المَطلبُ السَّادِسُ والعِشرونَ: لا عِبرةَ للتَّوهُّمِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "لا عِبرةَ للتَّوهُّمِ"
[573] يُنظر: ((حاشية الدسوقي)) (1/264)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 25)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 363). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ تَأخيرُ الواجِبِ لأمرٍ مَوهومٍ"
[574] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (2/406)، ((البناية)) للعيني (7/269)، ((شرح سنن ابن ماجهـ)) للسيوطي (ص: 182). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ تَأخيرُ ما وجَبَ للحالِ لأمرٍ مَوهومٍ في الاستِقبالِ"
[575] يُنظر: ((فتح باب العناية)) لصدر الشريعة (3/302). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالتَّوهُّمُ: هو إدراكُ الطَّرَفِ المَرجوحِ مِن طَرَفي أمرٍ مُتَرَدَّدٍ فيه، والمُرادُ به الاحتِمالُ العَقليُّ البَعيدُ النَّادِرُ الحُصولِ. ومَعنى القاعِدةِ: أنَّه لا اكتِراثَ بالوهمِ، ولا يُبنى عليه حُكمٌ شَرعيٌّ، بَل يُعمَلُ بالثَّابتِ قَطعًا أو ما كان ظاهرًا دونَه، وكَما لا يَثبُتُ حُكمٌ شَرعيٌّ استِنادًا على وَهمٍ، لا يَجوزُ تَأخيرُ الشَّيءِ الثَّابتِ بصورةٍ قَطعيَّةٍ بوهمٍ طارِئٍ؛ وذلك لأنَّ الأمرَ المَوهومَ يَكونُ نادِرَ الوُقوعِ؛ ولذلك لا يُعمَلُ في تَأخيرِ حَقِّ صاحِبِ الحَقِّ، لأنَّ الثَّابتَ قَطعًا أو ظاهرًا لا يُؤَخَّرُ لأمرٍ مَوهومٍ، بخِلافِ المُتَوقَّعِ؛ فإنَّه كَثيرُ الوُقوعِ، فيُعمَلُ بتَأخيرِ الحُكمِ، كَما جوَّزوا للحاكِمِ تَأخيرَ الحُكمِ للمُدَّعي بَعدَ استِكمالِ أسبابِه لرَجاءِ الصُّلحِ بَينَ الأقارِبِ، وما ذاكَ إلَّا لأنَّه مُتَوقَّعٌ
[576] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/73)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 363)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/170). .
فالفرقُ بَينَ المَوهومِ والمُتَوقَّعِ: أنَّ المَوهومَ نادِرُ الوُقوعِ، بخِلافِ المُتَوقَّعِ؛ فإنَّه كَثيرُ الوُقوعِ
[577] يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 943). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّه إذا كان اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ، والوهمُ أقَلَّ مِنَ الشَّكِّ، فلا يَزولُ اليَقينُ بالوَهمِ؛ ولذلك عَبَّرَ عنها ابنُ قُدامةَ بقَولِه: (لا يُترَكُ المُتَيَقَّنُ لأمرٍ مَوهومٍ)
[578] ((روضة الناظر)) (2/122). ، وعَبَّرَ عنها ابنُ الرفعةِ بقَولِه: (لا يُترَكُ المُحَقَّقُ لأمرٍ مَوهومٍ)
[579] ((كفاية النبيهـ)) (2/71). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بنَفسِ أدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ حَيثُ إنَّه إذا كان اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ، فلا يَزولُ بالوَهمِ بطَريقِ الأَولى.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِيَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- إذا توُفِّيَ المُفلِسُ تُباعُ أموالُه وتُقَسَّمُ بَينَ الغُرَماءِ، حتَّى وإن توُهِّمَ أنَّه رُبَّما ظَهَرَ غَريمٌ آخَرُ جَديدٌ
[580] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/73). .
2- أنَّ الحَقَّ للوارِثِ الحاضِرِ ثابتٌ بيَقينٍ، وفي ثُبوتِه لغَيرِه وَهمٌ، ولا يَجوزُ تَأخيرُ المُحَقَّقِ لأمرٍ مَوهومٍ، فلو أثبَتَ الورَثةُ إرثَهم وانحِصارَ الإرثِ بهم، وقالوا: لا نَعلمُ له وارِثًا غَيرَهم، يُقضى لهم بالإرثِ، ولا عِبرةَ باحتِمالِ ظُهورِ وارِثٍ آخَرَ يُزاحِمُهم؛ لأنَّ ذلك مَوهومٌ
[581] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (7/266)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 363). .
3- تَحريمُ إجهاضِ الجَنينِ بَعدَ نَفخِ الرُّوحِ فيه، ونَفخُ الرُّوحِ يَكونُ بَعدَ مِائةٍ وعِشرينَ يَومًا، كَما ثَبَتَ في حَديثِ ابنِ مَسعودٍ مَرفوعًا
[582] لفظه: عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الصَّادِقُ المَصدوقُ: ((إنَّ أحَدَكُم يُجمَعُ خَلقُه في بَطنِ أُمِّه أربَعينَ يَومًا، ثُمَّ يَكونُ في ذلك عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثُمَّ يَكونُ في ذلك مُضغةً مِثلَ ذلك، ثُمَّ يُرسَلُ المَلَكُ فيَنفُخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤمَرُ بأربَعِ كَلماتٍ: بكَتبِ رِزقِه، وأجَلِه، وعَمَلِه، وشَقيٌّ، أو سَعيدٌ، فوالذي لا إلهَ غَيرُه إنَّ أحَدَكُم ليَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بَينَه وبَينَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ فيَدخُلُها، وإنَّ أحَدَكُم ليَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ حتَّى ما يَكونُ بَينَه وبَينَها إلَّا ذِراعٌ، فيَسبقُ عليه الكِتابُ، فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ فيَدخُلُها)). أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) واللَّفظُ له. . ولا خِلافَ بَينَ الفُقَهاءِ في تَحريمِ الإجهاضِ بَعدَ نَفخِ الرُّوحِ؛ فقد نَصُّوا على أنَّه إذا نُفِخَت في الجَنينِ الرُّوحُ حَرُمَ الإجهاضُ إجماعًا. وقالوا: إنَّه قَتلٌ له. والذي يُؤخَذُ مِن إطلاقِ الفُقَهاءِ تَحريمُ الإجهاضِ بَعدَ نَفخِ الرُّوحِ أنَّه يَشمَلُ ما لو كان في بَقائِه خَطَرٌ على حَياةِ الأُمِّ، وما لو لم يَكُنْ كذلك
[583] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (2/57). .
قال ابنُ عابدينَ: (لو كان الجَنينُ حَيًّا، ويُخشى على حَياةِ الأُمِّ مِن بَقائِه، فإنَّه لا يَجوزُ تَقطيعُه؛ لأنَّ مَوتَ الأُمِّ به مَوهومٌ، فلا يَجوزُ قَتلُ الآدَميِّ لأمرٍ مَوهومٍ)
[584] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (2/238). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ؛ مِنها:
1- إذا ظَنَّ بَراءةَ الذِّمَّةِ مِن صَلاةٍ، وتَوَهَّمَ شَغلَها بها، فلا قَضاءَ عليه؛ إذ لا عِبرةَ بالوهمِ، لكِن إذا ظَنَّ تَمامَ صَلاتِه، وتَوهَّمَ بَقاءَ رَكعةٍ مِنها، فإنَّه يَجِبُ عليه العَمَلُ بالوهمِ والإتيانُ برَكعةٍ. والفرقُ بَينَهما: أنَّ ذِمَّتَه في الحالةِ الأولى غَيرُ مَشغولةٍ تَحقيقًا، بخِلافِ الحالةِ الثَّانيةِ؛ فإنَّ الذِّمَّةَ فيها مَشغولةٌ، فلا تَبرَأُ إلَّا بيَقينٍ
[585] يُنظر: ((حاشية الدسوقي)) (1/264). .
2- إذا انهَدَمَ بناءُ الدَّارِ المَأجورةِ كُلُّه، فإنَّ الإجارةَ لا تَبطُلُ وإن سَقَطَتِ الأُجرةُ؛ لأنَّ تَوهُّمَ الفائِدةِ بإعادةِ البناءِ ثابتٌ، حتَّى لو بَناها المُؤَجِّرُ والمُدَّةُ باقيةٌ لم تَنقَضِ بَعدَ ظُهورِ فائِدَتِها، ولزِمَتِ المُستَأجِرَ الأُجرةُ لِما بَقيَ مِنَ المُدَّةِ
[586] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 365)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/173). .