موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّامنَ عَشَرَ: مَبنى الأيمانِ على النِّيَّةِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "مَبنى الأيمانِ على النِّيَّةِ" [171] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/196). ، وتُعرَفُ أيضًا بـ "اعتِبار النِّيَّةِ والقَصدِ في اليَمينِ تعميمًا وتَخصيصًا وإطلاقًا وتَقييدًا" [172] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/94). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
إذا حَلَف المُكَلَّفُ ونَوى بيَمينِه ما يَحتَمِلُه اللَّفظُ، تَعَلَّقَت يَمينُه بما نَواه، دونَ ما لَفَظَ به، سَواءٌ كان ما نَواه موافِقًا لظاهرِ اللَّفظِ أو مُخالفًا له؛ فالموافِقُ للظَّاهرِ هو أن يَنويَ باللَّفظِ مَوضوعَه الأصليَّ، مِثلُ أن يَنويَ باللَّفظِ العامِّ العُمومَ، والمُخالِفُ للظَّاهرِ يَتَنَوَّعُ أنواعًا:
أحَدُها: أن يَنويَ بالعامِّ الخاصَّ، مِثلُ: أن يَحلِفَ لا يَأكُلُ لحمًا ولا فاكِهةً، ويُريدَ لحمًا بعَينِه أو فاكِهةً بعَينِها، ومِثلُ: أن يَحلِفَ ألَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا، ويُريدَ رَجُلًا بعَينِه، أو لا يَتَغَدَّى يُريدُ غَداءً بعَينِه، فتَختَصُّ يَمينُه بذلك.
والثَّاني: أن يَنويَ بالخاصِّ العامَّ، مِثلُ: أن يَحلِفَ لا أشرَبُ له الماءَ مِنَ العَطَشِ، يُريدُ قَطعَ المِنَّةِ، فإنَّه يَحنَثُ بأكلِ خُبزِه، أوِ استِعارةِ سَيَّارَتِه، وكُلِّ ما فيه مِنَّةٌ، لا بأقَلَّ، كَقُعودِه تَحتَ ضَوءِ مَنزِله؛ فإنَّه شائِعٌ في الكَلامِ التَّنبيهُ بالأدنى على ما فوقَه، وبالأعلى على ما دونَه، فإذا نُبِّهَ بشُربِ الماءِ في حالِ العَطَشِ على اجتِنابِ كُلِّ نَفعٍ يَصِلُ إليه مِنه، ويَمتَنُّ به عليه، كان صحيحًا، فإن لم يَكُنْ له نيَّةٌ رَجَعَ إلى سَبَبِ اليَمينِ وما هَيَّجَها؛ لأنَّه دالٌّ على النِّيَّةِ.
وأمَّا ما لا يَحتَمِلُه اللَّفظُ أصلًا كَما لو حَلَف ألَّا يَأكُلَ خُبزًا وقال: أرَدتُ أن لا أدخُلَ بَيتًا، فلا أثَرَ له ولا يُقبَلُ مِنه [173] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/196)، ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 514،513)، ((الشرح الكبير على متن المقنع)) لشمس الدين ابن قدامة (11/268)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/94)، ((نيل المآرب بشرح دليل الطالب)) لابن أبي تغلب (2/427)، ((الفوائد المنتخبات)) لابن جامع (4/1022، 1023). .
وهذه القاعِدةُ الفرعيَّةُ أخَصُّ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الأُمورُ بمَقاصِدِها) التي تَذكُرُ بعُمومِها أنَّ جَميعَ الأُمورِ مُعتَبَرةٌ بالنِّيَّةِ والمَقصَدِ، ومِن ذلك الأيمانُ، فتُحملُ الألفاظُ على مَقصَدِ صاحِبِ اليَمينِ ونيَّتِه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
حَديثُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى)) [174] لفظُه: عن عَلقَمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيثيِّ يَقولُ: سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه على المِنبَرِ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى، فمَن كانت هجرَتُه إلى دُنيا يُصيبُها، أو إلى امرَأةٍ يَنكِحُها، فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليهـ)). أخرجه البخاري (1) واللَّفظُ له، ومسلم (1917). ، وقد سَبَقَ في قاعِدة (الأُمورُ بمَقاصِدِها).
2- مِنَ المَعقولِ:
أنَّ كَلامَ الشَّارِعِ يُصرَفُ إلى ما دَلَّ الدَّليلُ على أنَّه أرادَه دونَ ظاهِرِ اللَّفظِ، فكَلامُ المُتَكَلِّمِ مَعَ اطِّلاعِه على تَعَيُّنِ إرادَتِه أَولى [175] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/196)، ((الفوائد المنتخبات)) لابن جامع (4/1022، 1023). .
كَما أنَّ الشَّارِعَ قد يَنُصُّ على الحُكمِ في صورةٍ خاصَّةٍ لمَعنًى، فيَثبُتُ الحُكمُ في كُلِّ ما وُجِدَ فيه المَعنى، ولا يَقِفُ على لفظِه، كتنصيصِه على تَحريمِ الرِّبا في الأعيانِ السِّتَّةِ، فثَبَتَ التَّحريمُ فيما وُجِدَ فيه مَعناها كذلك في كَلامِ الآدَميِّ [176] يُنظر: ((العدة شرح العمدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 514). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ [177] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/197)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/450). :
1- مَن حَلَف على امرَأتِه فقال: واللهِ لا عُدتُ رَأيتُكِ تَدخُلينَ دارَ فُلانٍ، يَنوي مَنعَها مِن ذلك عُمومًا، فدَخَلَتها، حَنِثَ ولو لم يَرَها؛ لمُخالفتِها نيَّتَه. وإن لم يُرِدْ ذلك لم يَحنَثْ حتَّى يَراها تَدخُلُ اتِّباعًا للَفظِه [178] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/196)، ((نيل المآرب بشرح دليل الطالب)) لابن أبي تغلب (2/427). .
2- رَجُلٌ حَلَف فقال: واللهِ لا ألبَسُ ثَوبًا، ونَوى ثَوبًا مِن قُماشِ الكَتَّانِ، حَنِثَ به وحدَه، فالنِّيَّةُ هنا خَصَّصَت اللَّفظَ العامَّ [179] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/ 37)، ((الحواشي السابغات)) لأحمد القعيمي (ص: 749). .

انظر أيضا: