المَطلبُ الحادي عَشَرَ: الأصلُ في المَضارِّ التَّحريمُ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في المَضارِّ التَّحريمُ"
[387] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (6/105)، ((التحصيل)) للأرموي (2/314)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3894)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/103)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 487)، ((القواعد)) للحصني (1/478). ، وصيغةِ: "الأصلُ في المَضارِّ المَنعُ"
[388] يُنظر: ((الذخيرة)) (1/155)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 451) كلاهما للقرافي، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3938)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2599)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/66). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ القاعِدةُ تَحريمَ سائِرِ أنواعِ الضَّرَرِ في الشَّرعِ، فلا يَجوزُ للإنسانِ أن يَضُرَّ شَخصًا آخَرَ في نَفسِه ومالِه؛ لأنَّه نَوعٌ مِنَ الظُّلمِ، وتَحريمُ الضَّرَرِ يُفيدُ دَفعَه قَبلَ وُقوعِه بطُرُقِ الوِقايةِ المُمكِنةِ، ورَفعَه بَعدَ وُقوعِه بما يُمكِنُ مِنَ التَّدابيرِ التي تُزيلُه، وتَمنَعُ تَكرارَه
[389] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/36)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/199). .
وقد تَعظُمُ المَضَرَّةُ فيَصحَبُها التَّحريمُ على قَدرِ رُتبَتِها
[390] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 451). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:- قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف: 56] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ مَعنى الآيةِ: لا تُفسِدوا شَيئًا في الأرضِ، فيَدخُلُ فيه المَنعُ مِن إفسادِ النُّفوسِ بالقَتلِ وبقَطعِ الأعضاءِ، وإفسادِ الأموالِ بالغَصبِ والسَّرِقةِ، وإفسادِ الدِّينِ بالكُفرِ والبدعةِ، وإفسادِ الأنسابِ بسَبَبِ الإقدامِ على الزِّنا واللِّواطةِ وسَبَبِ القَذفِ، وإفسادِ العُقولِ بسَبَبِ شُربِ المُسكِراتِ؛ فدَلَّتِ الآيةُ على أنَّ الأصلَ في جَميعِ المَضارِّ والآلامِ الحُرمةُ والمَنعُ على الإطلاقِ
[391] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/283). .
- قَولُ اللهِ تعالى:
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَوله تعالى:
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ يَدُلُّ على أنَّ الأصلَ في المَضارِّ أن لا تَكونَ مَشروعةً؛ لأنَّ كُلَّ ما كان ضَرَرًا كان إصرًا وغِلًّا، وظاهِرُ هذا النَّصِّ يَقتَضي عَدَمَ المَشروعيَّةِ
[392] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/381)، ((تفسير الخازن)) (2/258). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ:
((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ )) [393] أخرجه الدارقطني (4/51)، والحاكم (2380)، والبيهقي (11495) مُطوَّلًا، ولفظُ الحاكِمِ: عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ، مَن ضارَّ ضارَّه اللَّهُ، ومَن شاقَّ شاقَّ اللَّهُ عليهـ)). حَسَّنه النووي في ((الأربعون النووية)) (32) وقال: وله طُرُقٌ يُقَوِّي بعضُها بعضًا، وابنُ تيمية في ((بيان الدليل)) (608)، وقال ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/207): بَعضُ طُرُقِه تَقوى ببَعضٍ، وحَسَّنه الألبانيُّ لطُرُقِه وشَواهدِه الكَثيرةِ في ((أحكام الجنائز)) (16). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ يَدُلُّ على نَفيِ الضَّرَرِ مُطلقًا؛ لأنَّ النَّكِرةَ المَنفيَّةَ تَعُمُّ، وهذا النَّفيُ ليسَ وارِدًا على الإمكانِ ولا الوُقوعِ قَطعًا، بَل على الجَوازِ، وإذا انتَفى الجَوازُ ثَبت التَّحريمُ، وهو المُدَّعى
[394] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 360). .
- وعن أبي صِرمةَ مالِكِ بنِ قَيسٍ المازِنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ:
((مَن ضارَّ ضارَّ اللَّهُ به، ومَن شاقَّ شاقَّ اللَّهُ عليه )) [395] أخرجه أبو داود (3635)، والترمذي (1940) واللفظ له، وابن ماجه (2342). حَسَّنه ابنُ تيمية في ((بيان الدليل)) (608)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1940)، وصححه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3635). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الحَديثَ ظاهرٌ في تَحريمِ جَميعِ أنواعِ الضَّرَرِ، ما قَلَّ مِنه وما كَثُرَ، إلَّا لدَليلٍ، فلا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يُعامِلَ أخاه المُسلمَ على وَجهِ المُضارَّةِ؛ إذ إنَّ المُضارَّةَ بَينَ المُسلمينَ مُحَرَّمةٌ
[396] يُنظر: ((حاشية البجيرمي)) (3/101)، ((الكفاية)) لعبد الله حمد (5/57). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ1- يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أشياءُ كَثيرةٌ؛ مِنها: تَحريمُ طَلاقِ المَرأةِ في حالِ الحَيضِ؛ لأنَّها تَتَضَرَّرُ به بسَبَبِ إطالةِ العِدَّةِ عليها.
قال القاضي عَبدُ الوهَّابِ: (طَلاقُها حالَ الحَيضِ إضرارٌ بها؛ لأنَّه يُطَوِّلُ عليها العِدَّةَ، فيَجِبُ إزالتُهـ)
[397] ((الإشراف)) (2/737). .
2- مِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ التي تَتَخَرَّجُ على القاعِدةِ تَحريمُ تَغييرِ الجِنسِ البَشَريِّ.
فقد يَرغَبُ بَعضُ الأشخاصِ في تَغييرِ جِنسِهم إلى الجِنسِ الآخَرِ، مِن ذَكَرٍ إلى أُنثى أوِ العَكسِ، مَعَ أنَّ الكُروموسوماتِ (الصِّبغيَّاتِ) لدَيهم طَبيعيَّةٌ، ولا توجَدُ مُشكِلةٌ في أعضائِهمُ التَّناسُليَّةِ، وليسَ لهذا التَّغييرِ أيُّ مُسَوِّغٍ طِبِّيٍّ، ويَجري التَّدَخُّلُ الطِّبِّيُّ في هذه الحالةِ بإحداثِ تَغييرٍ على الأعضاءِ التَّناسُليَّةِ الظَّاهرةِ مَعَ إعطاءِ الشَّخصِ بَعضَ الهرموناتِ التي تكسِبُه مَلامِحَ الجِنسِ الآخَرِ
[398] يُنظر: ((الجراحة التجميلية عرض طبي ودراسة فقهية مفصلة)) لصالح الفوزان (ص: 535)، ((الطبيب أدبه وفقههـ)) للسباعي والبار (ص: 324)، ((أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 199). .
وقد صَدَرَ قَرارُ المَجمَعِ الفِقهيِّ التَّابعِ لرابطةِ العالمِ الإسلاميِّ في دَورتِه الحاديةَ عَشرةَ بتَحريمِ تَغييرِ الجِنسِ بالعَمَليَّاتِ الجِراحيَّةِ
[399] يُنظر: ((قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في دوراته العشرين)) (ص: 291). .
فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا نَغزو مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليسَ لنا شَيءٌ، فقُلنا: ألَا نستخصي؟ فنَهانا عن ذلك )) [400] أخرجه البخاري (5075) واللفظ له، ومسلم (1404). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: (فنَهانا عن ذلك) هو نَهيُ تَحريمٍ بلا خِلافٍ في بَني آدَمَ ... وفيه أيضًا مِنَ المَفاسِدِ تَعذيبُ النَّفسِ والتَّشويهُ، مَعَ إدخالِ الضَّرَرِ الذي قد يُفضي إلى الهَلاكِ، وفيه إبطالُ مَعنى الرُّجوليَّةِ، وتَغييرُ خَلقِ اللهِ، وكُفرُ النِّعمةِ؛ لأنَّ خَلقَ الشَّخصِ رَجُلًا مِنَ النِّعَمِ العَظيمةِ، فإذا أزال ذلك فقد تشَبَّه بالمَرأةِ، واختارَ النَّقصَ على الكَمالِ)
[401] ((فتح الباري)) (9/119). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفوائِدُ:1- يُشتَرَطُ في تَحريمِ المَضارِّ أن يَتَحَقَّقَ وُجودُ الضَّرَرِ، أمَّا ما كان إفضاؤُه إلى المَحظورِ نادِرًا، كَزِراعةِ العِنَبِ خَشيةَ اتِّخاذِها خَمرًا، فهذا مِمَّا اتُّفِقَ على عَدَمِ تَحريمِه، بَل يَبقى على أصلِه مِنَ الإباحةِ، وقد حَكى القَرافيُّ الإجماعَ على ذلك
[402] قَسَّمَ القَرافيُّ الذَّريعةَ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ، فقال فيها: (وقِسمٌ أجمَعَتِ الأُمَّةُ على عَدَمِ مَنعِه، وأنَّه ذَريعةٌ لا تُسَدُّ، ووسيلةٌ لا تُحسَمُ، كالمَنعِ مِن زِراعةِ العِنَبِ خَشيةَ الخَمرِ؛ فإنَّه لم يَقُلْ به أحَدٌ، وكالمَنعِ مِنَ المُجاورةِ في البُيوتِ خَشيةَ الزِّنا). ((الفروق)) (2/32). .
قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (ما لا يَتَرَتَّبُ عليه مُسَبَّبُه إلَّا نادِرًا فهذا لا يَحرُمُ الإقدامُ عليه؛ لغَلبةِ السَّلامةِ مِن أذيَّتِه، وهذا كالماءِ المُشَمَّسِ في الأواني المَعدِنيَّةِ في البلادِ الحارَّةِ، فإنَّه يُكرَهُ استِعمالُه مَعَ وِجدانِ غَيرِه؛ خَوفًا مِن وُقوعِ نادِرِ ضَرَرِه، فإن لم يَجِدْ غَيرَه تعَيَّن استِعمالُه؛ لغَلبةِ السَّلامةِ مِن شَرِّه؛ إذ لا يَجوزُ تَعطيلُ المَصالحِ الغالبةِ خَوفًا مِن وُقوعِ المَفاسِدِ النَّادِرةِ)
[403] ((قواعد الأحكام)) (1/100). .
2- إذا وقَعَت حادِثةٌ مُشتَمِلةٌ على الضَّرَرِ مِن كُلِّ الوُجوهِ، ووجَدنا نَصًّا خاصًّا يَدُلُّ على جَوازِ الإقدامِ على بَعضِ المَضارِّ: قَضَينا به؛ تَقديمًا للخاصِّ على العامِّ، وإلَّا بَقيَ على التَّحريمِ، وقَضَينا عليه بالحُرمةِ بناءً على هذا الأصلِ الذي قَرَّرناه
[404] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/283) و(20/228). .
قال الفناريُّ: (إنَّما يُترَكُ هذا الأصلُ لنَصٍّ قَطعيِّ الثُّبوتِ والدَّلالةِ)
[405] ((فصول البدائع)) (2/497). .
وبناءً على ذلك فالقاعِدةُ مُقَيَّدةٌ بغَيرِ ما ثَبَتَ بالشَّرعِ، كالقِصاصِ والحُدودِ ومُعاقَبةِ المُجرِمينَ، وسائِرِ العُقوباتِ والتَّعازيرِ، وإن ترَتَّب عليها ضَرَرٌ بهم؛ لأنَّ فيها عَدلًا ودَفعًا لضَرَرٍ أعَمَّ وأعظَمَ، ولأنَّ دَرءَ المَفاسِدِ مُقدَّمٌ على جَلبِ المَصالحِ، ولأنَّها لم تُشرَعْ في الحَقيقةِ إلَّا لدَفعِ الضَّرَرِ أيضًا
[406] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 165)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/199). .