المَطلبُ الرَّابِعُ والعِشرونَ: كُلُّ أمرَينِ حادِثَينِ لا يُعلمُ تاريخُهما يُحكَمُ بوُقوعِهما مَعًا
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعمِلت هذه القاعِدةِ بهذه الصِّيغةِ عِندَ العُلماءِ باختلافٍ يسيرٍ
[548] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/338)، ((الجوهرة النيرة)) للزبيدي (2/77). ، واستُعمِلت بصيغةِ: "حُكمُ الشَّيئَينِ إذا وقَعا ولم يُعلَمْ تَقدُّمُ أحَدِهما على الآخَرِ: أن يُحكَمَ بوُقوعِهما مَعًا"
[549] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (6/117). ، وصيغةِ: "كُلُّ أمرَينِ ظَهَرا ولا يُعرَفُ التَّاريخُ بَينَهما، يُجعَلُ كَأنَّهما حَصَلا مَعًا"
[550] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/38). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِكُلُّ أمرَينِ حادِثَينِ لا يُعلمُ تاريخُهما فالواجِبُ أن يُحكَمَ بوُقوعِهما مَعًا في أُصولِ الشَّرعِ، ولا يُحكَمُ بتَقدُّمِ أحَدِهما على الآخَرِ؛ إذ ليسَ أحَدُهما بالتَّقديمِ بأولى مِنَ الآخَرِ؛ ولهذا قال بَعضُ أهلِ الأُصولِ: في النَّصِّ العامِّ والخاصِّ إذا تَعارَضا وجُهِل التَّاريخُ أنَّه يُجعَلُ كَأنَّهما ورَدا مَعًا، ويُبنى العامُّ على الخاصِّ على طَريقِ البَيانِ، ويَكونُ المُرادُ مِنَ النَّصِّ العامِّ ما وراءَ القَدرِ المَخصوصِ
[551] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/461)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/118). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الحُكمَ بتَقدُّمِ أحَدِهما على الآخَرِ مَشكوكٌ فيه؛ حَيثُ إنَّه لم يَثبُتْ، فوجَبَ الحُكمُ بوُقوعِهما مَعًا.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بعَمَلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، والقَواعِد:
1- مِنَ عَمَلِ الصَّحابةِ:وذلك في وقائِعَ مُتَعَدِّدةٍ؛ مِنها:
في شَأنِ أهلِ الرِّدَّةِ في زَمَنِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ثُمَّ أسلَمَ مِنهم قَومٌ، لم يَقُلْ أحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ بإيجابِ التَّفريقِ بَينَهم وبَينَ نِسائِهم، ولا أمَروهم باستِئنافِ العَقدِ، مَعَ أنَّ وُقوعَ رِدَّتِهم وإسلامِهم مَعًا مُمتَنِعٌ في العادةِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ مِن حُكمِ الشَّيئَينِ إذا وقَعا ولم يُعلَمْ تَقدُّمُ أحَدِهما على الآخَرِ: أن يُحكَمَ بوُقوعِهما مَعًا
[552] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (6/117). .
2- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لها بقاعِدةِ: (يُحالُ بالحادِثِ على أقرَبِ الأوقاتِ)، وهذا ما استَدَلَّ به السَّرَخسيُّ؛ حَيثُ قال: (كُلُّ أمرَينِ حَدَثا ولا يُعرَفُ التَّاريخُ بَينَهما فإنَّه يُجعَلُ كَأنَّهما حَدَثا مَعًا؛ لفِقهٍ، وهو أنَّه يُحالُ بالحادِثِ على أقرَبِ الأوقاتِ، فإنَّ التَّاريخَ لا يَثبُتُ إلَّا بحُجَّةٍ)
[553] ((شرح السير الكبير)) (ص: 1897). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- الوليَّانِ إذا زَوَّجا وليَّةً لهما رَجُلينِ، ثُمَّ لم يَبِنْ أنَّ العَقدَينِ وقَعا مَعًا، أو سَبَقَ أحَدُهما الثَّاني، فهما باطِلانِ؛ لأنَّا إذا لم نَعلَمْ كَيفيَّةَ وُقوعِهما كان مِنَ الجائِزِ -في الاحتِمالِ- وُقوعُهما مَعًا، ولو تَيَقَّنَّا وُقوعَهما مَعًا كانا باطِلَينِ؛ إذ لا يَكونُ أحَدُهما أولى بالتَّصحيحِ مِنَ الثَّاني، والأصلُ تَحريمُ الأبضاعِ، فلا بُدَّ مِن تعَيُّنِ سَبَبِ الاستِباحةِ
[554] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/134). ويُنظر أيضًا: ((شرح السنة)) للبغوي (9/57)، ((المحرر)) للمجد ابن تيمية (2/17). .
2- أنَّ الغَرقى والهَدمى الذينَ يَموتونَ تَحتَ الهَدمِ، لا يُدرى أيُّهم ماتَ أوَّلًا، فيُحكَمُ بمَوتِ جَميعِهم مَعًا في بابِ المَواريثِ، فلا يَرِثُ بَعضُهم بَعضًا عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهو قَولُ عامَّةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ لأنَّ كُلَّ أمرَينِ حادِثَينِ لا يُعرَفُ تاريخُهما يُجعَلُ كَأنَّهما وقَعا مَعًا
[555] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (6/117)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/166). ويُنظر أيضًا: ((المبسوط)) للسرخسي (16/156). .
ويُبنى على ذلك أنَّه إذا كانت عائِلةٌ في سَيَّارةٍ وقُدِّر عليها حادِثٌ، فماتَ جَميعُ أفرادِ العائِلةِ -الزَّوجُ والزَّوجةُ والأبُ والأُمُّ والأولادُ- فهنا يُحكَمُ بأنَّ الجَميعَ ماتوا في لحظةٍ واحِدةٍ، فلا يَرِثُ واحِدٌ مِنهمُ الآخَرَ، وميراثُ كُلٍّ مِنهم لورَثَتِه الأحياءِ؛ لأنَّ مِن شُروطِ استِحقاقِ الميراثِ التَّحَقُّقَ مِن حَياةِ الوارِثِ عِندَ مَوتِ المورِّثِ، وهذا ليسَ مُتَحَقِّقًا هنا
[556] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/56). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفائِدةٌ: يُستَفادُ مِن هذه القاعِدةِ في تَعارُضِ الأخبارِ؛ فإنَّه إذا اشتَبَهَ حالُ الخَبَرَينِ ولا يُعرَفُ التَّاريخُ بَينَهما، يُجعَلُ كَأنَّهما ورَدا مَعًا. وإذا جُعِل كَأنَّهما ورَدا مَعًا يُجعَلُ الخاصُّ مُخَصِّصًا للعامِّ
[557] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 234). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/461)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/118). .