المَطلبُ الثَّامِنُ والعِشرونَ: لا يُترَكُ الظَّاهرِ بالمُحتَمَلِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "لا يُترَكُ الظَّاهرِ بالمُحتَمَلِ"
[596] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/291)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/162). ، وصيغةِ: "الظَّاهِرُ لا يُترَكُ للاحتِمالِ"
[597] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/193)، ((شرح العضد)) (2/649)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/83). ، وصيغةِ: "المَعلومُ الظَّاهِرُ لا يُترَكُ العَمَلُ به بالمُحتَمَلِ"
[598] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/208). ، وصيغةِ: "الظَّاهِرُ لا يُترَكُ إلَّا بدَليلٍ"
[599] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 74). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالاحتِمالُ لا يَرفعُ الظُّهورَ عنِ الدَّليلِ، إلَّا أن يَكونَ عليه دَليلٌ يَجعَلُه راجِحًا، فالظَّواهِرُ لا تُصرَفُ عنِ المُتَبادِرِ مِنها بمُجَرَّدِ الاحتِمالِ، فإذا عُلمَ مَعَ ذلك أنَّ الظُّهورَ يَكفي لحُجِّيَّةِ الدَّليلِ في الجُملةِ، ووُجوبِ العَمَلِ به، لم يَكُنْ للاحتِمالِ تَأثيرٌ في وُجوبِ العَمَلِ به
[600] يُنظر: ((القطعية من الأدلة الأربعة)) لمحمد دكوري (ص: 196). .
والسَّبَبُ في ذلك أنَّ الظَّاهرَ قَويٌّ، والمُحتَمَلُ ضَعيفٌ، ولمَّا كان الضَّعيفُ لا يَظهَرُ في مُقابَلةِ القَويِّ، فإنَّ العَمَلَ بالظَّاهرِ واجِبٌ، ولا يُترَكُ العَمَلُ به ولا يُؤَخَّرُ تَنفيذُ ما دَلَّ عليه لأجلِ المُحتَمَلِ الضَّعيفِ
[601] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/770). .
ولأنَّه لوِ اعتُبِرَ مُطلَقُ الاحتِمالِ لأدَّى ذلك إلى رَدِّ مُعظَمِ الوقائِعِ التي حَكَمَ فيها الشَّارِعُ؛ إذ ما مِن واقِعةٍ إلَّا ويُحتَمَلُ أن يَكونَ فيها تَجويزٌ عَقليٌّ، وقد نُقِل عنِ الشَّافِعيِّ قَولُه: (قَلَّ شَيءٌ إلَّا ويَطرُقُه الاحتِمالُ، ولكِنِ الكَلامُ على ظاهرِه حتَّى تَقومَ دَلالةٌ على أنَّه غَيرُ مُرادٍ)
[602] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/207). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الظَّاهرَ يَقينٌ، والمُحتَمَلُ أضعَفُ مِنه، فلا يَجوزُ تَركُ الظَّاهرِ مِن أجلِه؛ ولذلك عَبَّرَ عنها الشِّيرازيُّ بقَولِه: (لا يُترَكُ الظَّاهِرُ بالشَّكِّ)
[603] ((اللمع)) (ص: 37). ، وعَبَّرَ عنها الآمِديُّ بقَولِه: (الظَّاهِرُ لا يُترَكُ بالشَّكِّ والاحتِمالِ)
[604] ((الإحكام)) (2/116). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 70-74] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ أصحابَ البَقَرةِ اعتَبَروا الاحتِمالَ المُجَرَّدَ فشُدِّدَ عليهم؛ إذ تَعَمَّقوا في السُّؤالِ عَمَّا لم يَكُنْ لهم إليه حاجةٌ مَعَ ظُهورِ المَعنى، فالبَقَرةُ التي أُمِروا بذَبحِها احتَمَل عِندَهم أن تَكونَ فارِضًا أو بكرًا، كَما نَقَّبوا عنِ احتِمالِ كَونِها سَوداءَ اللَّونِ أو حَمراءَ أو صَفراءَ، وغَيرَ ذلك مِنَ الاحتِمالاتِ التي لمَّا اعتَدُّوا بها وطَرَقوها ابتِداءً -حينَ أُمِروا بذَبحِ بقرةٍ- سَألوا عَمَّا يُبَيِّنُ ذلك، فجاءَهم ما قَيَّدَ المَطلوبَ بما يَجعَلُه عَزيزًا
[605] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/402)، ((القطعية من الأدلة الأربعة)) لمحمد دكوري (ص: 200). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هَلكَ المُتَنَطِّعونَ )) قالها ثَلاثًا
[606] أخرجه مسلم (2670). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ المُتَنَطِّعَ هو المُتَعَمِّقُ في الشَّيءِ المُتَكَلِّفُ البَحثَ عنه على مَذاهِبِ أهلِ الكَلامِ الدَّاخِلينَ فيما لا يَعنيهمُ الخائِضينَ فيما لا تَبلُغُه عُقولُهم. وفيه دَليلٌ على أنَّ الحُكمَ بظاهرِ الكَلامِ، وأنَّه لا يُترَكُ الظَّاهِرُ إلى غَيرِه ما كان له مَساغٌ، وأمكَنَ فيه استِعمالٌ
[607] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/300)، ((المدخل إلى السنن الكبرى)) للبيهقي (2/465). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّه لا يُترَكُ الظَّاهِرُ القَويُّ للمُحتَمَلِ الضَّعيفِ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- إذا انقَطَعَ دَمُ الحَيضِ عنِ امرَأةٍ مُعتَدَّةٍ، فلها أن تَتَزَوَّجَ إن كان هذا آخِرَ عِدَّتِها؛ لأنَّها قد طَهُرَت ظاهرًا، واحتِمالُ تَوهُّمِ عَودةِ الدَّمِ لم يَتَأيَّدْ بدَليلٍ، والمَعلومُ الظَّاهِرُ لا يُترَكُ العَمَلُ به بالمُحتَمَلِ
[608] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/208). .
2- إذا وُجِدَ شَخصٌ بيَدِه سِكِّينٌ مُلوَّثةٌ بالدِّماءِ، وأمامَه قَتيلٌ يَتَشَحَّطُ في دَمِه، فإنَّ الظَّاهرَ أنَّ حامِلَ السِّكِّينِ هو القاتِلُ، فلا يَجوزُ تَركُه لاحتِمالِ أن يَكونَ غَيرُه قد قَتَلَه
[609] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/770). .
3- إذا رَأينا شَخصًا يَبيعُ سِلعةً فيَجوزُ لنا أن نَشتَريَها مِنه، ولا نَمتَنِعُ عن شِرائِها بحُجَّةِ أنَّه يُحتَمَلُ أن يَكونَ سارِقًا لها أو مُغتَصِبًا
[610] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/770). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفوائِدُ:1- يَتَفرَّعُ عن هذه القاعِدةِ مَسألةٌ أُصوليَّةٌ، وهيَ عَدَمُ تَركِ الحَديثِ لمُخالفةِ الرَّاوي له، فالرَّاوي عَدلٌ، وقد جَزَمَ بالرِّوايةِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الأصلُ في وُجوبِ العَمَلِ بالخَبَرِ، وأمَّا مُخالفةُ الرَّاوي له فيُحتَمَلُ أنَّه كان لنِسيانٍ طَرَأ عليه، ويُحتَمَلُ أنَّه كان لدَليلٍ اجتَهَدَ فيه وهو مُخطِئٌ فيه، أو هو مِمَّا يَقولُ به دونَ غَيرِه مِنَ المُجتَهدينَ، كَما عُرِف مِن مُخالفةِ مالكٍ لخَبَرِ خيارِ المَجلِسِ بما رَآه مِن إجماعِ أهلِ المَدينةِ على خِلافِه، ويُحتَمَلُ أنَّه عَلمَ ذلك عِلمًا لا مِراءَ فيه مِن قَصدِ النَّبيِّ له. وإذا تُرُدِّدَ بَينَ هذه الاحتِمالاتِ، فالظَّاهِرُ لا يُترَكُ بالشَّكِّ والاحتِمالِ
[611] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/116). .
2- إدراجُ الرَّاوي تَفسيرَ الصَّحابيِّ في الحَديثِ، فقد يُدرِجُ الرَّاوي ما يُفسِّرُه الصَّحابيُّ، ولكِنَّ الظَّاهرَ إذا قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّه كُلَّه مُضافٌ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مَسموعٌ مِنه، مَنقولٌ كُلُّه عنه، حتَّى يَبِينَ خِلافُ هذا، فلا يُترَكُ الظَّاهِرُ مِنَ الحالِ بأمرٍ مُتَوهَّمٍ مَظنونٍ
[612] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/1014). .
3- أقسامُ الألفاظِ مِن حَيثُ الاحتِمالُ:
ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ أنَّ ألفاظَ القُرآنِ والسُّنَّةِ ثَلاثةُ أقسامٍ: نُصوصٌ لا تَحتَمِلُ إلَّا مَعنًى واحِدًا، وظَواهرُ تَحتَمِلُ غَيرَ مَعناها احتِمالًا بَعيدًا مَرجوحًا، وألفاظٌ تَحتاجُ إلى بَيانٍ، فهيَ بدونِ البَيانِ عُرضةٌ للاحتِمالِ.
فأمَّا القِسمُ الأوَّلُ: فهو يُفيدُ اليَقينَ بمَدلولِه قَطعًا، كَقَولِه تعالى:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 13] . فلفظُ الألفِ لا يَحتَمِلُ غَيرَ مُسَمَّاه، وكذلك لفظُ الخَمسينَ، وكذلك لفظُ نوحٍ، وعامَّةُ ألفاظِ القُرآنِ مِن هذا النَّوعِ. هذا شَأنُ مُفرَداتِه، وأمَّا تَركيبُه فجاءَ على أصَحِّ وُجوهِ التَّركيبِ، وأبعَدِها مِنَ اللَّبسِ، وأشَدِّها مُطابَقةً للمَعنى. فمُفرَداتُه نُصوصٌ أو كالنُّصوصِ في مُسَمَّاها، وتَراكيبُه صَريحةٌ في المَعنى الذي قُصِدَ بها.
والقِسمُ الثَّاني: ظَواهرُ قد تَحتَمِلُ غَيرَ مَعانيها الظَّاهرةِ مِنها، ولكِن قدِ اطَّرَدَت في مَوارِدَ استِعمالها على مَعنًى واحِدٍ، فجَرَت مَجرى النُّصوصِ التي لا تَحتَمِلُ غَيرَ مُسَمَّاها.
والقِسمانِ يُفيدانِ اليَقينَ والقَطعَ بمُرادِ المُتَكَلِّمِ.
وأمَّا القِسمُ الثَّالثُ: إذا أُحسِنَ رَدُّه إلى القِسمَينِ قَبلَه عُرِفَ مُرادُ المُتَكَلِّم مِنه.
فالأوَّلُ يُفيدُ اليَقينَ بنَفسِه، والثَّاني يُفيدُه باطِّرادِه في مَوارِدِ استِعمالِه، والثَّالثُ يُفيدُه إحسانُ رَدِّه إلى القِسمَينِ قَبلَه
[613] ((الصواعق المرسلة)) (1/373). .
4- الاستِرسالُ في تَطريقِ الاحتِمالاتِ وإيرادِها على الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ ليسَ مِمَّا يُستَحسَنُ في الشَّرعِ؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى تَوهينِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ عِندَ مَن يَعجِزُ عن دَفعِ تلك الاحتِمالاتِ، ويوقِعُه في الإشكالِ، ويُقَلِّلُ ثِقَتَه بالأدِلَّةِ، وقد يَسوقُه ذلك إلى تَركِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ عِندَ الاستِدلالِ على المَطالِبِ، والدُّخولِ في الأدِلَّةِ العَقليَّةِ، ورُبَّما هَوت به الرِّيحُ في حَضيضِ الشَّكِّ والحَيرةِ، وذلك طَريقٌ إلى الفِتنةِ والأهواءِ
[614] يُنظر: ((القطعية من الأدلة الأربعة)) لمحمد دكوري (ص: 198). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (وفَتحُ بابِ التَّجويزاتِ لا آخِرَ له، ولا ثِقةَ مَعَه البَتَّةَ. وهذا البابُ قد دَخَل مِنه على الإسلامِ مَدخَلٌ عَظيمٌ وخَطبٌ جَسيمٌ، وأهلُ الباطِلِ على اختِلافِ أصنافِهم لا يَزالونَ يَتَعَلَّقونَ به، ولا تَزالُ تَعمِدُ كُلُّ طائِفةٍ مِنهم إلى آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ فيَقودُها إلى مَذهَبِه الذي يَدعو إليه، ويَدَّعي أنَّ لها دَلالةً خاصَّةً عليه، وكذلك يفعَلُ في كَثيرٍ مِنَ الأخبارِ التي يَجُرُّها إلى مُعتَقَدِهـ)
[615] ((الصواعق المرسلة)) (1/382). .