موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّابعُ: ما نُويَ به النَّفلُ لا يَتَأدَّى به الفَرضُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "ما نُويَ به النَّفلُ لا يَتَأدَّى به الفَرضُ" [80] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/225). ، ويُعَبَّرُ عنها أيضًا بــ "الفَرض لا يَتَأتَّى بنِيَّةِ النَّفلِ" [81] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/153). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
يَلزَمُ المُكَلَّفَ الإتيانُ بالفَرضِ، ويَأثَمُ بتَركِه، وأمَّا النَّفلُ فبخِلافِ ذلك، فلو نَوى شَخصٌ نَفلًا مِن صَلاةٍ ونَحوِها لا يُمكِنُه قَلبُها إلى فرضٍ؛ لأنَّ الفَرضَ أقوى ولا يُمكِنُ الانتِقالُ مِنَ الأضعَفِ إلى الأقوى، فإذا شَرَعَ في نافِلةٍ وتَذَكَّرَ أنَّ عليه فريضةً لا يُمكِنُه تَغييرُ النِّيَّةِ إلى الفريضةِ، كَما لا تَسقُطُ الفريضةُ بفِعلِ النَّافِلةِ؛ لأنَّ مَن نَوى شَيئًا لم يَحصُلْ له غَيرُه، ومَن لم يَنوِ شَيئًا لم يَحصُلْ، وهذه قاعِدةٌ مُطَّرِدةٌ [82] يُنظر: ((البيان)) للعمراني (2/229)، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (1/133)، ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/269)، ((المهمات)) للإسنوي (3/216)، ((المنثور)) للزركشي (3/305)، ((التوضيح)) لابن الملقن (2/189،188)، ((القواعد)) للحصني (1/224). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
دَلَّ على هذه القاعِدةِ الأدِلَّةُ المَذكورةُ في قاعِدةِ (الأُمورُ بمَقاصِدِها).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- لو نَوى بوُضوئِه التَّجديدَ سَهوًا، وهو يَظُنُّ الطَّهارةَ، ثُمَّ بانَ له أنَّه كان مُحدِثًا، فإنَّه لا يُجزِئُه وضوؤه؛ لأنَّه لم يَنوِ رَفعَ حَدَثٍ أصلًا، ولا استَنَدَ إلى استِصحابٍ صَحيحٍ [83] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/154)، ((القواعد)) للحصني (1/228). .
2- لو تَرَكَ سَجدةً في الصَّلاةِ، ثُمَّ سَجَدَ للتِّلاوةِ، فهذا السُّجودُ لا يَقومُ مَقامَ سُجودِ الفرضِ؛ لاعتِقادِه أنَّه تَطَوُّعٌ [84] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/305)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 46). .
3- إذا عَطَسَ المُصَلِّي في الصَّلاةِ وقال: الحَمدُ للَّهِ، وبَنى عليها الفاتِحةَ، فلا يُعتَدُّ بذلك؛ لأنَّه لم يَنوِ بها قِراءةَ فَرضِ الفاتِحةِ [85] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/305)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 46). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ عِدَّةُ فُروعٍ؛ مِنها:
لو أحرَمَ بنَفلِ الحَجِّ أوِ العُمرةِ، وعليه الفرضُ، انصَرَفَ إلى الفَرضِ [86] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/307)، ((شرح العمدة)) لابن تيمية (1/299)، ((القواعد)) للحصني (1/225)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 46). وعَلَّل العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ ذلك، فقال: (النَّاسِكُ لا يَخرُجُ مَن نُسُكِه بأقوى المُفسِداتِ، وهو الجِماعُ، فكذلك لم تُؤَثِّرْ فيه قَواعِدُ النِّيَّاتِ، فجازَ أن يَنويَ إحرامًا كإحرامِ غَيرِه، وجاز أن يُبهِمَ إحرامَه ثُمَّ يَصرِفَه إلى أحَدِ النُّسُكَينِ أو إليهما، وجازَ أن يَنويَ النَّفلَ فيَقَعَ عنِ الفرضِ، أو يَنويَ الحَجَّ عن غَيرِه فيَقَعَ عن نَفسِه، ولو أبطَله الشَّرعُ بمِثلِ ذلك لعَظُمَتِ المَشَقَّةُ في قَضائِه، بخِلافِ الصَّلاةِ والصِّيامِ). ((قواعد الأحكام)) (1/215). وخالف في ذلك أبو حَنيفةَ وأبو يوسُفَ فقالا: يَقَعُ بحَسَبِ ما نوى. يُنظر: ((منحة الخالق)) لابن عابدين (2/346). .
