المَطلبُ التَّاسِعُ والعِشرونَ: لا حُجَّةَ مَعَ الاحتِمالِ النَّاشِئِ عن دَليلٍ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "لا حُجَّةَ مَعَ الاحتِمالِ النَّاشِئِ عن دَليلٍ"
[616] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 24)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/73)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 216)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 105)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/175). ، وصيغةِ: "الاحتِمالُ النَّاشِئُ مِن غَيرِ دَليلٍ لا يُعتَدُّ به"
[617] يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (3/41)، ((بذل المجهود)) للسهارنفوري (1/410). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِكُلُّ حُجَّةٍ عارَضَها احتِمالٌ مُستَنِدٌ إلى دَليلٍ يَجعَلُها غَيرَ مُعتَبرةٍ، والاحتِمالُ غَيرُ المُستَنِدِ إلى دَليلٍ بمَنزِلةِ العَدَمِ، فإذا لم يَكُنِ الاحتِمالُ ناشِئًا ولا مُنبَعِثًا عن دَليلٍ، بَل عن مُجَرَّدِ تَوهُّمٍ وحَدسٍ، فلا يُقاوِمُ الحُجَّةَ ولا يَقوى على مُعارَضَتِها
[618] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/63)، ((عمدة القاري)) (11/105)، ((البناية)) (11/161) كلاهما للعيني، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/73)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 362)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 216). .
فتُفيدُ هذه القاعِدةُ أنَّ مَن تَصَرَّف تَصَرُّفًا ما ووُجِدَ احتِمالٌ قَويٌّ أنَّه إنَّما قَصَدَ مِن وراءِ تَصَرُّفِه هذا تَحايُلًا على الشَّرعِ أو إضرارًا بمَن تَعَلَّق به تَصرُّفُه، فإنَّه يُحكَمُ بفسادِ هذا الفِعلِ، ويُرَدُّ على الفاعِلِ فِعلُه، ولا يُعتَبَرُ تَصَرُّفُه صحيحًا. لكِن بشَرطِ أن يَكونَ احتِمالُ التُّهمةِ قَويًّا مَبنيًّا على دَليلٍ، لا مُجَرَّدَ احتِمالٍ مَوهومٍ
[619] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/190). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ حُجِّيَّةَ الدَّليلِ ثابتةٌ، فلا تُزالُ إلَّا بالاحتِمالِ النَّاشِئِ عن دَليلٍ؛ لأنَّ الاحتِمالَ المُستَنِدَ إلى دَليلٍ يَقينٌ، أمَّا الاحتِمالُ النَّاشِئُ مِن غَيرِ دَليلٍ فليسَ يَقينيًّا، وإنَّما هو تُهمةٌ مَشكوكٌ فيها، فلا يُعتَدُّ به
[620] يُنظر: ((القواعد الكلية)) لمحمد شبير (ص: 157). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّه لا تُترَكُ حُجِّيَّةُ الدَّليلِ لاحتِمالٍ مَشكوكٍ فيه.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- لو أقَرَّ شَخصٌ لأحَدِ ورَثَتِه بدَينٍ، فإن كان في مَرَضِ مَوتِه لا يَصِحُّ ما لم يُصَدِّقْه باقي الورَثةِ؛ وذلك لأنَّ احتِمالَ كَونِ المَريضِ قَصَدَ بهذا الإقرارِ حِرمانَ سائِرِ الورَثةِ مُستَنِدٌ إلى دَليلِ كَونِه في المَرَضِ. وأمَّا إذا كان الإقرارُ في حالِ الصِّحَّةِ جازَ، واحتِمالُ إرادةِ حِرمانِ سائِرِ الورَثةِ حينَئِذٍ -مِن حَيثُ إنَّه احتِمالٌ- نَوعٌ مِنَ التَّوهُّمِ لا يَمنَعُ حُجَّةَ الإقرارِ
[621] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/73)، ((القواعد الكلية)) لمحمد شبير (ص: 158). .
2- لو وُكِّل أحَدٌ بشِراءِ شَيءٍ فاشتَراه ولم يُبَيِّنْ أنَّه اشتَراه لنَفسِه أو لموكِّلِه، ثُمَّ بَعدَ أن تَلِفَ المُشتَرى بيَدِه أو حَدَثَ به عَيبٌ، قال: إنِّي كُنتُ اشتَرَيتُه لموكِّلي. فلا يُصَدَّقُ؛ لتَمَكُّنِ احتِمالِ التُّهمةِ في فِعلِ الوكيلِ، وقيامِ الدَّليلِ على ذلك الاحتِمالِ، وهو أن يَكونَ الحامِلُ له على طَرحِه على الموكَّلِ هَلاكَ المَبيعِ أو تَعيُّبَه
[622] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 362)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/176). .
3- لا تُقبَلُ شَهادةُ الزَّوجَينِ، وشَهادةُ الأُصولِ والفُروعِ بَعضِهم لبَعضٍ؛ لاحتِمالِ المَيلِ النَّاشِئِ عنِ القَرابةِ، ولا تُقبَلُ شَهادةُ الأجيرِ الخاصِّ لمُستَأجِرِه؛ لتَمَكُّنِ التُّهمةِ النَّاشِئةِ عن عَلاقةٍ قد تَدفعُ إلى تَحَزُّبٍ مُريبٍ يَجِبُ أن تَتَجَرَّدَ الشَّهادةُ عنه
[623] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/175). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفوائِدُ:1- يَتَفرَّعُ عن هذه القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ الأُصوليَّةِ؛ مِنها ما يَتَعَلَّقُ باحتِمالِ العامِّ للتَّخصيصِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ أنَّه إن أُريدَ باحتِمالِ العامِّ التَّخصيصَ مُطلَقُ الاحتِمالِ فهو لا يُنافي القَطعَ بالمَعنى المُرادِ، وهو عَدَمُ الاحتِمالِ النَّاشِئِ عنِ الدَّليلِ، فيَجوزُ أن يَكونَ العامُّ قَطعيًّا مَعَ أنَّه يَحتَمِلُ الخُصوصَ احتِمالًا غَيرَ ناشِئٍ عنِ الدَّليلِ، كَما أنَّ الخاصَّ قَطعيٌّ مَعَ احتِمالِ المَجازِ كذلك، فيُؤَكَّدُ العامُّ بكُلٍّ وأجمَعينَ ليَصيرَ مُحكَمًا ولا يَبقى فيه احتِمالُ الخُصوصِ أصلًا، كَما يُؤَكَّدُ الخاصُّ في مِثلِ: جاءَني زَيدٌ نَفسُه أو عَينُه لدَفعِ احتِمالِ المَجازِ بأن يَجيءَ رَسولُه أو كِتابُه. وإن أُريدَ أنَّه يَحتَمِلُ التَّخصيصَ احتِمالًا ناشِئًا عن دَليلٍ فهو مَمنوعٌ
[624] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/63). .
ومِنها: أنَّ كُلَّ إجماعٍ قَطعيُّ الثُّبوتِ بالتَّواتُرِ قَطعيُّ الدَّلالةِ؛ لمَعنى عَدَمِ الاحتِمالِ النَّاشِئِ عنِ الدَّليلِ بالاتِّفاقِ
[625] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/305). .
2- الحَنَفيَّةُ يَستَعمِلونَ الدَّليلَ القَطعيَّ في مَعنَيَينِ: أحَدُهما: ما يَقطَعُ الاحتِمالَ أصلًا، كَمُحكَمِ الكِتابِ، ومُتَواتِرِ السُّنَّةِ، والإجماعِ.
والثَّاني: ما يَقطَعُ الاحتِمالَ النَّاشِئَ عن دَليلٍ، كالقياسِ والظَّاهِرِ، والنَّصِّ، والخَبَرِ المَشهورِ مَثَلًا، ويُسَمَّى بالظَّنِّيِّ اللَّازِمِ العَمَلِ في اعتِقادِ المُجتَهدِ.
والأوَّلُ يُسَمُّونَه عِلمَ اليَقينِ، والثَّاني: عِلمَ الطُّمَأنينةِ
[626] يُنظر: ((التوضيح)) لصدر الشريعة (1/248)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/41)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 442). .