المَطلبُ العاشِرُ: الأصلُ في الأبضاعِ التَّحريمُ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في الأبضاعِ التَّحريمُ"
[373] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (1/166)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 282)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 38)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/264)، ((تقويم النظر)) لابن الدهان (4/155)، ((فتح العزيز)) للرافعي (1/280). ، وصيغةِ: "الأصلُ في الفُروجِ التَّحريمُ"
[374] يُنظر: ((التعليقة)) للقاضي حسين (1/500)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/314)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن تيمية (1/486)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/409)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 355). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ القاعِدةُ أنَّه عِندَ وُجودِ الشَّكِّ في المَرأةِ بأن تَقابَلَ فيها حِلٌّ وحُرمةٌ غَلبَتِ الحُرمةُ، فيَكونُ الأصلُ في الأبضاعِ هو التَّحريمَ حتَّى يُتَيَقَّنَ الحِلُّ، فلا يَجوزُ الإقدامُ على شَيءٍ مِنَ الفُروجِ إلَّا بدَليلٍ، ولا يَجوزُ التَّحَرِّي فيها، فيَبقى ما كان على ما كان، فتَكونُ الحُرمةُ أَولى احتياطًا
[375] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 282)، ((المنثور)) للزركشي (1/177)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 61)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 57)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (12/172). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفريعِها عنها أنَّ اليَقينَ الثَّابتَ في الفُروجِ أنَّها على التَّحريمِ، فلا تَتَغَيَّرُ عن هذا اليَقينِ إلَّا بيَقينٍ مِثلِه، ولا يَجوزُ الانتِقالُ عنه إلى الإباحةِ بالشَّكِّ؛ ولذلك قال الشِّيرازيُّ: (الأصلُ في الفُروجِ الحَظرُ، فلا تُستَباحُ مَعَ الشَّكِّ)
[376] ((المهذب)) (2/443). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، ودَلالةِ الاحتياطِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون: 5-7] .
والآياتُ صَريحةٌ في أنَّ الأصلَ في الفُروجِ التَّحريمُ، فلا تَحِلُّ إلَّا بعَقدِ النِّكاحِ الصَّحيحِ أو بمِلكِ اليَمينِ
[377] يُنظر: ((الجامع لفوائد بلوغ المرام)) لعبدالرحمن البراك (1/2/117). .
قال الشَّافِعيُّ: "كُلُّ النِّساءِ مُحَرَّماتُ الفُروجِ إلَّا بواحِدٍ مِنَ المَعنَيَينِ: النِّكاحِ، والوَطءِ بمِلكِ اليَمينِ، وهما المَعنيانِ اللَّذانِ أذِنَ اللهُ فيهما، وسَنَّ رَسولُ اللهِ كَيف النِّكاحُ الذي يَحِلُّ به الفَرجُ المُحَرَّمُ قَبلَهـ)
[378] ((الرسالة)) (ص: 344). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فاتَّقوا اللَّهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكُم أخَذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستَحللتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ اللهِ )) [379]أخرجه مسلم (1218) ولفظُه: عن جَعفرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عن أبيه، قال: دَخَلنا على جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ، فسَأل عنِ القَومِ حتَّى انتَهى إليَّ، فقُلتُ: أنا مُحَمَّدُ بنُ عليِّ بنِ حُسَينٍ، فأهوى بيَدِه إلى رَأسي، فنَزَعَ زِرِّي الأعلى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأسفَلَ، ثُمَّ وضَعَ كَفَّه بَينَ ثَديَيَّ وأنا يَومَئِذٍ غُلامٌ شابٌّ، فقال: مَرحَبًا بكَ يا ابنَ أخي، سَل عَمَّا شِئتَ، فسَألتُه، وهو أعمى، وحَضَرَ وقتُ الصَّلاةِ، فقامَ في نِساجةٍ مُلتَحِفًا بها، كُلَّما وضَعَها على مَنكِبه رَجَعَ طَرَفاها إليه؛ مِن صِغَرِها، ورِداؤُه إلى جَنبِه على المِشجَبِ، فصَلَّى بنا، فقُلتُ: أخبرني عن حَجَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال بيَدِه فعَقدَ تِسعًا، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكَثَ تِسعَ سِنينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أذَّنَ في النَّاسِ في العاشِرةِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاجٌّ، فقدِمَ المَدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، كُلُّهم يَلتَمِسُ أن يَأتَمَّ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَعمَلَ مِثلَ عَمَلِه. فخَرَجنا مَعَه، حتَّى أتَينا ذا الحُليفةِ، فولدَت أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ، فأرسَلَت إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَيف أصنَعُ؟ قال: اغتَسِلي، واستَثفِري بثَوبٍ وأحرِمي. فصَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصواءَ، حتَّى إذا استَوت به ناقَتُه على البَيداءِ، نَظَرتُ إلى مَدِّ بَصَري بَينَ يَدَيه، مِن راكِبٍ وماشٍ، وعن يَمينِه مِثُل ذلك، وعن يَسارِه مِثلُ ذلك، ومِن خَلفِه مِثلُ ذلك، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ أظهُرِنا، وعليه يَنزِلُ القُرآنُ، وهو يَعرِفُ تَأويلَه، وما عَمِل به مِن شَيءٍ عَمِلنا به. فأهَلَّ بالتَّوحيدِ: لبَّيكَ اللهُمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لبَّيكَ، إنَّ الحَمدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شَريكَ لكَ، وأهَلَّ النَّاسُ بهذا الذي يُهلُّونَ به، فلم يَرُدَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم شَيئًا مِنه، ولزِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَلبيَتَه. قال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنه: لسنا نَنوي إلَّا الحَجَّ، لسنا نَعرِفُ العُمرةَ، حتَّى إذا أتَينا البَيتَ مَعَه، استَلمَ الرُّكنَ فرَمَل ثَلاثًا ومَشى أربَعًا، ثُمَّ نَفذَ إلى مَقامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فقَرَأ: واتَّخِذوا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى [البَقَرة: 125] ، فجَعَل المَقامَ بَينَه وبَينَ البَيتِ، فكان أبي يَقولُ -ولا أعلمُه ذَكَرَه إلَّا عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: كان يَقرَأُ في الرَّكعَتَينِ قُلْ هو اللهُ أحَدٌ وقُلْ يا أيُّها الكافِرونَ. ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكنِ فاستَلمَه، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البابِ إلى الصَّفا، فلمَّا دَنا مِنَ الصَّفا قَرَأ: إنَّ الصَّفَا والمَروةَ مِن شَعائِرِ اللهِ [البَقَرة: 158] ، أبدَأُ بما بَدَأ اللهُ به، فبَدَأ بالصَّفا، فرَقِيَ عليه، حتَّى رَأى البَيتَ فاستَقبَل القِبلةَ، فوحَّدَ اللَّهَ وكَبَّرَه، وقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه، أنجَزَ وعدَه، ونَصَرَ عَبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وحدَه، ثُمَّ دَعا بَينَ ذلك، قال مِثلَ هذا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَل إلى المَروةِ، حتَّى إذا انصَبَّت قدَماه في بَطنِ الوادي سَعى، حتَّى إذا صَعِدَتا مَشى، حتَّى أتى المَروةَ، ففعَل على المَروةِ كَما فعَل على الصَّفا، حتَّى إذا كان آخِرُ طَوافِه على المَروةِ، فقال: لو أنِّي استَقبَلتُ مِن أمري ما استَدبَرتُ لم أسُقِ الهَديَ، وجَعَلتُها عُمرةً، فمَن كان مِنكُم ليسَ مَعَه هَديٌ فليَحِلَّ، وليَجعَلْها عُمرةً، فقامَ سُراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشُمٍ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ألعامِنا هذا أم لأبَدٍ؟ فشَبَّكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصابعَه واحِدةً في الأُخرى، وقال: دَخَلتِ العُمرةُ في الحَجِّ، مَرَّتَينِ، لا، بَل لأبَدِ أبَدٍ. وقدِمَ عليٌّ مِنَ اليَمَنِ ببُدنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوجَدَ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها مِمَّن حَلَّ، ولبسَت ثيابًا صَبيغًا، واكتَحَلت، فأنكَرَ ذلك عليها، فقالت: إنَّ أبي أمَرَني بهذا، قال: فكان عليٌّ يَقولُ بالعِراقِ: فذَهَبتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحَرِّشًا على فاطِمةَ للذي صَنَعَت، مُستَفتيًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما ذَكَرَت عنه، فأخبَرتُه أنِّي أنكَرتُ ذلك عليها، فقال: صَدَقَت صَدَقَت، ماذا قُلتَ حينَ فرَضتَ الحَجَّ؟ قال: قُلتُ: اللهُمَّ إنِّي أُهلُّ بما أهَلَّ به رَسولُكَ، قال: فإنَّ مَعيَ الهَديَ، فلا تَحِلُّ، قال: فكان جَماعةُ الهَديِ الذي قدِمَ به عليٌّ مِنَ اليَمَنِ والذي أتى به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِائةً. قال: فحَلَّ النَّاسُ كُلُّهم وقَصَّروا، إلَّا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن كان مَعَه هَديٌ، فلمَّا كان يَومُ التَّرويةِ تَوجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَلَّى بها الظُّهرَ والعَصرَ، والمَغرِبَ والعِشاءَ، والفَجرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَليلًا حتَّى طَلعَتِ الشَّمسُ، وأمَرَ بقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ له بنَمِرةَ، فسارَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا تَشُكُّ قُرَيشٌ إلَّا أنَّه واقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرامِ كَما كانت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجاهليَّةِ، فأجازَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أتى عَرَفةَ، فوجَدَ القُبَّةَ قد ضُرِبَت له بنَمِرةَ، فنَزَل بها، حتَّى إذا زاغَتِ الشَّمسُ أمَرَ بالقَصواءِ، فرُحِلت له، فأتى بَطنَ الوادي، فخَطَبَ النَّاسَ وقال: إنَّ دِماءَكُم وأموالكُم حَرامٌ عليكُم، كَحُرمةِ يَومِكُم هذا، في شَهرِكُم هذا، في بَلدِكُم هذا، ألا كُلُّ شَيءٍ مِن أمرِ الجاهليَّةِ تَحتَ قدَمَيَّ مَوضوعٌ، ودِماءُ الجاهليَّةِ مَوضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابنِ رَبيعةَ بنِ الحارِثِ، كان مُستَرضعًا في بَني سَعدٍ، فقَتَلته هُذَيلٌ، ورِبا الجاهليَّةِ مَوضوعٌ، وأوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبانا؛ رِبا عبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوضوعٌ كُلُّه، فاتَّقوا اللَّهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكُم أخَذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستَحللتُم فُروجَهنَّ بكَلمةِ اللهِ، ولكُم عليهنَّ أن لا يوطِئنَ فُرُشَكُم أحَدًا تَكرَهونَه، فإن فعَلنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكُم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمَعروفِ، وقد تَرَكتُ فيكُم ما لن تَضِلُّوا بَعدَه إنِ اعتَصَمتُم به؛ كِتابَ اللهِ، وأنتُم تُسألونَ عنِّي، فما أنتُم قائِلونَ؟ قالوا: نَشهَدُ أنَّكَ قد بَلَّغتَ وأدَّيتَ ونَصَحتَ، فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ، يَرفعُها إلى السَّماءِ ويَنكُتُها إلى النَّاسِ: اللهُمَّ اشهَدْ، اللهُمَّ اشهَدْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أذَّنَ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى العَصرَ، ولم يُصَلِّ بَينَهما شَيئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أتى المَوقِفَ، فجَعَل بَطنَ ناقَتِه القَصواءِ إلى الصَّخَراتِ، وجَعَل حَبلَ المُشاةِ بَينَ يَدَيه، واستَقبَل القِبلةَ، فلم يَزَلْ واقِفًا حتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ، وذَهَبَتِ الصُّفرةُ قَليلًا، حتَّى غابَ القُرصُ، وأردَف أُسامةَ خَلفَه، ودَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد شَنَقَ للقَصواءِ الزِّمامَ، حتَّى إنَّ رَأسَها ليُصيبُ مَورِكَ رَحلِه، ويَقولُ بيَدِه اليُمنى: أيُّها النَّاسُ، السَّكينةَ السَّكينةَ، كُلَّما أتى حَبلًا مِنَ الحِبالِ أرخى لها قَليلًا حتَّى تَصعَدَ، حتَّى أتى المُزدَلفةَ، فصَلَّى بها المَغرِبَ والعِشاءَ بأذانٍ واحِدٍ وإقامَتَينِ، ولم يُسَبِّحْ بَينَهما شَيئًا، ثُمَّ اضطَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى طَلعَ الفجرُ، وصَلَّى الفجرَ حينَ تَبَيَّنَ له الصُّبحُ بأذانٍ وإقامةٍ. ثُمَّ رَكِبَ القَصواءَ حتَّى أتى المَشعَرَ الحَرامَ، فاستَقبَل القِبلةَ، فدَعاه وكَبَّرَه وهَلَّله ووحَّدَه، فلم يَزَلْ واقِفًا حتَّى أسفرَ جِدًّا، فدَفعَ قَبل أن تَطلُعَ الشَّمسُ، وأردَف الفَضلَ بنَ عبَّاسٍ، وكان رَجُلًا حَسَنَ الشَّعرِ أبيَضَ وسيمًا، فلمَّا دَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّت به ظُعُنٌ يَجرينَ، فطَفِقَ الفضلُ يَنظُرُ إليهنَّ، فوضَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه على وَجهِ الفَضلِ، فحَوَّل الفَضلُ وَجهَه إلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، فحَوَّل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ على وَجهِ الفَضلِ، يَصرِفُ وجهَه مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، حتَّى أتى بَطنَ مُحَسِّرٍ، فحَرَّكَ قَليلًا، ثُمَّ سَلكَ الطَّريقَ الوُسطى التي تَخرُجُ على الجَمرةِ الكُبرى، حتَّى أتى الجَمرةَ التي عِندَ الشَّجَرةِ، فرَماها بسَبعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصاةٍ مِنها، مِثل حَصى الخَذفِ، رَمى مِن بَطنِ الوادي، ثُمَّ انصَرَف إلى المَنحَرِ، فنَحَرَ ثَلاثًا وسِتِّينَ بيَدِه، ثُمَّ أعطى عَليًّا، فنَحَرَ ما غَبَرَ، وأشرَكَه في هَديِه، ثُمَّ أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنةٍ ببَضعةٍ، فجُعِلَت في قِدرٍ، فطُبخَت، فأكَلا مِن لحمِها وشَرِبا مِن مَرَقِها. ثُمَّ رَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأفاضَ إلى البَيتِ، فصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهرَ، فأتى بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، يَسقونَ على زَمزَمَ، فقال: انزِعوا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، فلولا أن يَغلبَكُمُ النَّاسُ على سِقايَتِكُم لنَزَعتُ مَعَكُم، فناولوه دَلوًا فشَرِبَ مِنه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((استَحلَلتُم))، أي: طَلبتُمُ الحِلَّ بعَقدِ الزَّواجِ بَعدَ أن كان مُحرَّمًا أصلًا، وهذا قاطِعٌ في أنَّ الأصلَ في المَناكِحِ المَنعُ والحَظرُ، والأصلُ في الأبضاعِ التَّحريمُ، فإذا تَقابَل في المَرأةِ حِلٌّ وحُرمةٌ غَلبَتِ الحُرمةُ
[380] يُنظر: ((النوازل في الرضاع)) لعبد الله الأحمد (ص: 338). .
3- دَلالةُ الاحتياطِ:فإنَّ الشَّرعَ يَحتاطُ في الخُروجِ مِنَ الحُرمةِ إلى الإباحةِ أكثَرَ مِنَ الخُروجِ مِنَ الإباحةِ إلى الحُرمةِ؛ لأنَّ التَّحريمَ يَعتَمِدُ المَفاسِدَ، فيَتَعَيَّنُ الاحتياطُ له، فلا يُقدَمُ على مَحَلٍّ فيه المَفسَدةُ إلَّا بسَبَبٍ قَويٍّ يَدُلُّ على زَوالِ تلك المَفسَدةِ أو يُعارِضُها، ويَمنَعُ الإباحةَ ما فيه مَفسَدةٌ بأيسَرِ الأسبابِ؛ دَفعًا للمَفسَدةِ بحَسَبِ الإمكانِ؛ فمَثَلًا المَرأةُ حُرِّمَت بمُجَرَّدِ عَقدِ الأبِ؛ لأنَّه خُروجٌ عن إباحةٍ إلى حُرمةٍ، والمبتوتةُ لا تَحِلُّ إلَّا بعَقدٍ ووَطءٍ حَلالٍ وطَلاقٍ وانقِضاءِ عِدَّةٍ مِن عدَدِ الأوَّلِ؛ لأنَّه خُروجٌ مِن حُرمةٍ إلى إباحةٍ، ويَقَعُ الطَّلاقُ بالكِناياتِ وإن بَعُدَت حتَّى أوقَعَه مالِكٌ بالتَّسبيحِ والتَّهليلِ وجَميعِ الألفاظِ إذا قَصَدَ بها الطَّلاقَ؛ لأنَّه خُروجٌ مِنَ الحِلِّ إلى الحُرمةِ، فيَكفي فيه أدنى سَبَبٍ؛ فلهذه القاعِدةِ لم يَجُزِ النِّكاحُ بكُلِّ لفظٍ، بَل بما فيه قُربٌ مِن مَقصودِ النِّكاحِ؛ لأنَّه خُروجٌ مِنَ الحُرمةِ إلى الحِلِّ، بخِلافِ البَيعِ؛ فإنَّه يَجوزُ بجَميعِ الصِّيَغِ والأفعالِ الدَّالَّةِ على الرِّضا بنَقلِ المِلكِ في العِوَضَينِ؛ لأنَّه خُروجٌ مِنَ الحِلِّ إلى الحُرمةِ
[381] يُنظر: ((تهذيب الفروق)) لمحمد علي حسين (3/181). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا اشتَبَهَ على الرَّجُلِ امرَأتُه فيما بَينَ جَماعةٍ مِنَ النِّسوةِ، لا يَجوزُ له التَّحَرِّي فيه؛ لأنَّ الأصلَ في الفُروجِ التَّحريمُ، ولا يَجوزُ استِباحَتُها بالاجتِهادِ، وعِندَ الشَّكِّ، ولأنَّه لا ضَرورةَ له إلى ذلك؛ لأنَّه يُمكِنُه أن يَعقِدَ على واحِدةٍ مِنهنَّ عَقدَ النِّكاحِ. فأمَّا إذا اشتَبَهَ عليه واحِدةٌ مِن مَحارِمِه بَينَ جَماعةٍ مِنَ النِّساءِ، أوِ اختَلطَ مَحارِمُه بنِساءِ بَلدةٍ بعَينِها يُنظَرُ: فإن كان نِساءُ تلك البَلدةِ مَحصوراتٍ مَعدوداتٍ لا يَجوزُ له التَّزَوُّجُ بواحِدةٍ مِنهنَّ بالاجتِهادِ؛ لأنَّ ذلك قد وقَعَ نادِرًا، ويُمكِنُه الانتِقالُ إلى غَيرِهنَّ، فأمَّا إذا كان نِساءُ تلك البَلدةِ غَيرَ مَحصوراتٍ، فيَجوزُ له التَّزَوُّجُ بواحِدةٍ بامرَأةٍ غَريبةٍ مِنهم، فيَجوزُ ذلك لأجلِ الضَّرورةِ
[382] يُنظر: ((التعليقة)) للقاضي حسين (1/500). ويُنظر أيضًا: ((المنثور)) للزركشي (1/177). .
2- ومِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ التي تَتَخَرَّجُ على القاعِدةِ: المَنعُ مِنِ استِئجارِ الأرحامِ بأن تُؤخَذَ بُوَيضةٌ مِنَ الزَّوجةِ وتُلقَّحَ بماءِ زَوجِها ثُمَّ تُعادَ اللَّقيحةُ إلى امرَأةٍ تُستَأجَرُ لذلك؛ لآفةٍ في رَحِمِ الزَّوجةِ، أو أنَّ هذا الرَّحِمَ قدِ استُئصِل بعَمَليَّةٍ جِراحيَّةٍ، أو أنَّ المَرأةَ لا تُريدُ مَشَقَّةَ الحَملِ والوِلادةِ؛ فتَستَأجِرُ أُخرى لتَحمِلَ عنها، وتُعتَبَرُ الأُمُّ البَديلةُ هَنا طَرَفًا ثالثًا خارِجًا عن نِطاقِ الزَّوجَينِ، وقدِ اتَّفقَ المُعاصِرونَ على تَحريمِها؛ لأنَّ استِئجارَ الرَّحِمِ لأجلِ الحَملِ عَقدُ إجارةٍ غَيرُ شَرعيٍّ، والإجارةُ على المُحَرَّمِ مُحَرَّمةٌ، والمَرأةُ لا تَملِكُ تَأجيرَ رَحِمِها، فلا تُباحُ بالإباحةِ؛ لأنَّ للرَّحِمِ مَنفَذًا مِنَ الفرجِ، والأصلُ في الفُروجِ الحُرمةُ
[383] يُنظر: ((النوازل في الرضاع)) لعبد الله الأحمد (ص: 338). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِدَفعُ تَعارُضٍ:عِندَ التَّعارُضِ بَينَ هذه القاعِدةِ وبَينَ البَراءةِ الأصليَّةِ فإنَّ الأصلَ في الفُروجِ التَّحريمُ، والحَظرُ مُقدَّمٌ على الإباحةِ والبَراءةِ الأصليَّةِ، وإن كانت مُستَصحَبةً، لكِن قد عورِضَت بمِثلِ ذلك
[384] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 355). .
فإذا تَعارَضَ دَليلُ الحِلِّ، ودَليلُ الحُرمةِ تَساقَطا، ووجَبَ بَقاءُ حُكمِ الأصلِ في الأبضاعِ، وهو الحُرمةُ، ولذا لمَّا سُئِل عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه عنِ الجَمعِ بَينَ الأُختَينِ في مِلكِ اليَمينِ، قال: (أحَلَّتهما آيةٌ، وحَرَّمَتهما آيةٌ)
[385] أخرجه مالك (3/772)، وعبدالرزاق (12728)، والبيهقي (14044). ، فحُكِمَ عِندَ ذلك بالتَّحريمِ
[386] يُنظر: ((اللباب)) لابن عادل (4/56). .