موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّاني عَشَرَ: الأصلُ في العِباداتِ الحَظرُ، وفي العاداتِ الإباحةُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في العِباداتِ الحَظرُ، وفي العاداتِ الإباحةُ" [407] يُنظر: ((تيسير اللطيف المنان)) للسعدي (ص: 166)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/126)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/769)، ((توضيح الأحكام)) للبسام (1/70)، ((موسوعة مواقف السلف)) لمحمد المغراوي (9/335)، ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 218). ، وصيغةِ: "الأصلُ في العِباداتِ التَّوقيفُ ... والعاداتُ الأصلُ فيها العَفوُ" [408] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/17). ، وصيغةِ: "الأصلُ في العِباداتِ: البُطلانُ، حتَّى يَقومَ دَليلٌ على الأمرِ، والأصلُ في العُقودِ والمُعامَلاتِ: الصِّحَّةُ، حتَّى يَقومَ دَليلٌ على البُطلانِ والتَّحريمِ" [409] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن تيمية (1/486)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/167)، ((أضواء البيان)) لمحمد الأمين الشنقيطي (4/819). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الحُكمَ المُستَصحَبَ والأصلَ المُطَّرِدَ في التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تعالى هو: المَنعُ والحَظرُ، والرَّدُّ والبُطلانُ، إلَّا ما جاءَ به الشَّرعُ وأذِنَ فيه مِنَ العِباداتِ؛ فإنَّه لا يَأخُذُ حُكمَ المَنعِ، فلا يُشرَعُ مِنها إلَّا ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه، وعلى هذا فكُلُّ مَن أتى بعِبادةٍ لم يَدُلَّ عليها كِتابُ اللهِ ولا سُنَّةُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهيَ بِدعةٌ مَردودةٌ، فلا يَجوزُ لأحَدٍ أن يَتَعَبَّدَ للهِ بشَيءٍ لم يَشرَعْه اللهُ في كِتابِه، أو في سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَتى شَكَّ الإنسانُ في شَيءٍ: أَمِنْ أعمالِ العِبادةِ أو لا؟ فالأصلُ أنَّه ليسَ بعِبادةٍ حتَّى يَقومَ دَليلٌ على أنَّه عِبادةٌ [410] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/332)، ((المنتقى)) لابن عثيمين (ص: 147)، ((قاعدة الأصل في العبادات المنع)) لمحمد حسين الجيزاني (ص: 35)، ((توضيح الأحكام)) لعبد الله البسام (1/70). .
والأصلُ في العاداتِ مِن مَآكِلَ ومَشارِبَ ومَلابِسَ وغَيرِها: الإباحةُ، حتَّى يَقومَ دَليلٌ على المَنعِ، فلا يَحرُمُ مِنها إلَّا ما ورَدَ الدَّليلُ بتَحريمِه؛ فالمُعامَلاتُ والعاداتُ باقيةٌ على الأصلِ ما لم تُخالِفْ أصلًا شَرعيًّا، أو يَأتي الصَّارِفُ الشَّرعيُّ لذلك، ومِن ذلك: شُربُ الخَمرِ؛ فهو مِن جِنسِ العاداتِ التي حَرَّمَها اللهُ تعالى [411] يُنظر: ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 219)، ((جامع المسائل والقواعد)) لعبد الفتاح مصيلحي (2/374). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها: أنَّ قاعِدةَ: (الأصلُ في العِباداتِ المَنعُ) تُفيدُ أنَّ الأصلَ المُتَيَقَّنَ هو انتِفاءُ العِبادةِ وعَدَمُ وُرودِها في الشَّرعِ ما لم يَأتِ الدَّليلُ المُزيلُ لهذا اليَقينِ، وبَيانُ ذلك: أنَّ العَمَلَ بها مُستَنِدٌ إلى العَمَلِ بالاستِصحابِ، وهذا يَقتَضي في بابِ العِباداتِ الحُكمَ بانتِفاءِ جَميعِ العِباداتِ ومَنعِها؛ استِبقاءً للأصلِ، وهو عَدَمُ مَشروعيَّتِها، ويَقتَضي أيضًا في بابِ العاداتِ الحُكمَ بحِلِّ جَميعِ العاداتِ والإذن فيها؛ استِبقاءً للأصلِ، وهو جَوازُ الإقدامِ عليها. هذا هو حُكمُ الاستِصحابِ، وهو البَقاءُ على الأصلِ، ولمَّا كان هذا الأصلُ مُتَيَقَّنًا كان التَّمَسُّكُ بالأصلِ تَمَسُّكًا باليَقينِ وعَمَلًا به [412] يُنظر: ((قاعدة الأصل في العبادات المنع)) لمحمد حسين الجيزاني (ص: 38، 46). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ للشِّقِّ الأوَّلِ مِنَ القاعِدةِ، وهو (الأصلُ في العِباداتِ الحَظرُ) بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والأثَرِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: أَمْ لَهُمْ ‌شُرَكَاءُ ‌شَرَعُوا ‌لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الأُمورَ المَشروعةَ لا بُدَّ أن يَكونَ فيها إذنٌ مِنَ اللهِ، يَعني التي يَفعَلُها الإنسانُ تَدَيُّنًا لا بُدَّ أن يَكونَ فيها إذنٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أنكَرَ على هَؤُلاءِ الذينَ اتَّخَذوا شُرَكاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وهذا بمَعنى قَولِنا: الأصلُ في العِباداتِ الحَظرُ والمَنعُ، إلَّا إذا قامَ دَليلٌ على مَشروعيَّتِه.
أمَّا ما سِوى الأُمورِ الدِّينيَّةِ فإنَّه خاضِعٌ للأُمورِ العاديَّةِ أو للأحوالِ العاديَّةِ؛ لقَولِه: شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وعلى هذا لو شَرَعوا قَوانينَ ونُظُمًا لا عَلاقةَ لها بالدِّينِ فإنَّ ذلك جائِزٌ، ولا تُعَدُّ موافقةُ هذه النُّظُمِ شِركًا. فكَيف إذا كانت هذه النُّظُمُ تُؤَيَّدُ بالقَواعِدِ العامَّةِ، وهيَ جَلبُ المَصالحِ ودَفعُ المَفاسِدِ؟ [413] يُنظر: ((تفسير سورة الشورى)) لابن عثيمين (ص: 204). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن عَمِل عَمَلًا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [414] أخرجه مسلم (1718). وأخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350) دون ذِكر راويه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
هذا الحَديثُ أصلٌ عَظيمٌ في الشَّريعةِ؛ حَيثُ إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَيَّدَ قَبولَ العِبادةِ بأخذِها عنه، وصُدورِها مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاعتِبارُ غَيرِ ما قاله أو فعَلَه مِنَ العِباداتِ عِبادةً تُفعَلُ أو تُقالُ- اعتِبارٌ مَردودٌ على صاحِبِه؛ لأنَّ ذلك مَحظورٌ عليه، فأبانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ كُلَّ أمرٍ ليسَ مِن شَرعِ اللهِ تعالى فهو مَردودٌ باطِلٌ، لا يُعتَدُّ به ولا بما يَتَرَتَّبُ عليه، وفيه دَليلٌ على أنَّ الأصلَ في العِباداتِ الحَظرُ، فلا يُشرَعُ مِنها ولا يُزادُ فيها إلَّا ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه [415] يُنظر: ((التحفة المكية)) لمحمد الشاوي (ص: 220)، ((تيسير العلام)) للبسام (ص: 698). .
3- مِنَ الأثَرِ:
أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه قَبَّل الحَجَرَ الأسودَ، وقال: (إنِّي أعلمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنفعُ، ولولا أنِّي رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلتُكَ) [416] أخرجه البخاري (1597) واللفظ له، ومسلم (1270). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يُؤخَذُ مِن هذا الأثَرِ أصلٌ شرعيٌّ عَظيمٌ، هو أنَّ الأصلَ في العِباداتِ الحَظرُ والمَنعُ، فلا يُشرَعُ مِنها إلَّا ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه، فلا مَجالَ للرَّأيِ في ذلك، كَما نَبَّهَ على أنَّ القُدوةَ في ذلك خاصَّةً هو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه المُبَلِّغُ عنِ اللهِ تعالى، فهو القُدوةُ والأُسوةُ في الأُمورِ الشَّرعيَّةِ [417] يُنظر: ((توضيح الأحكام)) للبسام (4/144). .
وأمَّا الشِّقُّ الثَّاني مِنَ القاعِدةِ، وهو (الأصلُ في العاداتِ الإباحةُ)، فيُستَدَلُّ له بما سَبَقَ في أدِلَّةِ قاعِدةِ: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
1- يَندَرِجُ تَحتَ الشِّقِّ الأوَّلِ مِن هذه القاعِدةِ تَحريمُ التَّغييرِ في العِباداتِ بزيادةٍ أو نُقصانٍ [418] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/770). .
ومِن أمثِلة العِباداتِ التي يَختَرِعُها بَعضُ النَّاسِ ولا أصلَ لها: صَلاةُ الفائِدةِ، وهيَ عِدَّةُ رَكَعاتٍ تُصَلَّى في آخِرِ جُمعةٍ مِن رَمَضانَ!
وهذا القَولُ ليسَ بصحيحٍ، وليسَ هناكَ صَلاةٌ تُسَمَّى صَلاةَ الفائِدةِ، بَل جَميعُ الصَّلواتِ فوائِدُ، وصَلاةُ الفريضةِ أكبَرُ الفوائِدِ؛ لأنَّ جِنسَ العِبادةِ إذا كان فريضةً فهو أفضَلُ مِن نافِلتِها؛ لِما ثَبَتَ في الحَديثِ الصَّحيحِ أنَّ اللَّهَ تعالى يَقولُ: ((وما تقَرَّب إليَّ عَبدي بشَيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افتَرَضتُ عليه )) [419] أخرجه البخاري (6502) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: عن أبي هرَيرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذَنتُه بالحَربِ، وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبدي بشَيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افتَرَضتُ عليه، وما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحبَبتُه كُنتُ سَمعَه الذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويَدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يَمشي بها، وإن سَألني لأُعطيَنَّه، ولئِنِ استَعاذَني لأُعيذَنَّه، وما تَرَدَّدتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُه تَرَدُّدي عن نَفسِ المُؤمِنِ؛ يَكرَهُ المَوتَ، وأنا أكرَه مَساءَتَهـ)). . ولأنَّ اللَّهَ أوجَبَها، وهو دَليلٌ على مَحَبَّتِه لها، وعلى أنَّها أنفَعُ للعَبدِ مِنَ النَّافِلةِ؛ ولهذا أُلزِمَ بها لمَصلحَتِه بما يَكونُ فيها مِنَ الأجرِ، فكُلُّ الصَّلواتِ فوائِدُ [420] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/331). .
ويَندَرِجُ تَحتَ الشِّقِّ الثَّاني مِنَ القاعِدةِ الأُمورُ التي يَعتادُها النَّاسُ في مَصالحِهم وحاجاتهم وعَلاقاتِهمُ الاجتِماعيَّةِ، مِمَّا لا يَتَعارَضُ مَعَ الشَّرعِ، ويَعتادونَ عليها، فالأصلُ فيها الإباحةُ، كَعاداتِ الطَّعامِ، والاحتِفالاتِ، والاجتِماعاتِ، والأفراحِ، والحَفَلاتِ، والزِّياراتِ، وغَيرِها، وتُصبحُ عادةً خاصَّةً، أو عُرفًا عامًّا، أو تَعارُفًا خاصًّا في بَلدةٍ أو فِئةٍ [421] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/770). .
2- مِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ التي تَتَخَرَّجُ على القاعِدةِ: عَدَمُ جَوازِ استِثمارِ أموالِ الزَّكاةِ، وإنَّما يَجِبُ تَوصيلُها إلى مُستَحِقِّيها بأعيانِها. فلا يَجوزُ شَرعًا أن تُودَعَ أموالُ الزَّكاةِ في مَشاريعَ استِثماريَّةٍ مِن إنشاءِ المَصانِعِ والشَّرِكاتِ لتَوزيعِ مَنافِعِها بَينَ أصحابِ الاستِحقاقِ للزَّكاةِ، سَواءٌ أفعَل ذلك المُزَكُّونَ أنفُسُهم أوِ الجِهاتُ الشَّرعيَّةُ المسؤولةُ عن جَمعِ الزَّكاةِ وتَوزيعِها؛ لأنَّ أموالَ الزَّكاةِ لا تَصِلُ إلى مُستَحِقِّيها في هذه الصُّورةِ، فيُخشى مِن لُحوقِ الخَسائِرِ بالمَصانِعِ، وضَياعِ مَبلغٍ كَبيرٍ مِن أموالِ الزَّكاةِ، بالإضافةِ إلى ما في ذلك مِن إمساكٍ عن تَلبيةِ الحاجةِ الماسَّةِ الفوريَّةِ للمُستَحِقِّينَ، وتَجميدِ أموالِ الزَّكاةِ؛ وذلك لأنَّ الزَّكاةَ عِبادةٌ تَتَكَرَّرُ في كُلِّ عامٍ، فلم يَجُزْ تَأخيرُها إلى وقتِ وُجوبِ مِثلِها، والاستِثمارُ يُؤَدِّي حَتمًا إلى تَأخيرِها، والأصلُ في العِباداتِ الحَظرُ، فلا يُشرَعُ مِنها إلَّا ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [422] يُنظر: ((الشامل في زكاة الأسهم)) لصالح البقمي (ص: 142، 149). .

انظر أيضا: