موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ التَّاسعَ عَشَرَ: النِّيَّةُ إنَّما تَعمَلُ مَعَ لفظٍ مُحتَملٍ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "النِّيَّةُ إنَّما تَعمَلُ مَعَ لفظٍ مُحتَملٍ" [180] يُنظر: ((فتح القدير)) للكمال بن الهمام (3/484). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ "النِّيَّةُ إنَّما تَعمَلُ في المَلفوظِ" [181] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (1/156). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
شُرِعَتِ النِّيَّةُ للتَّمييزِ، والتَّمييزُ يَكونُ بَينَ ما يَحتَمِلُه الكَلامُ مِن مَعانٍ مُتَعَدِّدةٍ، فلو نَوى المُكَلَّفُ باللَّفظِ ما يَحتَمِلُه قُبِل مِنه، وإن نوى ما لا يَحتَمِلُه لا يُقبَلُ مِنه ولا يُصَدَّقُ، واللَّفظُ الذي يَحتَمِلُ شَيئَينِ أو أشياءَ إنِ احتَمَلَهما على السَّواءِ فنَوى أحَدَهما فإنَّه يُصَدَّقُ ديانةً وقَضاءً؛ لأنَّ الظَّاهرَ لا يُكَذِّبُه، وإنِ احتَمَل أحَدَها احتِمالًا مَرجوحًا فنَوى ذلك المَرجوحَ يُنظَرُ إن كان فيه تَغليظٌ على نَفسِه يُصَدَّقُ أيضًا ديانةً؛ لأنَّه غَيرُ مُتَّهمٍ في ذلك، لكِنَّه لا يُصَدَّقُ قَضاءً؛ لأنَّ القَضاءَ مَبنيٌّ على الظَّاهرِ، وهو مُخالفٌ لما نَوى، وإن نَوى ما لا يَحتَمِلُه لفظُه لا يُصَدَّقُ ديانةً ولا قَضاءً؛ لأنَّه يَخلو عنِ اللَّفظِ، وأنَّ النِّيَّةَ لا حُكمَ لها على الانفِرادِ، فلو قال لزَوجَتِه: كُلي واشرَبي، ونَوى الطَّلاقَ، فلا يَصحُّ؛ لأنَّ المَنويَّ ليسَ مِن مُحتَملاتِ لفظِه، وإذا لم يَكُنْ مِن مُحتَملاتِ لفظِه فقد تَجَرَّدَتِ النِّيَّةُ عن لفظٍ يَدُلُّ عليها [182] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (7/64)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر (8/206)، ((المغني)) لابن قدامة (7/843)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (1/156)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (2/162)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (3/763). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ المَعقولُ، على النَّحوِ التَّالي:
1- أنَّ النِّيَّةَ يُقصَدُ بها التَّمييزُ، وإنَّما يَتَأتَّى ذلك في لفظٍ مُحتَملٍ، كَعامٍّ يَحتَمِلُ التَّخصيصَ، أو مُجمَلٍ يَحتاجُ إلى البَيانِ، أو مُشتَرَكٍ يُعيِّنُ بَعضَ أفرادِه، أمَّا إذا لم يَكُنِ اللَّفظُ مُحتَملًا فمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لا تَأثيرَ لها في أحكامِ الدُّنيا [183] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (2/162). .
2- أنَّ ما لا يَحتَمِلُه اللَّفظُ غَيرُ مَذكورٍ في الكَلامِ، فلم تُصادِفِ النِّيَّةُ مَحَلَّها فتَلغو [184] يُنظر: ((النهر الفائق)) لابن نجيم (3/85)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (3/781). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو قال: للهِ عليَّ أن أصومَ شَهرًا، وهو يَعني رَجَبًا بعَينِه، قُبِلَ مِنه؛ لأنَّ المَنويَّ مِن مُحتَملاتِ لفظِه، فيُجعَلُ كالمُصَرَّحِ به [185] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/134). .
2- لو قال: أنتِ طالقٌ واحِدةً، ونَوى ثَلاثًا، لم يَقَعْ إلَّا واحِدةٌ؛ لأنَّ لفظَه لا يَحتَمِلُ أكثَرَ مِنها، فإذا نَوى ثَلاثًا فقد نَوى ما لا يَحتَمِلُه لفظُه، فلو وقَعَ أكثَرُ مِن ذلك لوقَعَ بمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، ومُجَرَّدُ النِّيَّةِ لا يَقَعُ بها طَلاقٌ [186] يُنظر:((المغني)) لابن قدامة (7/843). .
3- لو قال: إن لَبِستِ ثَوبًا أو أكَلتِ طَعامًا أو شَرِبتِ شَرابًا أو كَلَّمتِ امرَأةً، فأنتِ طالقٌ، ونَوى ثَوبًا أو طَعامًا أو شَرابًا أوِ امرَأةً مُعَيَّنًا، قُبِلَت نيَّتُه [187] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/ 565). .

انظر أيضا: