موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّلاثونَ: عِندَ الاحتِمالِ لا يَثبُتُ إلَّا القَدرُ المُتَيَقَّنُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "عِندَ الاحتِمالِ لا يَثبُتُ إلَّا القَدرُ المُتَيَقَّنُ" [627] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/71)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/473). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
عِندَ وُجودِ الشَّكِّ والاحتِمالِ يَثبُتُ القَدرُ المُتَيَقَّنُ، ويَسقُطُ الزَّائِدُ المَشكوكُ فيه؛ لأنَّ الأصلَ عَدَمُه [628] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/331). .
والقَدرُ المُتَيَقَّنُ قد يَكونُ الأقَلَّ، وهذا لا إشكالَ فيه. وقد يَكونُ القَدرُ المُتَيَقَّنُ هو الأكثَرَ، ومِثالُه: مَن عليه دَينٌ، وشَكَّ في قدَرِه، لزِمَه إخراجُ القَدرِ المُتَيَقَّنِ. قال الحَمويُّ: (قيل: الظَّاهرُ أنَّه ليسَ على سَبيلِ الوُجوبِ، وإنَّما هو على سَبيلِ التَّورُّعِ والأخذِ بالأحوَطِ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ) [629] ((غمز عيون البصائر)) (1/210). .
والمُرادُ بالقَدرِ المُتَيَقَّنِ في هذه الحالةِ وما ماثَلها هو أكثَرُ المبلَغَينِ، فإذا كان الشَّكُّ دائِرًا بَينَ عَشَرةٍ وخَمسةٍ فالمُتَيَقَّنُ العَشرةُ لدُخولِ الخَمسةِ فيها، وبهذا الاعتِبارِ يَكونُ الأكثَرُ بالنِّسبةِ إلى الأقَلِّ مُتَيَقَّنًا دائِمًا رَغمَ وُقوعِ الشَّكِّ فيهما [630] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 56)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 52)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (26/202). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الاحتِمالَ يورِثُ الشَّكَّ، فلا يُزالُ القَدرُ المُتَيَقَّنُ بالمَشكوكِ فيه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّه لا يُترَكُ القَدرُ المُتَيَقَّنُ بالقَدرِ المَشكوكِ فيه.
كَما يُستَدَلُّ لها أيضًا بقاعِدةِ: (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ)؛ حَيثُ إنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ مِمَّا زادَ على القَدرِ المُتَيَقَّنِ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- لو قال لزَوجَتِه: أنتِ عليَّ حَرامٌ كَأُمِّي، فقدِ انتَفى احتِمالُ مَعنى البِرِّ هنا لتَصريحِه بالحُرمةِ، فبَقيَ احتِمالُ الطَّلاقِ والظِّهارِ:
فإن أرادَ الطَّلاقَ فهو طَلاقٌ؛ لأنَّ قَولَه: أنتِ عليَّ حَرامٌ، يَكونُ طَلاقًا بالنِّيَّةِ، فقَولُه: كَأُمِّي، لتَأكيدِ تلك الحُرمةِ، فلا تَخرُجُ به مِن أن تَكونَ طالقًا بالنِّيَّةِ.
وكذلك إن أرادَ التَّحريمَ دونَ الظِّهارِ فهو طَلاقٌ، فقد قَصَدَ التَّحريمَ هنا لزَوالِ المِلكِ؛ لأنَّه شَبَّهَها بالأُمِّ، وهيَ مُحَرَّمةٌ حُرمةً تَنافي المِلكَ، وزَوالُ المِلكِ بالتَّحريمِ يَكونُ بالطَّلاقِ.
وإن نَوى به الظِّهارَ فهو ظِهارٌ؛ لأنَّه شَبَّهَها في الحُرمةِ بأُمِّه، ولو شَبَّهَها بظَهرِ الأُمِّ كان ظِهارًا، فكذلك إذا شَبَّهَها بالأُمِّ.
وإن لم يَكُنْ له نيَّةٌ فهو ظِهارٌ؛ لأنَّ عِندَ الاحتِمالِ لا يَثبُتُ إلَّا القَدرُ المُتَيَقَّنُ، والحُرمةُ بالظِّهارِ دونَ الحُرمةِ بالطَّلاقِ؛ فالحُرمةُ بالظِّهارِ لا تُزيلُ المِلكَ، والحُرمةُ بالطَّلاقِ تُزيلُه [631] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/229). .
2- لو نَذَرَ وقال: للهِ عليَّ صَومُ جُمَعِ هذا الشَّهرِ، فعليه أن يَصومَ كُلَّ جُمعةٍ تَمُرُّ عليه في ذلك الشَّهرِ؛ لأنَّ الجُمَعَ جَمعُ جُمعةٍ، وهو اسمٌ لليَومِ الذي تُقامُ فيه صَلاةُ الجُمعةِ، وقد رُويَ عن أبي حَنيفةَ أنَّه يَلزَمُه صَومُ جَميعِ ذلك الشَّهرِ؛ لأنَّ الجُمُعةَ تُذكَرُ بمَعنى الأُسبوعِ في العادةِ؛ يَقولُ الرَّجُلُ لغَيرِه: لم ألقَك مُنذُ جُمعةٍ، وإنَّما يُريدُ به الأُسبوعَ. والأصَحُّ أنَّ عليه أن يَصومَ كُلَّ جُمعةٍ تَمُرُّ عليه في ذلك الشَّهرِ فقَط؛ لأنَّه لا يَلزَمُه بالنَّذرِ إلَّا القَدْرُ المُتَيَقَّنُ به، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذَينِ المَعنَيَينِ مِن مُحتَمَلاتِ كَلامِه، فيَلزَمُه المُتَيَقَّنُ [632] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/145). .
3- لو أوصى وقال: سُدسُ مالي لفُلانٍ، ثُمَّ قال في ذلك المَجلسِ أو في مَجلسٍ آخَرَ: له ثُلُثُ مالي، وأجازَتِ الورَثةُ: فله ثُلثُ المالِ، ويَدخُلُ السُّدسُ فيه؛ لأنَّ الكَلامَ الثَّانيَ يَحتَمِلُ أنَّه أرادَ به زيادةَ السُّدسِ على الأوَّلِ حتَّى يَتِمَّ له الثُّلُثُ، ويَحتَمِلُ أنَّه أرادَ به إيجابَ ثُلُثٍ على السُّدسِ حتَّى يَصيرَ المَجموعُ نِصفًا. وعِندَ الاحتِمالِ لا يَثبُتُ له إلَّا القَدْرُ المُتَيَقَّنُ، فيُجعَلُ السُّدسُ داخِلًا في الثُّلثِ؛ حَملًا لكَلامِه على المُتَيَقَّنِ [633] يُنظر: ((تكملة شرح فتح القدير)) لقاضي زاده (10/446). .

انظر أيضا: