موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّامِنُ: دَليلُ الشَّيءِ في الأُمورِ الباطِنةِ يَقومُ مَقامَه


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: (دَليلُ الشَّيءِ في الأُمورِ الباطِنةِ يَقومُ مَقامَهـ) [89] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (4/356)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 345). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الأُمورُ الباطِنةُ التي لا يُمكِنُ الاطِّلاعُ عليها -كالرِّضا والقَبولِ في البَيعِ ونَحوِه- يَقومُ دَليلُها مِن عَلامةٍ ونَحوِها مَقامَها، ويُحالُ الحُكمُ عليه لتَعَسُّرِ الاطِّلاعِ على البَواطِنِ، فيُجعَلُ وُجودُ الدَّليلِ بمَثابةِ وُجودِ الأمرِ الباطِنِ، فالعَمدُ في القَتلِ لا يُمكِنُ الاطِّلاعُ عليه، فجُعِل دَليلُه -وهو استِعمالُ الآلةِ الجارِحةِ- قائِمًا مَقامَه، وكَذا الرِّضا في البَيعِ أقُيمَتِ الصِّيغةُ مَقامَه، وكَدُعاءِ النَّاسِ إلى الطَّعامِ، وتَقديمِه بَينَ أيديهم، يَجري مَجرى الإذنِ في أكلِه [90] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/249)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 345)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/576). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ على هذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، ومِن ذلك:
عن أُمِّ سَلَمةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمِعَ خُصومةً ببابِ حُجرَتِه، فخَرَجَ إليهم، فقال: ((إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّه يَأتيني الخَصمُ، فلعَلَّ بَعضَكُم أن يَكونَ أبلَغَ مِن بَعضٍ، فأحسَبُ أنَّه صادِقٌ، فأقضي له بذلك، فمَن قَضَيتُ له بحَقِّ مُسلمٍ فإنَّما هيَ قِطعةٌ مِنَ النَّارِ، فليَأخُذْها، أو ليَترُكْها )) [91] أخرجه البخاري (7181) واللفظ له، ومسلم (1713). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مَعرِفةَ الظَّالمِ مِنَ المُتَخاصِمَينِ أمرٌ باطِنٌ لا اطِّلاعَ عليه، فأُقيمَ الظَّاهرُ مَقامَه، وهو ما يَسمَعُه مِنَ المُتَداعيَينِ مِن قَولٍ، وما يُثبتانِه مِن أدِلَّةٍ [92] يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/1226)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (11/26). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إقامةُ الخَلوةِ الصَّحيحةِ عِندَ عَدَمِ المانِعِ مَقامَ الوطءِ في إلزامِ الزَّوجِ بالمَهرِ كامِلًا؛ لكَونِ الوَطءِ خَفيًّا لا يُمكِنُ الاطِّلاعُ عليه، فأُقيمَ دَليلُه -وهو الخَلوةُ الصَّحيحةُ- مَقامَه [93] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/293)، ((الذخيرة)) للقرافي (4/375)، ((الوجيز)) للرافعي (9/476)، ((كشف المخدرات)) للخلوتي (2/662). .
2- التَّوقُّفُ في القِصاصِ على مَعرِفةِ قَصدِ القاتِلِ للقَتلِ؛ فإذا استَخدَمَ الآلةَ المُفرِّقةَ للأجزاءِ كالسِّكِّينِ، فإنَّها تُقامُ مَقامَ قَصدِ القَتلِ؛ لأنَّ هذا القَصدَ مِمَّا لا يوقَفُ عليه، وأُقيمَتِ الآلةُ دَليلًا، ودَليلُ الشَّيءِ في الأُمورِ الباطِنةِ يُقامُ مَقامَه [94] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 22)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/ 90)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 53). .
3- إذا أوجَبَ أحَدُ الفريقَينِ البَيعَ وقَبلَ أن يَقبَلَ الآخَرُ ظَهَرَ مِنه قَولٌ أو فِعلٌ يَدُلُّ على الإعراضِ، يَبطُلُ الإيجابُ؛ فالإعراضُ هنا هو مِنَ الأُمورِ الباطِنةِ، ولا يُمكِنُ الاطِّلاعُ على إعراضِ إنسانٍ عن شَيءٍ إلَّا بما يُظهِرُه مِنَ الأفعالِ [95] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/ 68). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءٌ:
لو أدخَلتِ المَرأةُ حَلَمةَ ثَديِها في فمِ الرَّضيعِ ولم يُدرَ أدخَل اللَّبَنُ في حَلقِه أم لا؟ فإنَّه لا يَحرُمُ النِّكاحُ، مَعَ أنَّ إدخالَ اللَّبَنِ أمرٌ باطِنٌ، لكِن لم يَقُمِ التِقامُ الثَّديِ -الذي هو مَظِنَّتُه- مَقامَه؛ لأنَّ المانِعَ مِنَ النِّكاحِ وهو الرَّضاعُ، فيه شَكٌّ [96] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/75)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (3/212)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 347). .

انظر أيضا: