موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ العاشِرُ: للأميرِ وِلايةُ النَّظَرِ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "للأميرِ وِلايةُ النَّظَرِ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه" [6743] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 217). ، وصيغةِ: "الحاكِمُ نُصِبَ ناظِرًا وحافِظًا على حُقوقِ العِبادِ العاجِزينَ عَن مُحافَظةِ حُقوقِهم والنَّظَرِ في شُؤونِهم" [6744] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/162). ، وصيغةِ: "القاضي مَأمورٌ بالنَّظَرِ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه" [6745] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/197)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/346). ، وصيغةِ: "القاضي نُصِبَ ناظِرًا لكُلِّ عاجِزٍ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه" [6746] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (2/423)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/360)، ((درر الحكام)) لملا خسرو (2/128). ، وصيغةِ: "القاضي نُصِبَ ناظِرًا لحُقوقِ المُسلِمينَ إذا عَجَزوا عَنِ النَّظَرِ لأنفُسِهم" [6747] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/438)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/93)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/320). ، وصيغةِ: "القاضي نُصِبَ ناظِرًا للمُسلِمينَ لا مُبطِلًا لحُقوقِهم" [6748] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (9/392). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
اشتَهَرَ استِعمالُ هذه القاعِدةِ عِندَ الحَنَفيَّةِ، وهيَ تُفيدُ أنَّ الإمامَ الأعظَمَ، أو وليَّه، أوِ القاضيَ، إنَّما نُصِبَ ناظِرًا لحُقوقِ المُسلِمينَ إذا عَجَزوا عَنِ النَّظَرِ لأنفُسِهم؛ ليَتَحَرَّى المَصلَحةَ لَهم، ولا يَجوزُ له مِنَ التَّصَرُّفِ إلَّا ما فيه المَصلَحةُ، فهو مَأمورٌ بالنَّظَرِ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه بنَفسِه، كالغائِبِ، فإنَّه إذا كان الغائِبُ عاجِزًا عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه نَظَرَ القاضي له؛ لأنَّه نُصِبَ ناظِرًا وحافِظًا على حُقوقِ العِبادِ العاجِزينَ عَن مُحافَظةِ حُقوقِهم، والنَّظَرِ في شُؤونِهم [6749] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/225)، ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (6/1920)، ((الهداية)) للمرغيناني (4/438)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/531)، ((الإسعاف)) للطرابلسي (ص: 55)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/162). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
1- عَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ هندَ بنتَ عُتبةَ قالت: يا رَسولَ الله، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ، وليس يُعطيني ما يَكفيني وولَدي إلَّا ما أخَذتُ مِنه وهو لا يَعلَمُ، فقال: ((خُذي ما يَكفيكِ وولَدَكِ بالمَعروفِ))) [6750] أخرجه البخاري (5364) واللفظ له، ومسلم (1714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى لَها مِن مالِ زَوجِها الغائِبِ بالمَعروفِ، فدَلَّ على أنَّ القاضيَ مَأمورٌ بالنَّظَرِ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه بنَفسِه [6751] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/225)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/531). .
2- عَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ وليِّها فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فإن دَخَلَ بها فلَها المَهرُ بما استَحَلَّ مِن فرجِها، فإنِ اشتَجَروا فالسُّلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له )) [6752] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102) واللفظ له، وابن ماجه (1879) صحَّحه ابنُ معين والإمام أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) ليوسف بن ماجد (2/112)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4074)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2744)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/105)، وابن الجوزي كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد ابن عبد الهادي (4/286)، والقرطبي المفسر في ((التفسير)) (3/464)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/553)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/97)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (3/21)، وقال أبو موسى المديني في ((اللطائف)) (556): ثابتٌ مشهورٌ يُحتَجُّ به. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
ووَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثِ واضِحٌ في أنَّ حُدوثَ شِجارٍ بَينَ الأولياءِ هو في مَعنى وحُكمِ العَجزِ عَنِ النَّظَرِ في مَصلَحةِ الغَيرِ، وعليه فإنَّه يُرجَعُ للسُّلطانِ ليَتَولَّى الأمرَ بالنَّظَرِ في ذلك.
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا كانت للمَفقودِ غَلَّةٌ [6753] غَلَّةُ الشَّيءِ: حاصِلُه أو دَخلُه، كَأُجرةِ الدَّارِ المُستَأجَرةِ، والزِّراعةِ الحاصِلةِ مِن زَرعِ الأرضِ، ونَحوِ ذلك. يُنظر: ((المغرب في ترتيب المعرب)) للمُطَرِّزي (ص: 344)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/504). جَعَلَ القاضي فيها مَن يَحفَظُها؛ لأنَّه ناظِرٌ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه، والمَفقودُ عاجِزٌ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه، فيَنصِبُ القاضي في غَلَّاتِه مَن يَجمَعُها، ويَحفَظُها عليه، وما كان يُخافُ عليه الفَسادُ مِن مَتاعِه فإنَّ القاضيَ يَبيعُه؛ لأنَّ حِفظَ عَينِه عليه مُتَعَذِّرٌ فيَصيرُ إلى حِفظِ ماليَّتِه عليه، وذلك يَكونُ بالبَيعِ، ويُنفِقُ على زَوجَتِه وأولادِه الصِّغارِ أوِ الكِبارِ مِنَ الإناثِ أوِ الزَّمنى مِنَ الذُّكورِ مِن مالِه بالمَعروفِ؛ لأنَّ القاضيَ نُصِبَ ناظِرًا لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه، وقد عَجَزَ المَفقودُ، فصارَ كالصَّبيِّ والمَجنونِ [6754] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/38)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/310)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (1/360). .
2- يَجِبُ على القاضي أن يَصونَ نَفسَه عَنِ القَضاءِ بشَهادةِ الفاسِقِ، فقد أُمِرَ بالتَّثَبُّتِ في خَبَرِ الفاسِقِ، فإنَّما يَسألُ عَنِ الشُّهودِ صيانةً لقَضائِه، ولا يَتَوقَّفُ ذلك على طَلَبِ الخَصمِ، ولَئِن كان ذلك لحَقِّ الخَصمِ فلَيسَ كُلُّ خَصمٍ يُبصِرُ حُجَّتَه، فرُبَّما يَهابُ الخَصمُ الشُّهودَ فلا يُجاهرُ بالطَّعنِ فيهم، والقاضي مَأمورٌ بالنَّظَرِ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه [6755] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/88). .
3- أيُّما قَومٍ شُرَكاءَ اصطَلَحوا على قِسمةِ قاسِمٍ آخَرَ، جازَ بَينَهم بَعدَ أن لا يَكونَ فيهم صَغيرٌ ولا غائِبٌ؛ لأنَّ الحَقَّ لَهم، وهم قادِرونَ على النَّظَرِ لأنفُسِهم، فاصطِلاحُهم على قاسِمٍ آخَرَ مِن جُملةِ النَّظَرِ مِنهم لأنفُسِهم، وإن كان فيهم صَغيرٌ أو غائِبٌ فهم يَحتاجونَ إلى رَأيِ القاضي في ذلك؛ لأنَّ الصَّغيرَ والغائِبَ عاجِزانِ عَنِ النَّظَرِ لأنفُسِهما، والقاضي ناظِرٌ لكُلِّ مَن عَجَزَ عَنِ النَّظَرِ لنَفسِه، فإن أمَرَهم بالقِسمةِ، وفيهم صَغيرٌ أو غائِبٌ فاستَأجَروا قَسَّامًا غَيرَ قاسِمِه بأرخَصَ مِن ذلك بَعدَ أن يَكونَ عَدلًا يَعرِفُه القاضي، جازَ، ويَأمُرُه أن يَقسِمَ بينهم [6756] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (16/103). .

انظر أيضا: