موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني عَشَرَ: التُّروكُ لا تَفتَقِرُ إلى نيَّةٍ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ: "تَركُ المَنهيِّ عنه لا يَحتاجُ إلى نيَّةٍ للخُروجِ عن عُهدةِ النَّهيِ" [126] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 22). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
أمَرَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ بفِعلِ أشياءَ ومَنعَنا عن فِعلِ أشياءَ، فامتِثالُ الأمرِ يَكونُ بفِعلِ ما أمَرَه اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، أمَّا بالنِّسبةِ لِما مَنَعنا اللهُ عن فِعلِه فمُجَرَّدُ تَركِه كافٍ في عَدَمِ العِقابِ، فتارِكُ الزِّنا والسَّرِقةِ والغَصبِ ونَحوِها بدونِ نيَّةٍ قد خَرَجَ عن عُهدةِ النَّهيِ بمُجَرَّدِ التَّركِ، وإن لم يَنوِ تَركَ ذلك؛ لحُصولِ المَقصودِ مِنها، وهو اجتِنابُ المَنهيِّ بكَونِه لم يوجَدْ، وإنَّما يَحتاجُ للنِّيَّةِ لحُصولِ الثَّوابِ، فلا يَحصُلُ الثَّوابُ على مُجَرَّدِ التَّركِ إلَّا إذا نَوى به الامتِثالَ [127] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (1/309)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/60)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (1/22)، ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 125)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/220)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 22)، ((فيض القدير)) للمناوي (1/30). .
وقد دَلَّتِ القاعِدةُ الأُمُّ (الأُمورُ بمَقاصِدِها) على أنَّ الأفعالَ تَفتَقِرُ إلى النِّيَّةِ والمَقصَدِ، ولم تَذكُرْ حُكمَ التَّركِ صَراحةً، فنَصَّت هذه القاعِدةُ الفرعيَّةُ على أنَّ التَّركَ لا يَحتاجُ إلى النِّيَّةِ خِلافًا للفِعلِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والمَعقولُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أردَف الفَضلَ بنَ عبَّاسٍ، وكان رَجُلًا حَسَنَ الشَّعرِ، أبيَضَ وسيمًا، فلمَّا دَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّت به ظُعنٌ [128] قال ابنُ الأثيرِ: (الظُّعنُ: النِّساءُ، واحِدَتُها: ظَعينةٌ. وأصلُ الظَّعينةِ: الرَّاحِلةُ التي يُرحَلُ ويُظعَنُ عليها: أي: يُسارُ). ((النهاية)) (3/157). يَجرينَ، فطَفِقَ الفَضلُ يَنظُرُ إليهنَّ، فوضع رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه على وَجهِ الفَضلِ، فحَوَّل الفَضلُ وَجهَه إلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، فحَوَّل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ على وَجهِ الفَضلِ، يَصرِفُ وَجهَه مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ [129] أخرجه مسلم (1218). !
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَرَف بَصَرَه عنِ النِّساءِ أو صَرَف بَصَرَهنَّ عنه بتَغطيةِ وَجهِه، فعلى التَّأويلينِ يُفيدُ أنَّ مُجَرَّدَ تَركِ النَّظَرِ كافٍ في الخُروجِ عنِ العُهدةِ بلا نيَّةٍ، وإلَّا لم يَكُنْ لفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فائِدةٌ [130] يُنظر: ((معلمة زايد)) (6/234). .
2- مِنَ المَعقولِ:
أنَّ مَناطَ الوعيدِ بالعِقابِ في النَّهيِ هو فِعلُ المَنهيِّ عنه، فمُجَرَّدُ تَركِه كافٍ في انتِفاءِ الوعيدِ؛ لحُصولِ المَقصودِ مِنها، وهو اجتِنابُ المَنهيِّ بكَونِه لم يوجَدْ [131] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/94). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- تارِكُ الزِّنا الذي لم يَنوِ بتَركِه امتِثالَ الأمرِ فإنَّ مُجَرَّدَ تَركِه يَكفي في إسقاطِ العِقابِ؛ لأنَّ التَّركَ لا يَحتاجُ إلى النِّيَّةِ للخُروجِ مِن عُهدَتِه [132] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (1/22)، ((الفتح المبين بشرح الأربعين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 125)، ((فيض القدير)) للمناوي (1/30). .
2- لو زالتِ النَّجاسةُ مِنَ الثَّـوبِ أوِ البَدَنِ أوِ البُقعةِ بالمَطَرِ النَّازِلِ مِنَ السَّماءِ حَصَل المَقصودُ، وهو تَطهيرُ المَحَلِّ؛ لأنَّ النَّجاسةَ مِن بابِ التُّروكِ، وهيَ لا تَفتَقِرُ إلى قَصدٍ مِنَ المُكَلَّفِ [133] يُنظر: ((فتح العزيز بشرح الوجيز)) للرافعي (1/ 311)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/ 477). .

انظر أيضا: