه الدارقطني كما في ((التخليص الحبير)) لابن حجر (2/759)، وابن حزم في ((المحلى)) (11/353)، وابن عبدالبر في ((التمهيد)) (1/279)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/562)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3340)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (767). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على اعتِبارِ الوزنِ والمِكيالِ باعتِبارِ العُرفِ والعادةِ؛ لأنَّ ما ورَدَ به الشَّرعُ مُطلقًا وليسَ له حَدٌّ في الشَّرعِ ولا في اللُّغةِ، يُرجَعُ فيه إلى العُرفِ والعادةِ [1448] يُنظر: ((تكملة السبكي للمجموع)) (10/271). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- اعتَبَرَ بَعضُ العُلماءِ أنَّ ما كان سَفرًا في عُرفِ النَّاسِ فهو السَّفرُ الذي عَلَّقَ به الشَّارِعُ الحُكمَ؛ لأنَّ السَّفرَ ليسَ له حَدٌّ في اللُّغةِ ولا في الشَّرعِ، فالمَرجِعُ فيه إلى العُرفِ [1449] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/40)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/613). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (ولم يَحُدَّ لأُمَّتِه مَسافةً مَحدودةً للقَصرِ والفِطرِ، بَل أطلَقَ لهم ذلك في مُطلَقِ السَّفَرِ والضَّربِ في الأرضِ، كَما أطلقَ لهمُ التَّيَمُّمَ في كُلِّ سَفَرٍ، وأمَّا ما يُروى عنه مِنَ التَّحديدِ باليَومِ أوِ اليَومَينِ أوِ الثَّلاثةِ، فلم يَصِحَّ عنه مِنها شَيءٌ البَتَّةَ) [1450] ((زاد المعاد)) (1/613). .
2- الحِرزُ في السَّرِقةِ مِمَّا يُعتَبَرُ حَدُّه في العُرفِ؛ حَيثُ لا تَحديدَ له في الشَّرعِ ولا في اللُّغةِ، ويَختَلفُ بَينَ مالٍ ومالٍ، وبَينَ حالٍ وحالٍ، فيَختَلفُ حالُه باختِلافِ الأحوالِ والأزمِنةِ، ويَختَلفُ الحِرزُ باختِلافِ عَدلِ السُّلطانِ وجَورِه، والأمنِ والخَوفِ. وهذه الأشياءُ لا تَكادُ تَنضَبطُ، وكُلُّ مَوضِعٍ في كُلِّ شَيءٍ مِن ذلك يُرجَعُ إلى أهلِ ناحيَتِه، فما عَدُّوه حِرزًا فالمالُ مُحرَزٌ، وما لا فلا [1451] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/391)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/452)، ((توضيح الأحكام)) لعبد الله البسام (1/57). .
3- أنَّ اللَّهَ تعالى أحَلَّ البَيعَ، ولمَ يَثبُتْ في الشَّرعِ لَفظٌ له، فوجَبَ الرُّجوعُ إلى العُرفِ، فكُلُّ ما عَدَّه النَّاسُ بَيعًا كان بَيعًا، كَما في القَبضِ والحِرزِ وإحياءِ المَواتِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الألفاظِ المُطلَقةِ؛ فإنَّها كُلَّها تُحمَلُ على العُرفِ [1452] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (9/163). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِشكالٌ:
استُشكِل على القاعِدةِ بأنَّ الفُقَهاءَ قالوا في الأيمانِ: إنَّها تُبنى أوَّلًا على اللُّغةِ ثُمَّ على العُرفِ. وهذا مُخالِفٌ لكَلامِ الأُصوليِّينَ مِن أنَّه يُقدَّمُ الاستِعمالُ الشَّرعيُّ ثُمَّ العُرفيُّ ثُمَّ اللُّغَويُّ.
والجَوابُ: أنَّ كَلامَ الأُصوليِّينَ إنَّما هو في الحَقائِقِ والأدِلَّةِ التي تُستَنبَطُ مِنها الأحكامُ، فيُقدَّمُ فيها الاستِعمالُ الشَّرعيُّ على العُرفيِّ، كَبَيعِ الهازِلِ وطَلاقِه؛ فإنَّه نافِذٌ، وإن كان أهلُ العُرفِ لا يُنفِذونَه، ويُقدَّمُ العُرفيُّ فيهما على اللُّغَويِّ عِندَ التَّعارُضِ؛ لأنَّ العُرفَ طارِئٌ على اللُّغةِ، فهو كالنَّاسِخِ لها [1453] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/391)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/272)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 98). .
استِثناءاتٌ:
لم يُجِرِ الفُقَهاءُ هذه القاعِدةَ في كُلِّ المَواضِعِ، كَما في المَسائِلِ الآتيةِ [1454] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/392)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 99). :
1- البَيعُ بالمُعاطاةِ لا يَصِحُّ عِندَ الشَّافِعيِّ، ولو جَرَتِ العادةُ بها فيما يَعُدُّونَه بَيعًا.
2- استِصناعُ الصُّنَّاعِ الجاريةِ عادَتُهم بالعَمَلِ بالأُجرةِ لا يَستَحِقُّونَ شَيئًا عِندَ الشَّافِعيِّ إذا لم يَشرِطوه.
3- إذا وجَبَتِ الموالاةُ في الوُضوءِ فلا يُرجَعُ في ضَبطِها للعُرفِ، وضُبطَت بأن تَمضيَ مُدَّةٌ يَجِفُّ فيها العُضوُ الذي قَبلَه.
4- إذا وجَبَ إيصالُ الماءِ إلى باطِنِ الشَّعرِ الخَفيفِ، فلا يُرجَعُ في ضَبطِ الخِفَّةِ للعُرفِ، وضُبطَ بما تُرى مِنه البَشَرةُ في مَجلِسِ التَّخاطُبِ.

انظر أيضا: