المَطلبُ السَّادسَ عَشَرَ: النِّيَّةُ لا تَصِحُّ مَعَ التَّرَدُّدِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "النِّيَّةُ لا تَصِحُّ مَعَ التَّرَدُّدِ"
[157] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/226). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بــ "ما يَجِبُ فيه التَّعيينُ يَقدَحُ فيه تَرَدُّدُ النِّيَّةِ"
[158] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/295). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِمِن شُروطِ صِحَّةِ النِّيَّةِ الجَزمُ بالمَنويِّ، فلو تَرَدَّدَ في النِّيَّةِ لا تَصِحُّ نيَّتُه، ولا يُشتَرَطُ في الجَزمِ حُصولُ القَطعِ؛ بَل يَكفي ظَنٌّ غالبٌ؛ ومِن ثَمَّ قيل: النِّيَّةُ إذا اعتَضَدَت بأصلٍ لا يَضُرُّها التَّرَدُّدُ، ومُثِّل له بنيَّةِ الحائِضِ صَومَ الغَدِ اعتِمادًا على جَرَيانِ عادَتِها بانقِطاعِ حَيضِها قَبلَ الفَجرِ، وكَنيَّةِ الصَّومِ في ليلةِ الرُّؤيةِ في آخِرِ رَمَضانَ إن كان الغَدُ مِن رَمَضانَ؛ لبَقاءِ الأصلِ
[159] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/63). ، وأمَّا ما لا يَجِبُ فيه التَّعيينُ فلا يَقدَحُ فيه التَّرَدُّدُ، كَما لو قال: هذه عن مالي الغائِبِ، فإن كان تالفًا فعنِ الحاضِرِ، فإن كان الغائِبُ سالِمًا وقَعَ عنه، وإلَّا عنِ الحاضِرِ؛ لأنَّه قد جَزَمَ بكَونِها زَكاةَ مالِه، والتَّرَدُّدُ في أنَّها عن أيِّ المالَينِ لا يَضُرُّ، وتَعيينُ المالِ ليسَ بشَرطٍ
[160] يُنظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 80)، ((المنثور)) للزركشي (3/292، 296)، ((القواعد)) لابن رجب (ص: 121،120)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/221)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 40)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 44). .
وهذه القاعِدةُ الفرعيَّةُ أخَصُّ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ (الأُمورُ بمَقاصِدِها)، والتي دَلَّت بعُمومِها على أنَّ الأعمالَ مُعتَبَرةٌ بالنِّيَّةِ والقَصدِ، أمَّا هذه القاعِدةُ الفرعيَّةُ فقد دَلَّت على أنَّ هذه النِّيَّةَ لا تَصِحُّ مَعَ حالةِ الشَّكِّ والتَّرَدُّدِ فيها.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِدَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:حَديثُ:
((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى)) [161] لفظُه: عن عَلقَمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيثيِّ يَقولُ: سَمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه على المِنبَرِ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوى، فمَن كانت هجرَتُه إلى دُنيا يُصيبُها، أو إلى امرَأةٍ يَنكِحُها، فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليهـ)). أخرجه البخاري (1) واللَّفظُ له، ومسلم (1917). ، وقد سَبَقَ في قاعِدةِ (الأعمالُ بمَقاصِدِها).
2- مِنَ المَعقولِ: فالنِّيَّةُ المُتَرَدِّدةُ لا تَكونُ نيَّةً حَقيقةً؛ لأنَّ النِّيَّةَ تَعيينٌ للعَمَلِ، والتَّرَدُّدُ يَمنَعُ التَّعيينَ
[162] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/78). .
كَما أنَّ النِّيَّةَ في اللُّغةِ العَزمُ، والعَزمُ هو الإرادةُ الجازِمةُ القاطِعةُ، والتَّرَدُّدُ يُنافي ذلك
[163] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (1/266). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِمِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو شَكَّ في الحَدَثِ بَعدَ يَقينِ الطَّهارةِ فتَوضَّأ احتياطًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ الحَدَثُ، أعاد على الصَّحيحِ؛ لكَونِه تَوضَّأ مُتَرَدِّدًا
[164] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/63،62)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 40). .
2- إذا تَرَدَّدَ في أنَّه نَوى القَصرَ أو لا؟ وهَل يُتِمُّ أو لا؟ لم يَقصُرْ؛ لوُقوعِ التَّرَدُّدِ في النِّيَّةِ
[165] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 40). .
خامِسًا: مُكمِلاتُ القاعِدةِاستِثناءٌ:يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ ما يَلي:
لوِ اشتَبَهَ عليه ماءٌ طَبيعيٌّ بماءِ وَردٍ: لا يَجتَهِدُ، بَل يَتَوضَّأُ بكُلٍّ مَرَّةً، ويُغتَفرُ التَّرَدُّدُ في النِّيَّةِ للضَّرورةِ
[166] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 41). .