فائِدةٌ
مَحَلُّ عَدَمِ قيامِ النَّفلِ مَقامَ الفَرضِ إنَّما هو في الدُّنيا، لكِن في الآخِرةِ يَقومُ النَّفلُ مَقامَ الفَرضِ ويُحسَبُ عنه إذا تَرَكَ الفَرضَ ساهيًا، فتُكمَلُ الزَّكاةُ مِن صَدَقةِ التَّطَوُّعِ، وكذلك الصَّلاةُ وبَقيَّةُ الفرائِضِ [87] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/309). ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أوَّلُ ما يُحاسَبُ به العَبدُ يَومَ القيامةِ صَلاتُه، فإن أتَمَّها كُتِبَت له تامَّةً، وإن لم يَكُنْ أتَمَّهَا قال: انظُروا تَجِدونَ لعَبدي مِن تَطَوُّعٍ، فأكمِلوا ما ضَيَّعَ مِن فريضَتِه، ثُمَّ الزَّكاةُ، ثُمَّ تُؤخَذُ الأعمالُ على حَسَبِ ذلك )) [88] أخرجه أحمد (20692) واللفظ له، وابن أبي شيبة (37160)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (7310) من حديثِ رَجُلٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. صَحَّحه الوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1478)، وصَحَّحَ إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (20692). وأخرجه مِن طُرُقٍ: أبو داود (864)، وابن ماجه (1425)، وأحمد (9494) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داودَ: عن أنَسِ بنِ حَكيمٍ الضَّبِّيِّ، قال: خاف مِن زيادٍ أوِ ابنِ زيادٍ، فأتى المَدينةَ فلقيَ أبا هرَيرةَ، قال: فنسبني فانتَسَبتُ له، فقال: يا فتى، ألَا أُحَدِّثُك حَديثًا؟ قال: قُلتُ: بَلى رَحِمَك اللهُ، قال يونُسُ: وأحسَبُه ذَكَرَه عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، قال: ((إنَّ أوَّلَ ما يُحاسَبُ النَّاسُ به يَومَ القيامةِ مِن أعمالهمُ الصَّلاةُ، قال: يَقولُ رَبُّنا عزَّ وجَلَّ لمَلائِكَتِه -وهو أعلمُ- انظُروا في صَلاةِ عَبدي أتَمَّها أم نَقَصَها، فإن كانت تامَّةً كُتِبَت له تامَّةً، وإن كان انتَقَصَ مِنها شَيئًا قال: انظُروا هَل لعَبدي مِن تَطَوُّعٍ؟ فإن كان له تَطَوُّعُ قال: أتِمُّوا لعَبدي فريضَتَه مِن تَطَوُّعِه، ثُمَّ تُؤخَذُ الأعمالُ على ذاكُم)). صَحَّحه بطُرُقِه وشَواهدِه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9494)، وحَسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (2/529). [في المُتَخَصِّصِ] صَحَّحَ إسنادَه الحاكِم في ((المستدرك)) (981). وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ: الترمذي (413)، والنسائي (465) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذي: عن حريثِ بنِ قبيصةَ، قال: قَدِمَتِ المَدينةَ فقُلتُ: اللهُمَّ يَسِّرْ لي جَليسًا صالحًا، قال: فجَلَستُ إلى أبي هرَيرةَ فقَلتُ: إنِّي سَألتُ اللَّهَ أن يَرزُقَني جَليسًا صالحًا، فحَدِّثْني بحَديثٍ سَمِعتَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَلَّ اللَّهَ أن يَنفَعَني به، فقال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ أوَّلَ ما يُحاسَبُ به العَبدُ يَومَ القيامةِ مِن عَمَلِه صَلاتُه، فإن صَلحَت فقد أفلَح وأنجَحَ، وإن فسَدَت فقد خابَ وخَسِرَ، فإنِ انتَقَصَ مِن فريضَتِه شَيءٌ قال الرَّبَّ عَزَّ وجَلَّ: انظُروا هَل لعَبدي مِن تَطَوُّعٍ؟ فيُكمِلُ بها ما انتَقَصَ مِنَ الفريضةِ، ثُمَّ يَكونُ سائِرُ عَمَلِه على ذلك)). صَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((هداية الرواة)) (1280)، وصَحَّحه بشَواهدِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((العواصم والقواصم)) (9/132)، وذَكَرَ ثُبوتَه ابنُ العِراقيِّ في ((طرح التثريب)) (3/34). [في المُتَخَصِّصِ] قال النَّوويُّ في ((المجموع)) (4/55): إسنادُه صحيحٌ بمَعناه، وقال الشَّوكانيُّ في ((نيل الأوطار)) (1/374) إسنادُ النَّسائيِّ جَيِّدٌ. .

انظر أيضا: