موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الخامِسُ والعِشرونَ: لا عِبرةَ للدَّلالةِ في مُقابَلةِ التَّصريحِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ العُلماءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ [558] يُنظر: ((البناية)) للعيني (5/472)، ((درر الحكام)) لملا حسرو (2/218)، ((شرح فتح القدير)) لقاضي زاده (8/254)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 17). . وصيغةِ: "الصَّريحُ أقوى مِنَ الدَّلالةِ" [559] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 2125)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 258)، ((شرح مشكلات القدوري)) لخواهر زاده (1/508)، ((عمدة القاري)) للعيني (12/241). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
اللَّفظُ الذي يَكونُ به التَّصريحُ يُسَمَّى لفظًا صَريحًا، وهو: الذي يَكونُ المُرادُ مِنه ظاهرًا ظُهورًا بَيِّنًا وتامًّا ومُعتادًا نُطقًا أو كِتابةً. والدَّلالةُ: كونُ الشَّيءِ على حالٍ ونَحوِه، بحَيثُ يُفيدُ الآخَرينَ عِلمًا. فهيَ هنا غَيرُ اللَّفظِ مِن حالٍ أو عُرفٍ أو إشارةٍ أو يَدٍ أو غَيرِ ذلك.
ولا عِبرةَ للدَّلالةِ في مُقابَلةِ التَّصريحِ؛ لأنَّ دَلالةَ الحالِ والقَرائِنِ ضَعيفةٌ في مُقابَلةِ التَّصريحِ، فلو أنَّ شَخصًا كان مَأذونًا بدَلالةِ الحالِ بعَمَلِ شَيءٍ، فمُنِعَ صَراحةً عن عَمَلِ ذلك الشَّيءِ، فلا يبقى اعتِبارٌ وحُكمٌ لذلك الإذنِ النَّاشِئِ عنِ الدَّلالةِ [560] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/31)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 201)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/154). .
ولا يُرادُ بالدَّلالةِ هنا الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ، وهيَ دَلالةُ الألفاظِ على ما وُضِعَت له؛ لأنَّها تَصريحٌ، ولا تَدخُلُ الدَّلالةُ العَقليَّةُ، كَدَلالةِ اللَّفظِ على وُجودِ اللَّافِظِ، ودَلالةِ المَصنوعاتِ على وُجودِ الصَّانِعِ؛ لأنَّه يوجَدُ تَلازُمٌ بَينَ الدَّلالةِ العَقليَّةِ ومَدلولِها [561] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/154). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها: أنَّ دَلالةَ التَّصريحِ يَقينيَّةٌ، ودَلالةَ الحالِ والقَرائِنِ مَحَلُّ شَكٍّ، واليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ [562] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/154). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بَعَثَنا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الحُرَقَةِ مِن جُهَينَةَ، قال: فَصَبَّحنا القَومَ فَهَزَمناهُم، قالَ: ولَحِقتُ أنا ورَجُلٌ مِنَ الأنصارِ رَجُلًا منهم، قال: فَلَمّا غَشِيناه قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قال: فَكَفَّ عنه الأنصارِيُّ، فَطَعَنتُه برُمحِي حتَّى قَتَلتُه، قال: فلَمَّا قَدِمنا بَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فقال لِي: يا أُسامةُ، أقَتَلتَه بَعدَ ما قال: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟! قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما كان مُتَعَوِّذًا، قال: أقَتَلتَه بَعدَ ما قال: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟! قال: فما زال يُكَرِّرُها عَلَيَّ حتَّى تَمَنَّيتُ أنِّي لم أكُنْ أسلَمتُ قَبلَ ذلك اليَومِ)) [563] أخرجه البخاري (6872)، ومسلم (96) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ظاهرَ حالِ الرَّجُلِ كان يَدُلُّ على أنَّه كافِرٌ، وأنَّه إنَّما نَطَقَ بالشَّهادةِ تَعَوُّذًا، كما فَهِمَ أُسامةُ رَضِيَ اللهُ عنه، لكِنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبطَل دَلالةَ حالِه بتَصريحِه بالإيمانِ، وأنكَرَ على أُسامةَ فِعلَه [564] يُنظر: ((معلمة زايد)) (9/84). .
قال الخَطَّابيُّ: (فيه مِنَ الفِقهِ أنَّ المُشرِكَ إذا قال: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، رُفِعَ عنه السَّيفُ وحَرُمَ دَمُه. ويُشبِهُ أن يَكونَ أُسامةُ إنَّما تَأوَّل في الإقدامِ على قَتلِه أنْ لا تَوبةَ للمُرَهَّقِ، واعتَبَرَ في ذلك قَولَه تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: 85] ، وقَولَه: الْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وقَولَه: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] وما أشبَهَها، وهو مَعنى قَولِه: كان مُتَعَوِّذًا؛ ولذلك عَذَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يُلزِمْه ديةً، ولا رَوى في هذا الحَديثِ أنَّه أمَرَه بكَفَّارةٍ) [565] ((أعلام الحديث)) (3/1750). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- لو دَخَل إنسانٌ دارَ شَخصٍ فوجَدَ على المائِدةِ كَأسًا فشَرِبَ مِنها ووقَعَتِ الكَأسُ أثناءَ شُربِه وانكَسَرَت، فلا يَضمَنُ؛ لأنَّه بدَلالةِ الحالِ مَأذونٌ بالشُّربِ مِنها، والمالكُ لم يُصَرِّحْ بالنَّهيِ عنِ الشُّربِ، فهو مَأذونٌ شَرعًا بالدَّلالةِ، والجَوازُ الشَّرعيُّ يُنافي الضَّمانَ، بخِلافِ ما لو نَهاه صاحِبُ البَيتِ عنِ الشُّربِ مِنها، وانكَسَرَت، فإنَّه يَضمَنُ؛ لأنَّ التَّصريحَ أبطَلَ حُكمَ الإذنِ المُستَنِد على دَلالةِ الحالِ؛ ففي التَّصريحِ بالنَّهيِ تَنعَدِمُ الدَّلالةُ، فلا حُكمَ لها في مُقابَلتِه [566] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/31)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 201)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/155). .
2- لو وهَبَ شَخصٌ مالًا لآخَرَ وقَبِلَه، فحُصولُ عَقدِ الهبةِ إذْنٌ بقَبضِ المالِ دَلالةً، فإن حَصَل القَبضُ تَمَّتِ الهبةُ، وإن نَهاه الواهِبُ صَراحةً قَبل القَبضِ سَقَطَ حُكمُ الدَّلالةِ، وبَطَلتِ الهبةُ، فلو قَبَضَه كان غاصِبًا وتَجري عليه أحكامُ الغاصِبِ [567] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/31). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ؛ حَيثُ تَكونُ الدَّلالةُ في بَعضِ الأوقاتِ أقوى مِنَ التَّصريحِ، فيَثبُتُ بها ما لا يَثبُتُ به في مَسألةٍ مَنصوصٍ عليها، ومِن ذلك: لوِ اشتَرى أحَدٌ شَيئًا ثُمَّ اطَّلعَ على عَيبٍ فيه، فاستَعمَله استِعمالًا يَدُلُّ على الرِّضا بالعَيبِ، وهو يُصَرِّحُ بعَدَمِ الرِّضا به؛ فإنَّه يَلزَمُه المَبيعُ، ولا يُقبَلُ مِنه تَصريحُه بعَدَمِ الرِّضا بَعدَ ذلك [568] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص145-146). .
فوائِدُ:
1- كَما أنَّ الصَّراحةَ تَكونُ راجِحةً على الدَّلالةِ، تَكونُ أيضًا راجِحةً على العُرفِ والعادةِ؛ لأنَّ العُرفَ والعادةَ مِن قَبيلِ الدَّلالةِ [569] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/32). .
مِثالُ ذلك: لوِ استَأجَرَ شَخصٌ سَيَّارةً مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، واشتَرَطَ أن يَدفعَ خَمسينَ ريالًا، فليسَ لصاحِب السَّيَّارةِ أن يُلزِمَه بأكثَرَ، بحُجَّةِ أنَّ ذلك هو عُرفُ النَّاسِ، وليسَ له أن يَدفعَ أقَلَّ استِمساكًا بالعُرفِ؛ لأنَّ الشَّرطَ جاءَ على خِلافِه؛ فلا اعتِبارَ له، وإنَّما الاعتِبارُ عِندَئِذٍ للشَّرطِ. والقاعِدةُ أنَّه لا عِبرةَ للدَّلالةِ في مُقابَلةِ التَّصريحِ [570] يُنظر: ((فقه النوازل للأقليات)) لمحمد يسري (1/602). .
وكذلك في البَيعِ؛ فإنَّ الرِّيالَ المَعروفَ في السُّعوديَّةِ الآنَ هو الرِّيالُ السُّعوديُّ، فلو جَرى عَقدُ بَيعٍ بَينَ البائِعِ والمُشتَري على ريالاتٍ قَطَريَّةٍ مَثَلًا، فالبَيعُ يَنعَقِدُ على ريالاتٍ قَطَريَّةٍ، ولا يُحمَلُ الرِّيالُ الذي جَرى الاتِّفاقُ عليه على الرِّيالِ السُّعوديِّ، وأمَّا إذا عُقدَ البَيعُ على ريالاتٍ بلا تَعيينِ نَوعِها، فيَنصَرِفُ إلى المُتَعارَفِ، وهو الرِّيالُ السُّعوديُّ.
قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (فائِدةٌ: كُلُّ ما يَثبُتُ في العُرفِ إذا صَرَّحَ المُتَعاقِدانِ بخِلافِه مِمَّا يوافِقُ مَقصودَ العَقدِ ويُمكِنُ الوفاءُ به، صَحَّ، فلو شَرط المُستَأجِرُ على الأجيرِ أن يَستَوعِبَ النَّهارَ بالعَمَلِ مِن غَيرِ أكلٍ يَقطَعُ المَنفَعةَ، لزِمَه ذلك ... ولو شَرَط عليه أن لا يُصَلِّي الرَّواتِبَ، وأن يَقتَصِرَ في الفرائِضِ على الأركانِ، صَحَّ ووجَبَ الوفاءُ بذلك؛ لأنَّ تلك الأوقاتَ إنَّما خَرَجَت عنِ الاستِحقاقِ بالعُرفِ القائِمِ مَقامَ الشَّرطِ، فإذا صَرَّحَ بخِلافِ ذلك مِمَّا يُجَوِّزُه الشَّرعُ ويُمكِنُ الوفاءُ به، جازَ) [571] ((قواعد الأحكام)) (2/186). .
2- رُجحانُ الصَّراحةِ على الدَّلالةِ إنَّما يَكونُ عِندَ حُصولِ مُعارَضةٍ بَينَ الصَّراحةِ والدَّلالةِ قَبلَ تَرَتُّبِ حُكمٍ مُستَنِدٍ على الدَّلالةِ، أمَّا بَعدَ العَمَلِ بالدَّلالةِ -أي: بَعدَ تَرَتُّبِ الحُكمِ وجَرَيانِه استِنادًا عليها- فلا اعتِبارَ للصَّراحةِ.
وعِندَ عَدَمِ التَّعارُضِ يُعمَلُ بالدَّلالةِ؛ لأنَّها في حُكمِ التَّصريحِ وقوَّتِه، فإذا وُجِدَ التَّصريحُ يُعمَلُ به بشَرطِ أن يَأتيَ قَبلَ عَمَلِ الدَّلالةِ، فإذا جاءَ التَّصريحُ بَعدَ أن عَمِلتِ الدَّلالةُ عَمَلَها فتُعتَبَرُ الدَّلالةُ دونَ التَّصريحِ.
مِثالُ ذلك: لو قال شَخصٌ لآخَرَ: بِعتُك هذا الفرَسَ، فعلى الثَّاني أن يَقبَلَ في الحالِ، ويَقولَ: قدِ اشتَرَيتُ، بدونِ وُقوعِ إعراضٍ مِنه حتَّى يَصِحَّ العَقدُ، وعلى البائِعِ أوِ المُشتَري بَعدَ حُصولِ الإيجابِ أن يَقولَ: بِعتُ أوِ اشتَرَيتُ قَبلَ أن يَشتَغِلَ بشُغلٍ آخَرَ، فإذا لم يَقُلْ أحَدُهما ذلك بَعدَ الإيجابِ واشتَغَل بأمرٍ يَدُلُّ على الإعراضِ، فيُصبحُ الإيجابُ باطِلًا، فلو قَبِلَ الثَّاني بَعدَ الإعراضِ عنِ البَيعِ لا يَنعَقِدُ، مَعَ أنَّ القَولَ وقَعَ صَراحةً، فكان مِنَ الواجِبِ أن يَنعَقِدَ البَيعُ، لكِنَّ الإعراضَ الدَّالَّ على عَدَمِ الرَّغبةِ حُكمٌ أبطَل الإيجابَ السَّابقَ، فالقَبولُ اللَّاحِقُ وإن كان صَريحًا لكِنَّه لم يَجِدْ إيجابًا صحيحًا؛ ولهذا فقد بَطَل أيضًا، ورُجحانُ التَّصريحِ على الدَّلالةِ يَكونُ فيما لو تَعارَضا فقَط [572] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/32)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/155)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 203). .

انظر أيضا: