موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّالثَ عَشَرَ: الصَّرائِحُ لا تَحتاجُ إلى نيَّةِ الإيقاعِ، لكِن تَحتاجُ إلى قَصدِ التَّلفُّظِ بها


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الصَّرائِحُ لا تَحتاجُ إلى نيَّةِ الإيقاعِ، لكِن تَحتاجُ إلى قَصدِ التَّلفُّظِ بها" [134] يُنظر: ((المذهب في قواعد المذهب)) للعلائي (1/292). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بـ "الصَّريحُ لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ، والكِنايةُ تَحتاجُ" [135] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/78)، ((المنثور)) للزركشي (2/310)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 21). ، وصيغةِ: "الصَّريحُ لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ، والكِنايةُ لا تَلزَمُ إلَّا بنيَّةٍ" [136] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 293). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الألفاظُ التي يَستَعمِلُها الإنسانُ في حَديثِه؛ مِنها ما يَدُلُّ على المَعنى ولا يَحتَمِلُ غَيرَه وهو الصَّريحُ، ومِنها الكِنائيُّ المُتَرَدِّدُ بَينَ أكثَرَ مِن مَعنًى، فإذا استَعمَل إنسانٌ اللَّفظَ الصَّريحَ فإنَّه لا يُسألُ حينَئِذٍ عن نيَّتِه وما يَقصِدُه بهذا اللَّفظِ، بَل يُبحَثُ فقَط: هَل قَصَدَ النُّطقَ باللَّفظِ أو لا؛ لأنَّ اللَّفظَ الصَّريحَ لا يَفتَقِرُ إلى النِّيَّةِ؛ لأنَّ اللَّفظَ مَوضوعٌ له، فاستَغنى عنِ النِّيَّةِ، لكِنَّه يَحتاجُ إلى قَصدِ التَّلفُّظِ ليَخرُجَ مِن ذلك: سَبقُ لسانِه إلى النُّطقِ بشَيءٍ دونَ قَصدٍ له، أمَّا اللَّفظُ الكِنائيُّ فإنَّه يَفتَقِرُ إلى النِّيَّةِ لتَرجيحِ أحَدِ مَعانيه لكَونِه مُتَرَدِّدًا بَينَ أكثَرَ مِن مَعنًى فافتَقَرَ إلى النِّيَّةِ أو ما يَقومُ مَقامَها مِن دَلالةِ الحالِ ليَزولَ ما فيها مِنِ استِتارِ المُرادِ، أمَّا الصَّريحُ فلا يَحتاجُ إلى نيَّةِ الإيقاعِ [137] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/178)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/78)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/234)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 293)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 21). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ.
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عبدِ اللهِ بنِ كَعبِ بنِ مالكٍ، قال: سَمِعتُ كَعبَ بنَ مالكٍ -وساق قِصَّتَه في تَبوكَ، حتَّى قال-: (حتَّى إذا مَضَت أربَعونَ مِنَ الخَمسينَ إذا رَسولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأتيني، فقال: إنَّ رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُك أن تَعتَزِلَ امرَأتَك، قال: أُطَلِّقُها أم ماذا أفعَلُ بها؟ قال: لا، بَل اعتَزِلْها فلا تَقرَبْها، فقُلتُ لامرَأتي: الحَقي بأهلِك وكوني عِندَهم حتَّى يَقضيَ اللهُ في هذا الأمرِ) [138] أخرجه البخاري (5254). .
- وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ ابنةَ الجونِ لمَّا أُدخِلَت على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودَنا مِنها، قالت: أعوذُ باللهِ مِنك، فقال لها: ((لقد عُذتِ بعَظيمٍ، الحَقي بأهلِك)) [139] أخرجه البخاري (5254). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّ العِبارةَ واحِدةٌ، وهيَ: الحَقي بأهلِك، وقد وقَعَ بها الطَّلاقُ في حَديثِ عائِشةَ دونَ حَديثِ كَعبٍ؛ فدَلَّ على أنَّ هذه اللَّفظةَ مُفتَقِرةٌ إلى النِّيَّةِ، ولا يُقضى فيها إلَّا بما يَنوي اللَّافِظُ بها؛ لاحتِمالها، فكذلك سائِرُ الكِناياتِ [140] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/245)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (6/24،23). .
- وعن عبدِاللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه طَلَّقَ امرَأتَه وهيَ حائِضٌ، في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَأل عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مُرْه فليُراجِعْها، ثُمَّ ليَترُكْها حتَّى تَطهُرَ، ثُمَّ تَحيضَ، ثُمَّ تَطهُرَ، ثُمَّ إن شاءَ أمسَكَ بَعدُ، وإن شاءَ طَلَّقَ قَبلَ أن يَمَسَّ؛ فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أن يُطَلَّقَ لها النِّساءُ )) [141] أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَه أن يُراجِعَها ولم يَسألْه: هَل نَوى الطَّلاقَ أو لم يَنوِ؟ ولو كانتِ النِّيَّةُ شَرطًا لسَأله، ولا مُراجَعةَ إلَّا بَعدَ وُقوعِ الطَّلاقِ؛ فدَلَّ على وُقوعِ الطَّلاقِ مِن غَيرِ نيَّةٍ، فاللَّفظُ الصَّريحُ لا يُنظَرُ فيه إلى النِّيَّةِ [142] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/101). .
2- مِنَ المَعقولِ:
أنَّ الصَّريحَ قد وُضِعَ له اللَّفظُ، فلم يَحتَمِلْ غَيرَه، فاستَغنى عنِ النِّيَّةِ لوُضوحِه في مَعناه، وعَدَمِ افتِقارِه إلى ما يُمَيِّزُه، بخِلافِ الكِنايةِ [143] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/310). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
لو نَطَقَ بالطَّلاقِ هازِلًا وقَعَ طَلاقُه وإن لم يَنوِه؛ لأنَّه قَصَدَ مَعنى اللَّفظِ بحُروفِه، ولم يَقصِدْ إيقاعَه، واللَّفظُ صَريحٌ، فلا يَحتاجُ إلى نيَّةِ الإيقاعِ، بخِلافِ ما لو كان يَحُلُّ زَوجَتَه مِن وِثاقٍ، فقال لها: أنتِ طالِقٌ، ويَقصِدُ مِن وِثاقٍ، فإنَّه يُقبَلُ مِنه؛ لأنَّ القَرينةَ توجِبُه، وهو لم يَقصِدْ مَعنى اللَّفظِ بحُروفِه [144] يُنظر: ((المذهب في قواعد المذهب)) للعلائي (1/293،292)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 294)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (3/251). .
خامِسًا: مُكَمِلاتُ القاعِدةِ
استِثناءٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ:
لو قَصَدَ المُكرَهُ إيقاعَ الطَّلاقِ ففيه عِندَ الشَّافِعيَّةِ وجهانِ؛ أحَدُهما: لا يَقَعُ؛ لأنَّ اللَّفظَ ساقِطٌ بالإكراهِ، والنِّيَّةُ لا تَعمَلُ وَحدَها، والأصَحُّ عِندَهم: أنَّه يَقَعُ؛ لقَصدِه بلفظِه، وعلى هذا فصَريحُ لَفظِ الطَّلاقِ عِندَ الإكراهِ كِنايةٌ، إن نَوى وقَعَ، وإلَّا فلا [145] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 294،293). .

انظر أيضا: