موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّالِثُ والعِشرونَ: ما ثَبَتَ بزَمانٍ يُحكَمُ ببَقائِه ما لم يوجَدْ دَليلٌ على خِلافِه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "ما ثَبَتَ بزَمانٍ يُحكَمُ ببَقائِه ما لم يوجَدْ دَليلٌ على خِلافِه" [538] يُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (ص: 522)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/580)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 17)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/27)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 121). ، وصيغةِ: "ما عُرِف ثُبوتُه في زَمانٍ يُحكَمُ ببَقائِه ما لم يوجَدِ المُزيلُ" [539] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (8/464). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الشَّيءُ الذي ثَبَتَ حُصولُه في الزَّمَنِ الماضي يُحكَمُ ببَقائِه في الحالِ ما لم يوجَدْ دَليلٌ على خِلافِه، والشَّيءُ الثَّابتُ وجودُه في الحالِ يُحكَمُ أيضًا باستِمرارِه مِنَ الماضي ما لم يوجَدْ ما يُزيلُه، فإذا وُجِدَ المُزيلُ لا يُحكَمُ ببَقاءِ الشَّيءِ بَل يُزالُ؛ ولذلك كانتِ الشَّهادةُ بالمِلكِ المُنقَضي، أي: الماضي، والإقرارُ به أيضًا مَقبولَينِ، فإذا ثَبَتَ في زَمانٍ مِلكُ شَيءٍ لأحَدٍ يُحكَمُ ببَقاءِ المِلكِ ما لم يوجَدْ ما يُزيلُه، سَواءٌ كان ثُبوتُ المِلكِ الماضي بالبَيِّنةِ أو بإقرارِ المُدَّعى عليه [540] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/27)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 121). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ ما ثَبَتَ في الزَّمَنِ الماضي هو اليَقينُ، وقد وقَعَ الشَّكُّ في زَوالِ اليَدِ عنه، فتَثبُتُ اليَدُ ما لم يوجَدِ المُزيلُ [541] يُنظر: ((لسان الحكام)) لابن الشحنة (ص: 229). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالاستِصحابِ؛ فإنَّها مُطابِقةٌ لقاعِدةِ: (الأصلُ إبقاءُ ما كان على ما كان) ومُتَمِّمةٌ لها؛ حَيثُ إنَّ وُجودَ الشَّيءِ في الماضي يُعتَبَرُ باقيًا باستِصحابِ الحالِ، سَواءٌ كان ثُبوتُ المِلكِ الماضي بالبَيِّنةِ أو بإقرارِ المُدَّعى عليه، ويُعتَبَرُ ذلك أصلًا يُعتَدُّ به ما لم يوجَدْ ما يُغَيِّرُه [542] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/27)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/135). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- إذا ثَبَتَ مِلكُ شَيءٍ أو مالٍ لأحَدٍ ما، يُحكَمُ ببَقاءِ المِلكِيَّةِ لذلك الشَّخصِ ما لم يَثبُتْ بأنَّ المالَ انتَقَل مِنه لآخَرَ بعَقدِ بَيعٍ أو هِبةٍ أو بسَبَبٍ آخَرَ مِنَ الأسبابِ المُزيلةِ للمِلكيَّةِ، أمَّا لو ثَبَتَ زَوالُ المِلكِيَّةِ ببَيعٍ أو هبةٍ مَثَلًا، فلا يُحكَمُ بمِلكيَّةِ ذلك المالِ للمالكِ الأوَّلِ [543] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/27)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/135). .
وعلى ذلك إذا شَهِدَ الشُّهودُ أنَّ هذه العَينَ كانت مِلكَ المُدَّعي، والمُدَّعي يَدَّعي المِلكَ في الحالِ، تُقبَلُ شَهادَتُهم؛ لأنَّ شَهادَتَهم تُثبِتُ المِلكَ في زَمانِ الماضي، وما عُرِفَ ثُبوتُه في زَمانٍ يُحكَمُ ببَقائِه ما لم يوجَدِ المُزيلُ [544] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (8/464). .
2- إذا ادَّعى اثنانِ عَينًا -مالًا أو عَقارًا- وأقامَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما بَيِّنةً أنَّها مِلكُه، وقد أرَّخا تاريخًا، يُنظَرُ إلى الأسبَقِ تاريخًا، فمَن كان أسبَق تاريخًا تَرَجَّحَت بَيِّنَتُه؛ فيُحكَمُ ببَقاءِ المِلكِ له إلى أن يُثبِتَ الخَصمُ سَبَبًا مُزيلًا ليُحكَمَ له [545] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/136). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
1- إذا ادَّعى شَخصٌ مِلكًا ماضيًا، فقال: إنَّه كان مِلكي، ويَشهَدُ الشُّهودُ بالمِلكِ المُطلَقِ الآنَ، فإنَّ الدَّعوى غَيرُ صحيحةٍ، وشَهادةُ الشُّهودِ المُتَرَتِّبةُ عليها غَيرُ مَقبولةٍ أيضًا؛ لأنَّ إسنادَ المُدَّعي مِلكَه إلى الماضي يَدُلُّ على نَفيِ المِلكِ في الحالِ؛ إذ لا فائِدةَ للمُدَّعي في إسنادِه مَعَ قيامِ مِلكِه في الحالِ، بخِلافِ الشَّاهِدَينِ لو أسنَدا مِلكَه إلى الماضي؛ لأنَّ إسنادَهما لا يَدُلُّ على النَّفيِ في الحالِ؛ لأنَّهما قد لا يَعرِفانِ بَقاءَه إلَّا بالاستِصحابِ [546] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/136). .
2- لو نَفى شَخصٌ جَميعَ ما نُسِبَ إليه مِنَ الأموالِ، وأقَرَّ بمِلكيَّتِها لشَخصٍ آخَرَ، وادَّعى ذلك الشَّخصُ المُقَرُّ له كَونَ المالِ الذي بيَدِ المُقِرِّ الآنَ كان مَوجودًا بيَدِه حينَ الإقرارِ، فبحَسَبِ إقرارِه هو مِلكٌ لي، وادَّعى المُقِرُّ بمِلكيَّتِه لذلك المالِ بَعدَ حُصولِ الإقرارِ، فالقَولُ للمُقِرِّ، ولا يُحكَمُ استِصحابًا أنَّ المالَ كان مَوجودًا بيَدِه في الماضي؛ لأنَّه وُجِد بيَدِه في الحالِ؛ لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ [547] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/28). .

انظر أيضا: