المَبحَثُ الأوَّلُ: قاعِدةُ العادةُ مُحَكَّمةٌ.
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاشتَهَرَتِ القاعِدة بهذه الصِّيغةِ: "العادةُ مُحَكَّمةٌ"
[1213] يُنظر: ((البرهان)) (1/222)، ((نهاية المطلب)) (8/163) كلاهما للجويني، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/460)، ((الغيث الهامع)) للعراقي (ص: 658)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2151)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3851)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 89)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 79)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 20). ، واستُعمِلت أيضًا بصيغةِ: "العادةُ تَحكُمُ"
[1214] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/471). ، وصيغةِ: "العادةُ تَحكُمُ فيما لا ضَبطَ له شَرعًا"
[1215] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/356). ، وصيغةِ: "اعتِبارُ العادةِ والرُّجوعُ إليها"
[1216] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/137)، ((القواعد)) للحصني (1/357). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالعادةُ هيَ الأمرُ الذي يَتَقَرَّرُ بالنُّفوسِ، ويَكونُ مَقبولًا عِندَ ذَوي الطِّباعِ السَّليمةِ بتَكرارِه المَرَّةَ بَعدَ المَرَّةِ، والعُرفُ بمَعنى العادةِ أيضًا، وهو دَليلٌ تُبنى عليه أحكامٌ. ومَعنى (مُحَكَّمةٌ) أي: هيَ المَرجِعُ عِندَ النِّزاعِ؛ لأنَّها دَليلٌ يُبنى عليه الحُكمُ، وقُيِّدَتِ العادةُ المُعتَبَرةُ بألَّا تُخالِفَ نَصًّا شَرعيًّا، وبأن تَكونَ مُطَّرِدةً وغالبةً لا مُضطَرِبةً، وقُيِّدَ العُرفُ بأن يَكونَ سابقًا لإنشاءِ التَّصَرُّفِ، أو مُقارِنًا له. فإنَّما تُعتَبَرُ العادةُ إذا اطَّرَدَت أو غَلبَت.
فالعادةُ -عامَّةً كانت أو خاصَّةً- تُجعَلُ حُكمًا لإثباتِ حُكمٍ شَرعيٍّ إذا لم يَرِدْ نَصٌّ في ذلك الحُكمِ المُرادِ إثباتُه بخُصوصِه، فإذا لم يَرِدْ نَصٌّ يُخالفُها أصلًا، أو ورد ولكِن كان عامًّا، فإنَّ العادةَ تُعتَبَرُ، وإذا ورَدَ النَّصُّ عُمِل بموجِبِه، ولا يَجوزُ تَركُ النَّصِّ والعَمَلُ بالعادةِ؛ لأنَّه ليسَ للعِبادِ حَقُّ تَغييرِ النُّصوصِ، والنَّصُّ أقوى مِنَ العُرفِ؛ لأنَّ العُرفَ قد يَكونُ مُستَنِدًا إلى باطِلٍ، أمَّا نَصُّ الشَّارِعِ، فلا يَجوزُ مُطلقًا أن يَكونَ مَبنيًّا على باطِلٍ؛ فلذلك لا يُترَكُ القَويُّ لأجلِ العَمَلِ بالضَّعيفِ.
وأقسامُ العُرفِ والعادةِ تَكونُ مِن وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: يَنقَسِمُ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ1- العُرفُ العامُّ: وهو عُرفُ هَيئةٍ، غَيرُ مَخصوصٍ بطَبَقةٍ مِن طَبَقاتِها، وواضِعُه غَيرُ مُتَعَيِّنٍ، وهو العُرفُ الجاري مُنذُ عَهدِ الصَّحابةِ حتَّى زَمانِنا، والذي قَبِلَه المُجتَهدونَ وعَمِلوا به.
مِثالُ ذلك: إذا حَلف شَخصٌ قائِلًا: (واللَّهِ لا أضَعُ قدَمي في دارِ فُلانٍ)، فإنَّه يَحنَثُ إذا دَخَل تلك الدَّارَ، سَواءٌ دَخَل ماشيًا أو راكِبًا، أمَّا لو وضَعَ قدَمَه في الدَّارِ دونَ أن يُدخِلَها لا يَحنَثُ؛ لأنَّ وضعَ القدَمِ في العُرفِ العامِّ بمَعنى الدُّخولِ.
2- العُرفُ الخاصُّ: وهو اصطِلاحُ طائِفةٍ مَخصوصةٍ على شَيءٍ، كاستِعمالِ عُلماءِ النَّحوِ لفظةَ (الرَّفع)، وعُلماءِ الأدَبِ كَلِمةَ (النَّقدِ).
والفرقُ بَينَ العُرفِ العامِّ والعُرفِ الخاصِّ: أنَّ العُرفَ العامَّ يَثبُتُ به حُكمٌ عامٌّ. مِثالُ ذلك: لو حَلف شَخصٌ فقال: لا أضَعُ قدَمي في دارِ فُلانٍ، فبما أنَّ مَعنى ذلك في اللُّغةِ (لا أضَعُ رِجلي)، وفي العُرفِ العامِّ (لا أدخُلُ)، يَثبُتُ ذلك في حَقِّ العُمومِ.
أمَّا العُرفُ الخاصُّ فإنَّه يَثبُتُ به حُكمٌ خاصٌّ فقَط، مِثالُ ذلك: لو تُعورِف في بَلدةٍ وَقفُ المَنقولِ
[1217] المَنقولُ: هو الشَّيءُ الذي يُمكِنُ نَقلُه مِن مَحَلٍّ إلى آخَرَ، ويَشمَلُ النُّقودَ والعُروضَ والحَيَواناتِ، والمَكيلاتِ والموزوناتِ. يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 31). غَيرِ المُتَعارَفِ وَقفُه في بَلدةٍ أُخرى، يُحكَمُ بصِحَّةِ وَقفِ ذلك المَنقولِ فيها فقَط.
3- العُرفُ الشَّرعيُّ: هو عِبارةٌ عنِ الاصطِلاحاتِ الشَّرعيَّةِ، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والحَجِّ.
الوَجهُ الثَّاني: يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ1- العُرفُ القَوليُّ: وهو اصطِلاحُ جَماعةٍ على لفظٍ يَستَعمِلونَه في مَعنًى مَخصوصٍ، حتَّى يَتَبادَرَ مَعناه إلى ذِهنِ أحَدِهم بمُجَرَّدِ سَماعِه، وهذا العُرفُ أيضًا يُسَمَّى عُرفًا مُخَصَّصًا.
2- العُرفُ العَمَليُّ: كتَعَوُّدِ أهلِ بَلدةٍ مَثَلًا على أكلِ لحمِ الضَّأنِ أو خُبزِ القَمحِ، فلو وكَّل شَخصٌ مِن تلك البَلدةِ آخَرَ بأن يَشتَريَ له خُبزًا أو لحمًا، فليسَ للوكيلِ أن يَشتَريَ للموكِّلِ لحمَ جَمَلٍ أو خُبزَ ذُرَةٍ أو شَعيرٍ استِنادًا على هذا الإطلاقِ
[1218] يُنظر لهذا المَعنى الإجماليِّ: ((الفروق)) للقرافي (1/ 187-192)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 90)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/44)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 219)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/298)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/297). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:- قال اللهُ تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ ظاهرُ هذه الآيةِ على أنَّ كُلَّ ما شَهِدَت به العادةُ قُضيَ به، إلَّا أن يَكونَ هناكَ بَيِّنةٌ، والمُرادُ بالعُرفِ هنا: المَعروفُ مِنَ الدِّينِ، المَعلومُ مِن مَكارِمِ الأخلاقِ ومَحاسِنِ الأعمالِ، المُتَّفَقُ عليه في كُلِّ شَريعةٍ.
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ تَتَناولُ جَميعَ المَأموراتِ والمَنهيَّاتِ
[1219] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/362)، ((الفروق)) للقرافي (3/149). .
- ومِنَ الأدِلَّةِ القُرآنيَّةِ أنَّه قد ورَدَ الأمرُ في أحكامٍ مُختَلفةٍ بالرُّجوعِ فيها إلى العُرفِ والعادةِ، ومِنها قَولُ اللهِ تعالى:
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تُفيدُ هذه الآيةُ الرُّجوعَ إلى العُرفِ وتَحكيمَه؛ حَيثُ إنَّ قَولَ اللهِ تعالى:
بِالْمَعْرُوفِ يَدُلُّ على أنَّ الواجِبَ مِنَ النَّفقةِ والكِسوةِ هو على قدرِ حالِ الرَّجُلِ في إعسارِه ويَسارِه؛ إذ ليسَ مِنَ المَعروفِ إلزامُ المُعسِرِ أكثَرَ مِمَّا يَقدِرُ عليه ويُمكِنُه، ولا إلزامُ الموسِرِ الشَّيءَ الطَّفيفَ، ويَدُلُّ أيضًا على أنَّ النَّفقةَ والكِسوةَ هنا على مِقدارِ الكِفايةِ مَعَ اعتِبارِ حالِ الزَّوجِ، وقد بَيَّنَ ذلك بقَولِه عَقيبَ ذلك:
لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا، فإذا اشتَطَّتِ المَرأةُ وطَلبَت مِنَ النَّفقةِ أكثَرَ مِنَ المُعتادِ المُتَعارَفِ لمِثلِها لم تُعطَ، وكذلك إذا قَصَّرَ الزَّوجُ عن مِقدارِ نَفقةِ مِثلِها في العُرفِ والعادةِ لم يَحِلَّ ذلك، وأُجبرَ على نَفقةِ مِثلِها
[1220] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/489). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- بوَّب البخاريُّ فقال: (بابُ مِن أجرى أمرَ الأمصارِ على ما يَتَعارَفونَ بَينَهم: في البُيوعِ والإجارةِ والمِكيالِ والوَزنِ، وسُنَنِهم على نيَّاتِهم ومَذاهِبِهمُ المَشهورةِ) ثُمَّ ذَكَرَ الآياتِ مُشيرًا إلى فِعلِ الحَسَنِ فقال: (واكتَرى الحَسَنُ مِن عَبدِ اللَّهِ بنِ مِرداسٍ حِمارًا، فقال: بكم؟ قال: بدانَقَينِ، فرَكِبَه ثُمَّ جاءَ مَرَّةً أُخرى، فقال: الحِمارَ الحِمارَ، فرَكِبَه ولم يُشارِطْه، فبَعَثَ إليه بنِصفِ دِرهَمٍ).
[1221] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزم قَبل حَديث (2210) واللَّفظُ له، وأخرجه مَوصولًا سَعيدُ بنُ مَنصورٍ، كما في ((تغليق التعليق)) لابن حجر (3/263). قال ابنُ حَجَرٍ: (وَجهُ دُخولِه في التَّرجَمةِ ظاهِرٌ مِن جِهةِ أنَّه لم يُشارِطْه اعتِمادًا على الأُجرةِ المُتَقدِّمةِ)
[1222] ((فتح الباري)) (4/407). .
ثُمَّ ذَكَرَ البخاريُّ حَديثَ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((حَجم رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبو طَيبةَ، فأمَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصاعٍ مِن تَمرٍ )) [1223] أخرجه البخاري (2210) واللفظ له، ومسلم (1577). قال ابنُ حَجَرٍ: (وَجهُ دُخولِه في التَّرجَمةِ كَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُشارِطْه على أُجرَتِه اعتِمادًا على العُرفِ في مِثلِهـ)
[1224] ((فتح الباري)) (4/407). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ هندَ بنتَ عُتبةَ قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ، وليسَ يُعطيني ما يَكفيني ووَلَدي إلَّا ما أخَذتُ مِنه وهو لا يَعلَمُ، فقال:
((خُذي ما يَكفيكِ ووَلَدَكِ بالمَعروفِ)) [1225] أخرجه البخاري (5364) واللفظ له، ومسلم (1714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ دَلالةً واضِحةً على اعتِمادِ العُرفِ في الأُمورِ التي ليسَ فيها تَحديدٌ شَرعيٌّ؛ إذِ النَّفقةُ ليسَت مُقدَّرةً بمِقدارٍ مَخصوصٍ، وإنَّما ذلك بحَسَبِ الكِفايةِ المُعتادةِ، وهذا يَدُلُّ على اعتِبارِ العُرفِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ
[1226] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (5/161)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/8)، ((العدة)) لابن العطار (3/1557). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (الصَّوابُ المَقطوعُ به عِندَ جُمهورِ العُلماءِ أنَّ نَفقةَ الزَّوجةِ مَرجِعُها إلى العُرفِ، وليسَت مُقدَّرةً بالشَّرعِ، بَل تَختَلفُ باختِلافِ أحوالِ البلادِ والأزمِنةِ، وحالِ الزَّوجَينِ وعادَتِهما؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قال:
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "خُذي ما يَكفيكِ ووَلَدَكِ بالمَعروفِ")
[1227] ((مجموع الفتاوى)) (34/83). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (المُرادُ مِنها قَولُه: "خُذي مِن مالِه ما يَكفيكِ بالمَعروفِ" فأحالها على العُرفِ فيما ليسَ فيه تَحديدٌ شَرعيٌّ)
[1228] ((فتح الباري)) (4/407). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن عَمِل عَمَلًا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدَّ )) [1229] أخرجه مسلم (1718). وأخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ قَبلَ حَديث (7350) دونَ ذِكرِ راويه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ بعُمومِه على اعتِبارِ ما عليه المُسلمونَ: إمَّا مِن جِهةِ الأمرِ الشَّرعيِّ، أو مِن جِهةِ العادةِ المُستَقِرَّةِ؛ فإنَّ عُمومَ قَولِه:
((ليسَ عليه أمرُنا)) يَشمَلُ ذلك
[1230] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/140)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2153)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3855). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((المِكيالُ مِكيالُ أهلِ المَدينةِ، والوَزنُ وَزنُ أهلِ مَكَّةَ )) [1231] أخرجه أبو داود (3340)، والنسائي (2520) واللفظ له صححه الدارقطني كما في ((التخليص الحبير)) لابن حجر (2/759)، وابن حزم في ((المحلى)) (11/353)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (1/279)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/562)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3340)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (767). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ أهلَ المَدينةِ لمَّا كانوا أصحابَ نَخيلٍ وزَرعٍ اعتُبرَت عادَتُهم في مِقدارِ الكَيلِ، وأهلُ مَكَّةَ كانوا أهلَ تِجارةٍ، فاعتُبرَت عادَتُهم في الوَزنِ
[1232] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1:140)، ((القواعد)) للحصني (1/358)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2153)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3855). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَتَخَرَّجُ على هذه القاعِدةِ كَثيرٌ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ. قال تَقيُّ الدِّينَ الحصنيُّ: (يَنبَني على هذه القاعِدةِ مِنَ المَسائِلِ الفِقهيَّةِ ما لا يَكادُ يَتَعَدَّدُ)
[1233] ((القواعد)) (1/360). ، وقال السُّيوطيُّ: (اعلَمْ أنَّ اعتِبارَ العادةِ والعُرفِ رُجِعَ إليه في الفِقهِ في مَسائِلَ لا تُعَدُّ كَثرةً)
[1234] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 90). .
ومِنَ الأمثِلةِ المُخَرَّجةِ على هذه القاعِدةِ:
1- الرُّجوعُ إلى العادةِ في كُلِّ فِعلٍ غَيرِ مُنضَبطٍ رُتِّبَت عليه الأحكامُ، كَما في قَبضِ الأعيانِ المَرهونةِ والمَوهوبةِ، وغَيرِ ذلك مِمَّا يَتَرَتَّبُ فيه على القَبضِ أحكامٌ شَرعيَّةٌ؛ فإنَّ العادةَ تَختَلفُ في القَبضِ بحَسَبِ اختِلافِ المالِ، فيُرجَعُ فيه إلى العادةِ؛ فما كان يُتَناوَلُ باليَدِ اشتُرِطَ فيه حَقيقةُ القَبضِ، ولو جاءَ به البائِعُ وقال له المُشتَري: ضَعْه، فوضَعَه بَينَ يَدَيه، حَصَل القَبضُ؛ لدَلالةِ العادةِ في مِثلِه
[1235] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/473)، ((القواعد)) للحصني (1/360)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3857). .
2- الرُّجوعُ إلى العادةِ في مِقدارِ ما يُحمَلُ اللَّفظُ عليه، كألفاظِ الأيمانِ التي تَختَلفُ عاداتُ النَّاسِ في المَحلوفِ عليه، كمَن حَلَف لا يَأكُلُ الرُّؤوسَ، فإنَّه يُحمَلُ على الرُّؤوسِ المُعتادِ بَيعُها مُنفرِدةً. وكَذا إطلاقُ النُّقودِ في المُعامَلاتِ يَنصَرِفُ إلى ما جَرَت به عادةُ ذلك البَلَدِ، فيُحمَلُ عليها، وليسَ للبائِعِ المُطالَبةُ بغَيرِها إلَّا أن يُعَيِّنَه في العَقدِ، وكذلك الرُّجوعُ إلى العادةِ في ألفاظِ الواقِفِ، وألفاظِ الموصي
[1236] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/144)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/473)، ((القواعد)) للحصني (1/366، 387). .
3- اعتَمَدَ الشَّافِعيُّ على العادةِ في أقَلِّ سِنٍّ تَحيضُ فيه المَرأةُ، ووقتِ إمكانِ البُلوغِ، وفي قَدرِ أقَلِّ الحَيضِ وأكثَرِه وغالِبِه، وفي قَدرِ أقَلِّ الطُّهرِ الفاصِلِ بَينَ الحَيضَتَينِ، وأقَلِّ النِّفاسِ وأكثَرِه وغالِبِه
[1237] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/356)، ((القواعد)) للحصني (1/360)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2154). .
4- يَجِبُ إرضاعُ المَولودِ على المَولودِ لها مِمَّا خَلقَ اللهُ في صَدرِها عِندَ عامَّةِ العُلماءِ في الجُملةِ؛ للنُّصوصِ الدَّالَّةِ على وُجوبِ الإرضاعِ لكُلِّ مَن أنجَبَ اللَّهُ لها ولدًا ودَرَّ في ضَرعِها لبَنًا، كَقَولِ اللهِ تعالى:
وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [سورة البقرة: 233]، ولأنَّ إيجابَ الإرضاعِ على المَولودِ لها هو مُقتَضى الحاجةِ الفِطريَّةِ والعُرفِ، والعادةُ مُحَكَّمةٌ
[1238] يُنظر: ((النوازل في الرضاع)) لعبد الله الأحمد (ص: 341). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ1-
استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ مَسألتانِ على ظاهرِ مَذهَبِ الشَّافِعيِّ الذي نَصَّ عليه:
الاستِثناءُ الأوَّلُ: استِصناعُ الصُّنَّاعِ الذينَ جَرَت عادَتُهم أنَّهم لا يَعمَلونَ إلَّا بالأُجرةِ لمَن طَلبَ مِنهم صُنعَ شَيءٍ، كالغَسَّالِ والحَلَّاقِ ونَحوِهما، فعِندَ الشَّافِعيِّ: إذا لم يَجرِ استِئجارٌ لا يَستَحِقُّونَ شَيئًا
[1239] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/357)، ((القواعد)) للحصني (1/368). .
الاستِثناءُ الثَّاني: صِحَّةُ البَيعِ بالمُعاطاةِ، فقد نَصَّ الشَّافِعيُّ على أنَّه: لا يَصِحُّ إلَّا بالإيجابِ والقَبولِ. والجُمهورُ خَصَّصوا ذلك عنه بالمُحَقَّراتِ. والمُختارُ للفتوى عِندَ الشَّافِعيَّةِ أنَّ: كُلَّ ما جَرَتِ العادةُ بالمُعاطاةِ فيه وعَدُّوه بَيعًا فهو بَيعٌ، وما لم تَجرِ العادةُ فيه بالمُعاطاةِ كالجَواري والدَّوابِّ والعَقارِ لا يَكونُ بَيعًا
[1240] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/357)، ((القواعد)) للحصني (1/369). .
قال النَّوويُّ: (هذا هو المُختارُ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أحَلَّ البَيعَ، ولم يَثبُتْ في الشَّرعِ لفظٌ له، فوجَبَ الرُّجوعُ إلى العُرفِ، فكُلُّ ما عَدَّه النَّاسُ بَيعًا كان بَيعًا، كَما في القَبضِ والحِرزِ وإحياءِ المَواتِ وغَيرِ ذلك مِنَ الألفاظِ المُطلَقةِ؛ فإنَّها كُلَّها تُحمَلُ على العُرفِ. ولفظةُ البَيعِ مَشهورةٌ، وقدِ اشتَهَرَتِ الأحاديثُ بالبَيعِ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم في زَمَنِه وبَعدَه، ولم يَثبُتْ في شَيءٍ مِنها مَعَ كَثرَتِها اشتِراطُ الإيجابِ والقَبولِ)
[1241] ((المجموع)) (9/163). .
2-
فوائِدُ:الفائِدةُ الأولى: إذا تَعارَضَ العُرفُ مَعَ الشَّرعِ فذلك نَوعانِ
أحَدُهما: أن لا يَتَعَلَّقَ بالشَّرعِ حُكمٌ، فيُقدَّمُ عليه عُرفُ الاستِعمالِ، كَما لو حَلف لا يَأكُلُ لحمًا، فإنَّه لا يَحنَثُ بالسَّمَكِ وإن سَمَّاه اللَّهُ لحمًا. أو حَلَف لا يَجلِسُ على بساطٍ أو تَحتَ سَقفٍ أو في ضَوءِ سِراجٍ، لم يَحنَثْ بالجُلوسِ على الأرضِ وإن سَمَّاها اللَّهُ بساطًا، ولا تَحتَ السَّماءِ وإن سَمَّاها اللَّهُ سَقفًا، ولا في الشَّمسِ وإن سَمَّاها اللَّهُ سِراجًا. أو حَلف لا يَضَعُ رَأسَه على وَتَدٍ، لم يَحنَثْ بوَضعِه على جَبَلٍ، أو لا يَأكُلُ مَيْتةً أو دَمًا، لم يَحنَثْ بالسَّمَكِ والجَرادِ والكَبِدِ والطِّحالِ. فقُدِّمَ العُرفُ في جَميعِ ذلك؛ لأنَّها استُعمِلَت في الشَّرعِ تَسميةً بلا تَعَلُّقٍ بحُكمٍ وتَكليفٍ.
والثَّاني: أن يَتَعَلَّقَ به حُكمٌ، فيُقدَّمُ على عُرفِ الاستِعمالِ، كَما لو حَلف لا يُصَلِّي، فإنَّه لا يَحنَثُ إلَّا بذاتِ الرُّكوعِ والسُّجودِ. أو حَلَف لا يَصومُ، لم يَحنَثْ بمُطلَقِ الإمساكِ. أو حَلَف لا يَنكِحُ، حَنِثَ بالعَقدِ لا بالوطءِ.
ولو كان اللَّفظُ يَقتَضي العُمومَ، والشَّرعُ يَقتَضي التَّخصيصَ، اعتُبِرَ خُصوصُ الشَّرعِ في الأصَحِّ؛ فلو حَلَف لا يَأكُلُ لحمًا لم يَحنَثْ بالمَيْتةِ، أو أوصى لأقارِبِه لم تَدخُلْ وَرَثَتُه؛ عَمَلًا بتَخصيصِ الشَّرعِ؛ إذ لا وصيَّةَ لوارِثٍ. أو حَلَف لا يَشرَبُ ماءً، لم يَحنَثْ بالمُتَغَيِّرِ كَثيرًا بزَعفرانٍ ونَحوِه
[1242] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/378)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 93)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 82). .
الفائِدةُ الثَّانيةُ: صَرَّحَ جَماعةٌ مِنَ الأُصوليِّينَ: بأنَّ التَّخصيصَ والتَّقييدَ إنَّما يَقَعُ بالعادةِ القَوليَّةِ دونَ الفِعليَّةِ، ومَثَّلوا للقَوليَّةِ: بما إذا غَلبَ في العُرفِ استِعمالُ الدَّابَّةِ في بَعضِ ما يَدِبُّ، كالحِمارِ مَثَلًا؛ فإنَّ اللَّفظَ المُطلَقِ للدَّابَّةِ يُنَزَّلُ عليه.
أمَّا لو كان فِعلًا مُجَرَّدًا، كَما لو كان عادَتُهم أنَّهم لا يَأكُلونَ إلَّا طَعامًا خاصًّا. ثُمَّ ورَدَ حُكمٌ يَتَعَلَّقُ بلفظِ الطَّعامِ، فإنَّه لا يُنزَّلُ ذلك اللَّفظُ على الطَّعامِ الذي لم تَجرِ عادَتُهم إلَّا بأكلِه دونَ غَيرِه
[1243] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/391). .