موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الحادي والعِشرونَ: العَقدُ المُطلَقُ مَحمولٌ على المعتادِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "العَقدُ المُطلَقُ مَحمولٌ على المُعتادِ" [1485] يُنظر: ((فتح العزيز)) للرافعي (9/64). ، وصيغةِ: "تَنزيلُ العَقدِ المُطلَقِ على المُعتادِ" [1486] يُنظر: ((شرح مشكل الوسيط)) لابن الصلاح (4/258). ، وصيغةِ: "العَقدُ إذا كان مُطلقًا يَجِبُ حَملُه على المُتَعارَفِ" [1487] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/53). ، وصيغةِ: "العَقدُ المُطلَقُ يُرجَعُ في موجِبِه إلى العُرفِ" [1488] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/91). ، وصيغةِ: "العَقدُ إذا أُطلِقَ حُمِل على مُقتَضاه وما جَرى العُرفُ به" [1489] يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (2/1125). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العَقدَ المُطلَقَ مِن كُلِّ قَيدٍ أو شَرطٍ يُحمَلُ على عُرفِ النَّاسِ وعاداتِهم، ويُرجَعُ في موجِبِه إلى العُرفِ إذا لم يَكُنْ هناكَ تَحديدٌ لَفظيٌّ مِنَ الطَّرَفينِ، كالالتِزاماتِ النَّاشِئةِ عنِ العَقدِ، فإنَّه يُرجَعُ في تَحديدِها ومَن تَجِبُ عليه إلى العُرفِ، كَنَفقةِ المُضارِبِ، وأُجرةِ السِّمسارِ، وكِتابةِ الصَّكِّ، وأُجرةِ إخراجِ البضاعةِ المَبيعةِ مِن مُستَودَعِها، وأُجرةِ كَيلِها أو وزنِها مِن أجلِ تَسليمِها، كُلُّ ذلك يَرجِعُ إلى عُرفِ المُتَبايِعَينِ إذا لم يَكُنْ هناكَ تَحديدٌ لفظيٌّ مِن قِبَلِهما. وإنَّما يُحمَلُ العَقدُ المُطلَقُ على العادةِ؛ لأنَّ العَقدَ المُتَعارَفَ عليه يُعقَدُ بناءً على أمرٍ تقَرَّرَ عِندَ الطَّرَفينِ العِلمُ به، بحَيثُ يَعرِفُ كُلٌّ مِنهما مَقصودَ صاحِبِه مِنَ العَقدِ، وأنَّه ليسَ بمُطلَقٍ، بَل مُقَيَّدٌ بأشياءَ مُتَعارَفٍ عليها في هذا العَقدِ، فتَكونُ في قوَّةِ المَنطوقِ في تَحديدِ المُرادِ به؛ فإنَّ العُرفَ كاللَّفظِ، ويَتَقَيَّدُ العَقدُ بما جَرى عليه العُرفُ [1490] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/91)، ((القواعد والضوابط الفقهية للمعاملات المالية عند ابن تيمية)) لعبدالسلام الحصين (2/112)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/317)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (6/405). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (سَلامةُ المَبيعِ مِنَ العُيوبِ، وحُلولُ الثَّمَنِ، وسَلامةُ المَرأةِ والزَّوجِ مِن مَوانِعِ الوَطءِ، وإسلامُ الزَّوجِ وحُرِّيَّتُه إذا كانتِ الزَّوجةُ حُرَّةً مُسلِمةً: هو موجِبُ العَقدِ المُطلَقِ ومُقتَضاه؛ فإنَّ موجِبَ العَقدِ هو ما يَظهَرُ عُرفًا أنَّ العاقِدَ شَرَطَه وإن لم يَتَلفَّظْ به، كسَلامةِ المَبيعِ) [1491] ((الصارم المسلول)) (ص: 213). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّها تَقضي بوُجوبِ الرُّجوعِ في العَقدِ المُطلَقِ إلى عُرفِ النَّاسِ وتَعامُلِهم في مِثلِ هذه العُقودِ؛ وذلك لأنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ الإجماعِ
نَفى ابنُ تيميَّةَ الخِلافَ في بَعضِ صُوَرِ القاعِدةِ [1492] قال: (يُحمَلُ العَقدُ المُطلَقُ على ما يَعرِفُه المُتَبايِعانِ باتِّفاقِ الفُقَهاءِ). ((مجموع الفتاوى)) (20/437). وقال أيضًا: (لو زادَ على موجِبِ العَقدِ المُطلَقِ، أو نَقَص مِنه: فإنَّه يَجوزُ بغَيرِ خِلافٍ أعلَمُه في النِّكاحِ؛ فإنَّ العَقدَ المُطلَقَ يَقتَضي مِلكَ الاستِمتاعِ المُطلَقِ الذي يَقتَضيه العُرفُ؛ حَيثُ شاءَ ومَتى شاءَ، فيَنقُلُها إلى حَيثُ شاءَ إذا لم يَكُنْ فيه ضَرَرٌ إلَّا ما استُثنيَ مِنَ الاستِمتاعِ المُحَرَّمِ، أو كان فيه ضَرَرٌ؛ فإنَّ العُرف لا يَقتَضيهـ). ((مجموع الفتاوى)) (29/173). .
2- مِنَ القَواعِدِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- العَقدُ المُطلَقُ في البَيعِ يوجِبُ النَّقدَ المَعروفَ، فيَجوزُ بَيعُ الشَّيءِ بسِعرِه الذي استَقَرَّ عليه وبرَقمِه (وهو السِّعرُ المَكتوبُ عليهـ) وإن لم يَعلَمْه المُشتَري حالَ الشِّراءِ؛ لأنَّ موجِبَ العَقدِ المُطلَقِ في العُرفِ البَيعُ بثَمَنِ المِثلِ، فإنَّ النَّاسَ في العادةِ يَرضَونَ به، وإذا حَصَل غَبنٌ في ثَمَنِ المَبيعِ كان له الخيارُ في الفسخِ والإمضاءِ. فإن شَرَطَ أحَدُهما على صاحِبِه شَرطًا لا يُحرِّمُ حَلالًا ولا يُحَلِّلُ حَرامًا فالمُسلمونَ عِندَ شُروطِهم؛ فإنَّ موجِباتِ العُقودِ تُتَلقَّى مِنَ اللَّفظِ تارةً، ومِنَ العُرفِ تارةً أُخرى؛ لكِنْ كِلاهما مُقَيَّدٌ بما لم يُحرِّمْه اللَّهُ ورَسولُه فإنَّ لكُلٍّ مِنَ العاقِدَينِ أن يوجِبَ للآخَرِ على نَفسِه ما لم يَمنَعْه اللهُ مِن إيجابِه [1493] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/91)، ((القواعد والضوابط الفقهية للمعاملات المالية عند ابن تيمية)) لعبدالسلام الحصين (2/217)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/317). .
2- الإجارةُ المُطلَقةُ تُحمَلُ على المَنفعةِ المُعتادةِ مِمَّا يَتَناوَلُه لفظُ الإجارةِ، أوِ العُرفِ المُعتادِ كان للمُستَأجرِ؛ لأنَّ العَقدَ العُرفيَّ كاللَّفظيِّ، فإذا تَعارَفا على شَيءٍ، وعَقَدا العَقدَ مُطلقًا مِن قَيدٍ أو شَرطٍ، تَقَيَّدَ بالمُتَعارَفِ بَينَهم، كَإجارةِ الأرضِ ليَنتَفِعَ بها انتِفاعَ مِثلِه بمِثلِها [1494] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية للمعاملات المالية عند ابن تيمية)) لعبدالسلام الحصين (2/218)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/318). .
3- العَقدُ المُطلَقُ في النِّكاحِ يوجِبُ عِندَ الجُمهورِ سَلامةَ الزَّوجةِ مِن مَوانِعِ الوَطءِ كالرَّتقِ، وسَلامَتِها مِنَ الجُنونِ والجُذامِ والبَرَصِ، وكذلك سَلامَتُهما مِنَ العُيوبِ التي تمنَعُ كَمالَه [1495] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/175). .

انظر أيضا: